كشفت الموازنة التعديلية لعام 2021 التي أصدرتها وزارة المالية التونسية، عن آخر رقم رسمي محدث لعدد الموظفين العامين في البلاد، والبالغ 661 ألفاً و703 موظفين في مختلف الوزارات، بمصالحها المركزية والجهوية وبالمؤسسات الحكومية الملحقة ميزانياتها بميزانية الدولة.
وتبلغ كتلة أجور الموظفين 20.3 مليار دينار (7.2 مليار دولار) أي ما يعادل حوالى 40 في المئة من إجمالي الموازنة العامة لتونس.
ولطالما شكل ملف عدد الموظفين الحكوميين الكبير في تونس عنصر صراعات سياسية واقتصادية ونقابية، بين منتقد لهذا العدد المتنامي مقارنة مع القدرات المالية المتهالكة للدولة ومناصر لوجوب مواصلة سياسة الانتدابات تحقيقاً لأحد مطالب ما بعد انتفاضة عام 2011 وهي ضرورة توفير فرص العمل.
وتفيد القاعدة الاقتصادية بأنه عندما ترتفع نسبة الموازنة من الناتج المحلي الخام، فهذا دليل على أن اقتصاد الدولة يعيش على وقع أزمة. وارتفعت الميزانية في تونس، من 7 مليارات دولار في عام 2010 إلى 19.4 مليار دولار في عام 2021، وهو ارتفاع تزامن مع زيادة هائلة في كتلة الأجور التي وصلت في غضون سنة إلى ما يقارب 40 في المئة من الموازنة.
كما أن هذه النسبة التي تُعتبر قياسية بالنسبة للمعدلات العالمية، بحسب صندوق النقد الدولي، لا يبدو أنها ستجد طريقاً نحو التراجع في ظل غياب أي تصورات لحلول جذرية وفي ظل إدارة تعاني من البيروقراطية وضعف الإنتاجية.
الأشكال في نسبة النمو
ورأى الباحث الاقتصادي جمال العويديدي، أن "الإحصائيات تشير إلى وجود 55 موظفاً لكل 1000 ساكن في تونس، مقابل 159 في النرويج و100 في كندا و89 في فرنسا و70 في الولايات المتحدة"، مستنداً في ذلك إلى إحصائيات منظمة التعاون والتجارة والتنمية. وبين أن "المشكلة ليست في كتلة الأجور بل في نسبة النمو التي تراجعت خلال الفترة الممتدة بين عامي 2020 و2021 إلى معدل 1 في المئة، وشهدت خلال عام 2020 انكماشاً. كما يصعب بلوغ نسبة الـ4 في المئة المستهدفة في عام 2021".
الإذعان للمطالب الاجتماعية
ووقعت الحكومات التونسية المتعاقبة بعد عام 2011 بين مشكلتَين أساسيتين هما، المطالب الاجتماعية والإصلاحات الهيكلية للاقتصاد، إلا أنه بالنظر إلى تجارب الدول، فإن الإصلاحات الهيكلية عادةً ما تتطلب وضعاً اجتماعياً مستقراً.
ودفعت هذه الحقائق مختلف الحكومات إلى الإذعان للمطالب الاجتماعية التي تتمثل أساساً في توفير الوظائف، في مقابل إهمال التنمية والإصلاحات الأساسية للاقتصاد التونسي، وذلك عبر تأمين فرص عمل في القطاع العام باعتباره أسهل الحلول.
عام بعد عام، تضخم عدد الموظفين العموميين وتراجع نمو الاقتصاد التونسي، لترتفع معه نسبة التضخم وينهار الدينار ويظهر تحد جديد يتمثل في ارتفاع هائل لكتلة الأجور. لكن متاعب الحكومات التونسية لم تتوقف عند هذا الحد، فمع تزايد الطلب على القروض الخارجية، فرض صندوق النقد الدولي مجموعة إصلاحات أهمها التحكم في كتلة الأجور والعودة بها إلى مستوى 14 في المئة من الناتج الداخلي الخام.
وانتقد الصندوق في عام 2014 كتلة الأجور في تونس، معتبراً إياها الأعلى في العالم، مؤكداً وجوب التحكم فيها مع استعادة نسق النمو.
هدف صعب التحكم فيه
ومع تسلم كل حكومة جديدة السلطة في تونس، وبخاصة عند شروعها في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي تلتزم بالعمل على تقليص كتلة أجور الموظفين، لكنها سرعان ما تصطدم بالواقع السياسي (البرلمان والحسابات السياسية الضيقة) والصراع النقابي ممثلاً في منظمة الشغل التي ترفض مبدأ تقليص كتلة الأجور على حساب القدرة الشرائية لأجراء القطاع العام.
وشمل آخر فشل في هذا المجال حكومة هشام المشيشي التي خططت لتسريح موظفين في الدولة، وإحالتهم إلى التقاعد المبكر، واقتراح سلسلة إجراءات تعوض خروجهم من القطاع العمومي، والعمل وفق وثيقة الخطة الإصلاحية للاقتصاد التونسي الواردة في 43 إجراءً عرضها وفد حكومي رفيع المستوى على مسؤولي صندوق النقد الدولي خلال زيارة رسمية إلى واشنطن من 3 إلى 8 مايو (أيار) 2021، آملين الحصول على قرض تمويلي جديد بقيمة 4 مليارات دولار لتمويل موازنة تونس لهذا العام.
وتأمل الحكومة التونسية من خلال هذه الإجراءات التحكم في كتلة الأجور بنسبة 15 في المئة من الناتج الداخلي الخام في عام 2022، مقابل 17.4 في المئة في 2020.
