قدر بعض الفنانين الكبار أن يبقوا في الظل، مهما كانت قيمة إنجازاتهم. هذه حال الفنان الروسي أليكسي جاولينسكي (1864 ــ 1941) الذي كان رفيق درب كاندينسكي في مطلع القرن العشرين، وشارك معه في بلورة مفردات الحداثة الفنية، متراوحاً بين تعبيرية وتوحشية، وبين تصوير وتجريد. ولدفعه إلى دائرة الضوء وكشف أهميته، ينظم القائمون على متحف الفن الحديث لمدينة روبيه (شمال فرنسا) معرضاً استعادياً ضخماً له يسمح من خلال مختارات من لوحاته تغطي كافة مراحل مسيرته الفنية، بمشاهدة سيرورة تطور فنه، وبالنتيجة، بتحديد موقعه الفريد بين رواد الحداثة.
بدايات جاولينسكي في الرسم كانت في محترف مواطنه إيليا ريبين. لكن يجب انتظار استقراره في ميونخ عام 1896 كي ينخرط في تيار الحداثة، فيستوعب بسرعة مدهشة أمثولات الرسامين الانطباعيين وفان غوخ وسيزان. استيعاب يظهر منذ لوحاته التي تُعرف بـ"رؤوس ما قبل الحرب"، علماً أن مضمونها لا يقتصر على الوجه البشري الذي سيحصر الفنان لاحقاً اهتمامه به، بل يشمل الجزء الأعلى من الموديلات التي رسمها، مع استخدام العنق كقاعدة نحتية للرأس. ومع أنه يمكن التعرف إلى الشابات الماثلات في هذه اللوحات، لكنه أخضع ملامحهن لتبسيط كبير ومنح الألوان، مذاك، دوراً أساسياً في تنظيم التوترات البصرية داخلها، مقترحاً تناغماً مكوناً من تنافرات.
الروحانية المتأججة
في هذه الأعمال المتقشفة، ينعكس هاجس جاولينسكي في التعبير عن الروحانية المتأججة داخله في ثبات الوجوه وذلك الإجلال المتصاعد منها، تماماً كما في وجوه الأيقونات البيزنطية. أعمال تتوارى تدريجياً الملامح الفردية فيها لصالح شكل من أشكال القداسة. وضمن هذا الجهد في نزع عن ماثلاته ما يميزها، لجأ الفنان إلى عناوين نادراً ما تشير إلى أشخاص محددين، وابتكر أسلوباً تعبيرياً خاصاً غايته "ترجمة الطبيعة من خلال ألوان مشعة تتناغم مع النار المشتعلة داخلي"، على حد قوله.
في بداياته، رسم جاولينسكي بشكل رئيس مشاهد طبيعية وفقاً للإرث الانطباعي الجديد، أي بلمسات عريضة متقاطعة وألوان فقدت وظيفتها التمثيلية لصالح قيمتها الانفعالية، تماماً مثل كاندينسكي. وسمحت هذه المشاهد له باختبار تقنيات كانت حركات طليعية مختلفة تستخدمها. ويجب انتظار استقراره في قرية مورنو الألمانية مع صديقه المذكور، عام 1908، كي تظهر تلك الاستقلالية في الأشكال الملونة داخل مشاهده. تجربة أفضت إلى تأثر متبادل بينهما، وإلى ابتكاره أسلوباً فريداً يقع بين حصيلية غوغان ورسم ماتيس المبسَّط، وأنجز فيه تشكيلات تتميز بنطاق مغلق حاد ومساحات لونية شاسعة وأشكال هيكلية مجردة من أي تفصيل.
عام 1909، شارك جاولينسكي مع كاندينسكي في تأسيس "جمعية فناني ميونخ الجديدة". ومع أنه بقي مقرباً من مجموعة صديقه الأخرى، "الفارس الأزرق"، لكن تواطؤهما لم يدم لأنه رفض اختيار التجريد. فبخلاف الرسامين الآخرين حوله الذين ألغوا الحضور البشري من أعمالهم مع ابتعادهم عن التصوير، منح هو أهمية متصاعدة له، قبل أن يصبح موضوعه الحصري.
