تفاقم عجز الميزان التجاري في تونس وشهد تصاعداً قياسياً أواخر الشهر الماضي، وارتفع بنسبة 23.5 في المئة في أكتوبر (تشرين الأول)، وبلغ 13.3 مليار دينار (4.63 مليار دولار)، مقابل 10.7 مليار دينار (3.72 مليار دولار) في الفترة نفسها من سنة 2020.
ومثل عجز الميزان التجاري الغذائي 12.8 في المئة من مجموع العجز العام بعد أن كان لا يزيد على 5.7 في المئة سنة 2020.
وقد تفاقم عجز الميزان التجاري الغذائي وتضاعف ثلاث مرات وبلغ 1.69 مليار دينار (588 مليون دولار) خلال الأشهر العشرة الأولى من سنة 2021 مقابل 619 مليون دينار (215 مليون دولار) سنة 2020. وسجلت تونس نسبة تغطية بـ67.3 في المئة مقابل 86.7 في المئة سنة 2020. وتراجعت الصادرات الفلاحية بنسبة 13.5 في المئة بينما ارتفعت الواردات بنسبة 11.5 في المئة.
وأثر تزايد توريد الحبوب على الميزان التجاري الغذائي بسبب ارتفاع أسعاره في الأسواق العالمية، علاوة على زيادة الطلب الداخلي بدافع تراجع محاصيل الحبوب بأنواعها في الموسم الماضي في تونس. ودعا مسؤولون تونسيون تحدثوا لـ"اندبندنت عربية" إلى مراجعة السياسة العامة الفلاحية الخاصة بالحبوب للضغط على الواردات وتفادي نزيف العملة الصعبة، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في هذه المادة الحيوية التي يستهلكها التونسيون بكميات كبيرة.
تراجع الإنتاج
وكشف المرصد الوطني الفلاحي (حكومي) أن نسق توريد الحبوب شهد ارتفاعاً بلغ 20 في المئة في الأشهر الماضية من سنة 2021. واعتبر شكري الرزقي عضو المكتب التنفيذي للاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري أن العجز المسجل يعود إلى التعويل على التوريد في الماضي، إضافة إلى المعطيات المناخية.
فقد عانت الزراعات الكبرى المتمثلة في الحبوب بأنواعها من انعكاسات الجفاف لمدة ثلاث سنوات متتالية، ما أدى إلى تراجع الإنتاج إلى 800 ألف طن سنة 2020. وهو مردود ضئيل للغاية بالنظر إلى المساحات المخصصة لزراعة الحبوب في تونس، وهي تبلغ 17 ألف كيلومتر مربع، وتتنوع بين القمح الصلب والقمح اللين والشعير وتنتشر في شمال تونس ووسطها.
ويبلغ معدل مردودية مساحة 10 آلاف متر مربع المزروعة 1.5 طن من الحبوب بأنواعها، وتهيمن زراعة القمح الصلب على المساحات وتمثل النصيب الأوفر منها.
لكن تزايد الطلب على استهلاك القمح اللين في تونس في السنوات الأخيرة، فيما تراجعت المساحات المخصصة لزراعته من 2000 كيلومتر مربع في العقود الماضية إلى 600 كيلومتر مربع في السنة الماضية، بينما تم تجميع محاصيل 540 ألف كيلومتر مربع فحسب، ما ينبئ بندرة هذه المادة الغذائية المحلية، بالتالي ارتفاع نسق توريدها والتعرض إلى مخاطر السوق العالمية من اضطراب الأسعار والتزويد بسبب التضخم الحاصل في الأسواق العالمية.
وتورد تونس 80 في المئة من حاجياتها من القمح اللين وما بين 20 و30 في المئة من مجموع استهلاكها من القمح الصلب. وتوفر المساحات المزروعة في البلاد 80 في المئة من الحاجيات الإجمالية من القمح الصلب.
تكلفة باهظة
وتسببت المردودية الضعيفة في تراجع الإنتاج من القمح اللين والقمح الصلب على حد السواء. وفسر الرزقي هذا النقص بالعوامل المناخية وتكلفة الإنتاج الباهظة، التي أدت إلى عزوف الفلاحين عن زراعة الحبوب. ودفع ضعف المردودية المادية ونقص الأرباح بل الخسائر في بعض الحالات إلى الامتناع عن زراعتها. وسجلت تونس في السنوات الأخيرة انخفاضاً مخيفاً للمساحات المزروعة التي تراجعت إلى 12 ألف كيلومتر مربع، يتم تجميع 9 آلاف كيلومتر مربع منها فحسب، علماً أن مساحة 17 ألف كيلومتر مربع مخصصة لزراعة للحبوب.
