تُعد قضية الدولة المدنية وما يستلزمها من تأكيد قيم التنوير والعقلانية والمواطنة، القضية المركزية، أو القضية الأم، بتفاصيلها المهمة في فكر جابر عصفور الذي يستحق وصف "حارس التنوير". هو وصف يليق له بعد ما أصدر أكثر من 16 كتاباً في هذا الصدد، منها: "التنوير يواجه الإظلام"، و"محنة التنوير"، و"دفاعاً عن التنوير"، و"هوامش على دفاتر التنوير"، و"التنوير والدولة المدنية".
ولا ينبغى أن نضع فارقاً بين هذه الكتابات التنويرية المباشرة، وما كتبه جابر عصفور في النقد الذي تعامل مع الشعر والرواية والقصة القصيرة بوصفها التجلي الأدبى لما يدعو إليه من قيم التحضر وحق الاختلاف على نحو ما نرى في "الرواية والاستنارة"، و"القص في هذا الزمان"، وكتابيه المهمين عن صلاح عبدالصبور "رؤيا حكيم محزون"، وأمل دنقل "قصيدة الرفض".
المنظومة الواحدة
إنها إذاً منظومة واحدة تتخذ من الفكر والأدب وجهيها البارزين ولا تكتمل إلا بالعودة إلى التراث البلاغي والنقدي الذي بدأ به عصفور رحلته الأكاديمية إعمالاً لمقولة أمين الخولي: "إن بداية التجديد هي قتل القديم فهماً". والعودة إلى التراث لا تعني الاستغناء عن الجديد، وقد أوضح شكرى عياد – تلميذ الخولي – ذلك بقوله: "من المهم أن تذهب إلى الماضي بشرط أن تمتلك تذكرة العودة". وهذا ما يعيه جابر عصفور جيداً، وكان دافعاً لانفتاحه على مفاهيم العقل الحديث من خلال ترجماته من قبيل "عصر البنيوية"، و"الماركسية والنقد الأدبي"، و"اتجاهات النقد المعاصر"، وكتابه المهم "قاطرة التقدم: الترجمة ومجتمع المعرفة"، ثم إنجازه الكبير في إنشاء المركز القومي للترجمة. بهذه الاعتبارات يمكن وصف جابر عصفور بالمثقف العضوي بالمعنى الذي قصده جرامشي، فهو لم يكتفِ بدوره ناقداً أدبياً كبيراً، بل اشتبك مع قضايا عصره مواجهاً ما يعترض مسيرة تقدمه من "ثقافة التخلف"، و"التعصب"، و"الإرهاب"، ورافعاً راية الحداثة التي تؤمن بالتعدد والتنوع وحق الاختلاف وحرية الاعتقاد والتعبير.
ومن هنا، كان اهتمامه كذلك بقيمة المواطنة التي تساوي بين أبناء الوطن الواحد على اختلاف أديانهم ومواقعهم الاجتماعية وبتحرير المرأة الذي جعله ديدرو "شرطاً أساسياً للوطنية وجوهرياً للمواطنة". فكان كتابه "دفاعاً عن المرأة"، بالإضافة إلى الفصول التي خصصها لهذا الغرض في كثير من كتبه، وأحدثها كتاب "دفاعاً عن العقلانية" (الهيئة المصرية العامة للكتاب). ينقسم هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام، يحمل الأول عنوان "تأسيس"، ويحتل الحديث عن العقل المساحة الأكبر فيه. والقسم الثاني بعنوان "السبعينيات وما بعدها" وتدور معظم مقالاته حول كتاب نصر حامد أبو زيد "مفهوم النص"، والذي فجر سجالاً وصل إلى ساحة القضاء، وانتهى بهجرة الكاتب وزوجته ابتهال يونس، بعد أن صدر حكم بتفريقهما بدعوى ارتداده عن الإسلام.
ويحمل القسم الثالث عنوان "مواقف ومراجعات"، ويتضمن مقاربات لما خاضه جابر عصفور من "معارك" مع مشيخة الأزهر، حتى وهو يتولى منصب وزير الثقافة، واشتباكه مع كتاب "تجديد الفكر الديني" لرجائي عطية، وما دار بينهما من مناظرة حول مفهوم "الإجماع" بوصفه المصدر الثالث للتشريع الإسلامي بعد القرآن والسنة.
الدوافع والمعنى
ولنا أن نتساءل: لماذا وسّع جابر عصفور مفهوم النقد بحيث لم يعد قاصراً على نقد الأعمال الأدبية وأصبح شاملاً للأدب والفكر؟ يصرح عصفور بدوافع هذا التوسع، ويراها راجعة إلى حقبة السبعينيات حين انقلب السادات على مبادئ الدولة المدنية وتحالف مع "الإخوان المسلمين" وتيارات الإسلام السياسى، وأطلق أيديهم في مواجهة الناصريين واليسار ودعاة الدولة المدنية. يقول في ذلك: "التنوير قضية محورية في عملي الثقافي العام، وفي عملي الأكاديمي الخاص، وذلك منذ أن أدركت خطورة تحالف السادات مع جماعات الإسلام السياسي".
ولا شك أن "العقلانية" هي أهم القيم اللازمة للتنوير. من هنا كانت أهمية كتب جابر عصفور "أنوار العقل"، و"تحرير العقل"، و"دفاعاً عن العقلانية".