تنويعات
ومع اندلاع الحرب عام 1914، اضطر جاولينسكي الروسي إلى مغادرة ألمانيا، فاستقر في سويسرا، قرب بحيرة ليمان، حيث تابع عمله في ظروف صعبة. وبفضل هذا التغيير، بدأ ما سيصبح لاحقاً طريقة عمله، أي تقنية السلاسل. فبخلاف التنوع الموضوعي الذي ميز مرحلة ميونخ، ركز الفنان على المشهد وأنجز على مدى سبع سنوات سلسلته الأولى، "تنويعات"، التي تضم نحو 400 لوحة صغيرة الحجم. تشكيلات بالكاد تختلف عن بعضها بعضاً لارتكازها على مفهوم التشابه والتباعد الذي يقوم على تنويعات بين عناصر متعددة من النوع نفسه.
ومع أن هذه السلسلة تقترب من التجريد، لكن الفنان لم يقطع داخلها روابطه بالواقع، بل سعى إلى ترجمة مشاعره الداخلية أمام مشهد خارجي. سلسلة تحول المشهد المنمق والمبسط داخلها إلى مجموعة عناصر بنيوية مستقلة لا يتراءى الفضاء فيها إلا من خلال تناوب الألوان الحارة والباردة. ومع أن خط الأفق يتوارى، لكن مفهومي الأعلى والأسفل يبقى ملحوظاً. سلسلة يتبين فيها أن رؤية صاحبها للطبيعة هي إسقاط لحالة نفسية أكثر منها تمثيل لمشهد خارجي: "كان علي أن أرسم لا ما كنت أراه، بل فقط ما كان يختلج داخلي".
وجوه صوفية
عام 1915، تعرف جاولينسكي إلى الفنانة ومجمعة الفن إيمي شيير التي ما لبث الشكل البيضاوي لوجهها أن تحول إلى نموذج داخل سلسلته الشهيرة "وجوه صوفية ورؤوس قديسين". بورتريهات يتوارى الجسد كلياً فيها، لعدم ضرورته في عملية الاستنبطان التي انخرط الفنان فيها، ويحتل الوجه كل مساحتها بالخطوط الملونة التي يتألف منها: الخط الناتئ للأنف، الشكل البيضاوي للوجه والعينين، قوس الحاجبين وعربسة الشعر على الجانبين. رؤوس تبقى هويتها الجنسية غير محددة، باستثناء "وجوه المخلّص" التي تحمل طابعاً ذكورياً من خلال اللحية الخفيفة التي تعلوها، وتنتظم تشكيلاتها حول خط أفقي وسطي ــ الأنف ــ تتوزع الملامح على جانبيه بطريقة غير متماثلة، ضمن انحراف طفيف في العينين والشعر. وهذه المرة الأولى التي مس جاولينسكي فيها كمال موضوعه المفضل، الوجه. مس يبقى خجولاً نسبياً لكونه لا يشوه تكوينه العام. أما الحدود التي تفصل بينه وبين خلفيته، فتحضر على شكل هالة خفيفة تعكس شفافيتها غياب أي عمق أو بُعد في اللوحة. والملاحظ أيضاً في هذه البورتريهات هو فقدان الوجه البشري بعضاً من حجمه واختزاله بالنظرة التي يحملها. وفعلاً، يتقاطر انتباه المتأمل فيه نحو عينين لوزيتين كبيرتين يشخص بؤبؤهما الأسود والثابت بشيء خارجي خفي.