وتتفاوت تكلفة الإنتاج بالـ10 آلاف متر من منطقة إلى أخرى، وتقدر بـ 2400 دينار (836 دولاراً) في بعض المساحات. وتزيد المناطق الشمالية الغربية على 3200 دينار (1114 دولاراً)، وهي باهظة للغاية بالنظر إلى أسعار بيع المحاصيل لدى الفلاح، وهي تسعيرة محددة من قبل الدولة التونسية ولا تتجاوز 87 ديناراً (30.3 دولاراً) لكل 100 كيلوغرام من القمح الصلب، ما يشكل سعراً متدنياً ويمثل السبب الرئيس لعزوف الفلاحين عن زراعة الحبوب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويطالب الفلاحون في الوقت الراهن بزيادة قدرها 45 ديناراً (15.6 دولار) لكل 100 كيلوغرام في أسعار البيع، علماً أن السلطات المعنية قامت بالترفيع في السعر السنة الماضية بنسبة 20 في المئة. لكن هذه الزيادة أدت إلى صعود التكلفة بدورها بالنسبة نفسها، بحيث انتفت استفادة الفلاحين بتغطية التكاليف.
وقد شهد الموسم الماضي ارتفاعاً غير مسبوق في أسعار الأسمدة بلغ 40 في المئة، إضافة إلى الزيادة المشطة في أسعار البذور، علاوة على قطع الغيار والأدوية المعتمدة.
كما واجهت المواسم المنقضية أزمة حادة في التزود بالأسمدة الكيماوية، خصوصاً منها أورونيوم الفوسفات، كانعكاس بديهي للإضراب المطول والإنتاج المتقطع للفوسفات في المنطقة المنجمية (الحوض المنجمي بقفصة جنوب تونس). وقد تراجعت الكميات المزود بها من هذه المادة من 80 ألف طن سنوياً إلى أقل من 60 ألف طن سنة 2020... ما أثر على مردودية الأراضي بحكم الدور الرئيس للأورونيوم في تثمين الأمطار في التربة.
توريد منهك
وأدت هذه العوامل جميعها إلى ابتعاد عدد كبير من الفلاحين عن زراعة الحبوب واستبدالها بالبقوليات والأعلاف، ما يشير إلى خطورة الوضعية المتعلقة بالأمن الغذائي واللجوء إلى الزيادة في حجم التوريد، علماً أن تونس تستهلك 3 ملايين طن سنوياً من الحبوب بأنواعها، لا توفر منها غير مليون طن من إنتاجها الخاص، وهو المعدل السنوي الذي يشهد انخفاضاً بدوره بالنظر إلى المعطيات المناخية. وهي نسبة تغطية للاستهلاك ضئيلة للغاية تجعل تونس من بين أكبر موردي القمح في العالم، ما ينذر بخطر الارتهان إلى الخارج وتهديد الأمن الغذائي علاوة على تكاليف التوريد المستنزف للعملة الصعبة.
وقد شهدت أسعار الحبوب ارتفاعاً قياسياً في السنوات الأخيرة، وبلغت فاتورة توريده نحو ملياري دينار (696 مليون دولار) في الأشهرالسبعة الأولى من سنة 2021، تحت تأثير تطور أسعار القمح الصلب في السوق العالمية، التي زادت بقيمة 112 في المئة.
وقد عرفت الأسعار تطوراً بنسبة 16.8 في المئة بالنسبة إلى القمح الصلب، كما ارتفع سعر القمح اللين 21 في المئة وزاد سعر الشعير والذرة بنسبة 25 و45 في المئة.
الأمر الذي يحتم دعم الفلاحين والترفيع في المساحات التونسية المزروعة سنوياً لتحسين المردودية والتخفيض من نسق التوريد المنهك لميزان المدفوعات.
التقلبات المناخية
وأشار عبد الفتاح سعيد المدير العام للإنتاج الفلاحي في وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري إلى الاتجاه العام لوضع استراتيجية جديدة لزراعة الحبوب في المستقبل، تتجسد في تغيير التصرف العام في الأراضي الصالحة لهذه الزراعة في البلاد.
إذ يتوجب تحسين المردودية بالاستغلال الجيد للأراضي وفق توزيع كميات الأمطار بها في الوقت الراهن، ثم التشجيع على إنشاء مناطق سقوية معتمدة على المياه العميقة، وليس على كميات الأمطار مثلما هو حاصل في أغلب الأراضي حالياً. وتبلغ الأراضي السقوية 750 كيلومتراً مربعاً فحسب، في الوقت الراهن.
وتتجه النية إلى تنمية هذه المساحات في محاولة للابتعاد عن فك ارتباط زراعة الحبوب بالمعطيات المناخية، والتحكم الذاتي في المردودية والمساحات المزروعة.
كما يرجح السير نحو دعم الفلاحين بواسطة الترفيع في أسعار قبول المحاصيل للتحفيز على الزراعة، إضافة إلى تطوير التخزين وأساليب التجميع. ومن شأن هذه الاستراتيجية الضغط على التوريد والابتعاد عن ضغوطات السوق الخارجية وأهمها ارتفاع الأسعار ونزيف العملة الصعبة.