ولا يجد جابر عصفور فارقاً كبيراً بين "العقلانية" و"التنوير"، فما يصل بينهما يدنو بهما من حال من الاتحاد. فالتنوير هو استخدام العقل في شجاعة وعدم الخضوع لأية سلطة غيره. لذلك فالحديث عن العقلانية هو حديث عن التنوير، والعكس صحيح. والعقلانية ليست قيمة مطلقة في الفراغ، فهي في تجسداتها الواقعية ضد الاستبداد والظلم والقمع، وقد أُسيء فهم العقلانية كثيراً من قبل السلفيين، بوصفها ضد الدين. وهو فهم مغلوط، فكون الدولة مدنية تعتمد العقلانية، "لا يناقض حضور القيم الدينية أو الروحية بأية حال من الأحوال، فالمدنية صفة للحياة المعقدة التي تؤسسها مجموعة بشرية على أساس من المصلحة المشتركة التي لا تتعارض وقيم الاختلاف أو العدل أو المساواة أو قبول التنوع الديني أو السياسي، أو حتى العرقي". وقد أكد الشافعي، مثلاً، منزلة العقل في قوله لتلاميذه: "إذا ذكرت لكم ما لم تقبله عقولكم فلا تقبلوه، فإن العقل مضطر إلى قبول الحق". كما أن الشافعي نفسه غير رأيه في ثلاثين مسألة فقهية عندما انتقل إلى مصر متأثراً بما رآه فيها من أمور دفعته إلى هذا التغيير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وامتداداً لهذا يتوقف عصفور أمام عقلانية المعتزلة "الذين لم يعلوا من قيمة العقل فحسب، إنما أعلوا من قيمة الإنسان وحريته الفردية التي هي الأصل في كونه فاعلاً مختاراً لأفعاله". كما توقف أمام عقلانية ابن رشد راصداً امتدادها عند جمال الدين الأفغاني ثم محمود حمدي زقزوق الذي فرق بين ابن رشد "الإسلامي" وابن رشد "اللاتيني"، ثم يصل إلى رفاعة الطهطاوي الذي أعمل مبدأ التحسن والتقبيح الاعتزاليين طبقاً لمقولة "ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن". فيقبل الطهطاوي بذلك الدستور الفرنسي ولا يمانع سفور المرأة.
نقد المعتزلة
وعلى الرغم من الحفاوة الكبيرة بتراث المعتزلة، فإن جابر عصفور يأخذ عليهم إجبارهم الناس على الإيمان بأن القرآن مخلوق، و"كانت النتيجة حشد المعارضين في سجون لا تفرق بين مسلم متواضع المعرفة أو مسلم متخصص في المعرفة الدينية كأحمد بن حنبل"، حتى ذهب الواثق وجاء ابنه المتوكل الذي انقلب عليهم، فاضطروا إلى الفرار إلى أطراف الدولة وهوامشها، ثم يأتي محمد عبده ليحدد أصول الإسلام واضعاً العقل في مكانة كبيرة. وهذه الأصول هي: النظر العقلي لتحصيل الإيمان، تقديم العقل على ظاهر النص عند التعارض، البعد عن التكفير، الاعتبار بسنن الله في الخلق، قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها.
واستخدام العقل هو الذي يدفع محمد عبده إلى تأويل حديث "خير القرون قرني"، فيقول إن "السابق واللاحق يستويان في التمييز والفطرة، وهناك إمكانات متوافرة أمام اللاحق لم تكن متاحة لمن سبقوه"، ثم يتوقف عصفور أمام أبيه الروحي، طه حسين الذي يؤكد أنه "ليس هناك عقل أوروبي يمتاز عن العقل الشرقي، وإنما هو عقل واحد". وهو ما ذهب به إلى تأكيد انتساب الثقافة المصرية إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، ما جر عليه سخط كثيرين، منهم حسن البنا وسيد قطب، بالإضافة إلى معركته الشهيرة بسبب كتاب "في الشعر الجاهلي" الذي كاد يودى به خارج الجامعة لولا استنارة القاضي محمد نور، واستقلال الجامعة التي هدد رئيسها بتقديم استقالته. وظل طه حسين مؤمناً بحرية العقل في تلقي العلم واستساغته مهما يكن مصدره.
الكتاب المعركة
يشير جابر عصفور إلى أن مجمل أعمال نصر حامد أبو زيد تدل على جمعه الخلّاق بين علم الوجدان الصوفي وعلم العقل الاستدلالي، وأن نزعته تصل عقلانية المعتزلة بصوفية ابن عربي وفكر ابن رشد. وبهذا فهو يمثل نموذج الاعتزال المحدث الذي آمن بخلق القرآن كما اتضح في كتابه المثير "مفهوم النص" الذي يعد واحداً من أهم مشروعات قراءة التراث قراءة علمية تختلف عن القراءة الأيديولوجية الموجهة. كما نجد في "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" لحسين مروة، ودون أن ينفي الصفة الدينية عن التراث كما فعل فهمي جدعان في "نظرية التراث"، ومؤكداً وجود نواة صلبة في الإسلام يمكن الوصول إليها على عكس ما كان يرى فؤاد زكريا، لكن خصومه رأوا في أفكاره خروجاً على الإسلام دون أن يميزوا في كلامه بين النصوص الدينية في ذاتها والتفسيرات البشرية لهذه النصوص. ويبقى أن أشير إلى أن أهمية كتاب "دفاعاً عن العقلانية" ترجع إلى أنه لم يكتب للقارئ الأكاديمي، و"إنما للمثقف العام الذي يريد أن يعرف الأوضاع التي تؤدي به وبمجتمعه إلى التخلف أو تقوده إلى التقدم"، بحسب ما أكده عصفور نفسه.