فيتو نقابي
واعتبر 2021 الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل، حفيظ حفيظ، أن "ارتفاع كتلة الأجور كذبة كبرى، والحديث عن ارتفاع عدد العاملين بالقطاع العام، هو كذلك كذبة كبرى".
وشدد على أن "مسألة تقليص الأجور غير مطروحة، وغير قابلة للنقاش"، مشيراً إلى أن "منظمة الشغل تطالب بالحفاظ على دورية النقاشات حول زيادة الأجور كل 3 سنوات ضمن جولة مفاوضات اجتماعية جديدة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح المسؤول النقابي أن "الحديث عن ارتفاع كتلة الأجور والتلميح إلى الضغط عليها والتقليص في عدد الموظفين هو كلام تم طرحه في الحكومات السابقة لكنه لم يُنفَذ". وكشف أن "أهم وزارات في تونس تستحوذ على العدد الأكبر من الموظفين وهما وزارتا التربية والتعليم والصحة وتُعدان حيويتين لا يمكن المس بموظفيهما، بل إنهما تشكوان من نقص في الموارد البشرية".
إثقال موازنة البلاد
وأظهرت دراسة للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية (تابع لرئاسة الجمهورية) حول أزمة الوظيفة العمومية في البلد، أن "عدد الموظفين في القطاع الحكومي تضاعف 16 مرة منذ الاستقلال، إذ ارتفع من حوالى 36 ألفاً عام 1956 إلى أكثر من 660 ألفاً في عام 2021".
وبينت الدراسة التي صدرت حديثاً، أن "عدد موظفي القطاع الحكومي تضخم بعد عام 2012 بسبب عمليات التوظيف العشوائية لصالح المنتفعين من العفو التشريعي، ما فتح المجال لانتدابات استثنائية لأهالي شهداء الثورة وجرحاها وكذلك تسوية وضعية عمالة المناولة والحظائر (آليات عمل هشة تعتمدها الحكومة من قبل 2011) والمقدر عددهم بحوالى 54 ألفاً".
وتسبب تضخم عدد موظفي القطاع الحكومي في إثقال موازنة البلاد بكتلة أجور اعتبرها صندوق النقد الدولي من بين الأضخم في العالم بسبب استئثارها بـ17 في المئة حالياً، من الناتج المحلي الإجمالي لتونس.
غياب رؤية إصلاحية
وقال أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية، رضا الشكندالي، إن "هناك زيادة بحوالى 20 ألف موظف جديد تم انتدابهم لوظائف حكومية، وفق ما كشفت الميزانية التعديلية لعام 2021، منهم نحو 6 آلاف عامل في الحظائر تمت تسوية وضعيتهم ليتم إدراجهم في كتلة الأجور المتهالكة، ما ينذر بعواقب وخيمة على المالية العمومية التونسية".
وبتعمقه في المسألة، أكد الشكندالي أن "تزايد الانتدابات في الوظائف الحكومية سيرهق موازنة الدولة ويرغمها على إيجاد الحلول العاجلة لتوفير الأجور التي تمثل وحدها زهاء 40 في المئة من حجم الموازنة العامة. وذلك إما عن طريق اللجوء إلى الاقتراض الخارجي مثلما حصل في كل السنوات الماضية أو طلب التمويل المباشر من البنك المركزي التونسي الأمر الذي يحظره القانون المنظم للبنك".
واعتبر أن "مواصلة الانتدابات من دون رؤية إصلاحية سيشكل حجر عثرة للحكومة التونسية في تفاوضها مع صندوق النقد الدولي الذي يوصي بضرورة خفض كتلة الأجور إلى أقل من 14 في المئة، مقابل حوالى 18 في المئة حالياً".
من جانب آخر، أشار الشكندالي إلى اختلال التوازنات الاقتصادية والمالية لتونس جراء كتلة الأجور موضحاً أن "كتلة الأجور ما انفكت تنتفخ من سنة إلى أخرى مقابل التراجع الكبير وغير المبرَر للناتج الداخلي الخام التونسي ما سيعمق الإشكاليات المالية للبلاد".
وعن رأيه في موقف الاتحاد العام التونسي للشغل حيال مواصلة انتهاج الحكومة "سياسة التشغيل" لا سيما في القطاعات الحيوية على غرار الصحة والتعليم والأمن، تفهم أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية "حرص المنظمة النقابية الدفاع عن الإجراء والموظفين وتعزيز الإدارة التونسية بالكوادر"، لكنه في المقابل انتقد الحكومات المتتالية لضعف تفاوضها مع المركزية النقابية ورضوخها للمطالب بوجوب مواصلة التشغيل"، معتبراً أنها "المتسبب الأول في تضخم عدد الموظفين في تونس".
وبخصوص مدى نجاعة ومردودية الإدارة التونسية في الاستجابة لمشاغل التونسيين والمستثمرين المحليين والأجانب، أبرز المتحدث أن "الخدمات متردية جداً ولا تتناسب تماماً مع العدد الكبير للموظفين".
وتابع قائلاً، إن "إنتاجية الموظفين في تونس ضعيفة جداً، لأن المسألة مرتبطة بمنظومة كاملة أو بمناخ محدد يجب أن يتوفر انطلاقاً من توفير جملة شروط على غرار وجود مشروع عمل للموظف يعمل عليه".
كما لفت إلى ظاهرة التغيب عن العمل، التي تُفقد الدولة ملايين ساعات العمل، وبروز شعارات يتهكم بها المواطنون على خدمات الإدارة من قبيل "عُد غداً أو المنظومة المعلوماتية غير متاحة الآن" للتهرب من تأدية عملهم.