وانطلاقاً من عام 1919، أغلق الفنان جفون وجوهه، فتحولت العيون إلى مجرد خط أفقي بسيط لا يحتفظ بأي اتصال بالخارج. وفي تلك المرحلة، تمثل مشروعه في الرغبة في رسم وجه فريد تم استبطانه إلى حد لا تعود ملامحه تردّنا إلى أي واقع. وبقدر ابتعاد هذا الوجه عن ظاهره المادي، أصبح ناقلاً لتلك الروحانية التي تشكل علامة مميزة لفن جاولينسكي: "كنت أشعر بالحاجة إلى إيجاد شكل للوجه لأني فهمتُ أن فن الرسم غير ممكن من دون شعور ديني، وهذا الشعور لا يمكن تجسيده إلا من خلال الوجه البشري. فهمتُ أن على الرسام إسقاط بالشكل واللون ما هو مقدس فيه".
رؤوس هندسية
"الرؤوس الهندسية" تشكلت كسلسلة عام 1921، وتابع جاولينسكي العمل عليها حتى عام 1935. وكما يشير إليه عنوانها، شكل الفنان هذه الرؤوس بطريقة منهجية انطلاقاً من أشكال هندسية هي عبارة عن ريبرتوار من الخطوط المستقيمة والأقواس وأنصاف الدوائر. أما بنيتها التي لا تختلف عن بعضها بعضاً، فتوحي برغبة في بلوغ نموذج أصلي. بنية مؤلفة من مسطحات مقطعة بطريقة عشوائية وفقاً لتصاميم ذات ألوان متباينة. ويخفف هذا الخيار في التلوين الطابع العضوي للوجوه التي باتت أشبه بأقنعة أو بقوالب للمقدس.
ولا شك في أن جاولينسكي كان على علم بالمبادئ التشييدية (constructivistes) لزمنه وبالميول الهندسية لوجوه حركة "باوهاوس"، وفي مقدمهم صديقه كاندينسكي. لكن من المحتمل أنه كان أكثر حساسية تجاه النظرية الجمالية لمدرسة دير "بورون" التي ترتكز على فكرة أن النِسَب الكاملة والثابتة هي الأكثر ملاءمة لتجسيد فكرة المقدس في الميدان التشكيلي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما سلسلة جاولينسكي الأخيرة، "التأملات"، فأنجزها بأسلوب يختلف راديكالياً عن أسلوب السلسلة السابقة. أعمال يتعذر فصلها عن الصعوبة التي اختبرها في متابعة نشاطه الفني، والناتجة من إصابته، عام 1928، بمرض التهاب المفاصل الذي أجبره على العمل جالساً وعلى ربط الريشة أو الفرشاة بيده شبه المشلولة للرسم. ومع أن كمية هذه اللوحات مدهشة (أكثر من ألف) لكن أحجامها صغيرة لا تتجاوز 18 x 13 سم. أعمال استبدل الفنان فيها التشكيل الهندسي الجامد بتشكيل حركي، واعتمد التبسيط الشديد في الرسم: بضعة خطوط سوداء أو حمراء للجبين والأنف، وتعجينات من الألوان "المحروثة" لتغطية كامل سطح اللوحة، وتناوُب في الألوان الحارة والباردة لمنح انطباع بالعمق من دون اللجوء إلى الأبعاد. أما تلاعبه في زاوية انحراف خطوطه القطرية وإسقاطه الألوان بضربات فرشاة كثيفة، فيمنحان كل وجه تعبيره الخاص.
وبتحليله في هذه الأعمال مكونات وجوهه (العينين، والفم والأنف) إلى حد اتخاذها شكل صليب، بلغ جاولينسكي حصيلة تجمع بشكل مدهش بين الوجه والصليب والأيقونة، كما أدخل عليها شكلاً خاصاً من المقدس، مقدس مؤنسن، من طريق مجموعة من التعابير تعلو وجوهه وتوحي بمشاعر متباينة.
ومن هذا المنطلق يحتل هذا الفنان موقعاً فريداً بين رواد الحداثة. فبينما رأى فنانون كثر من زمنه إمكانية للتعبير عن الشعور الروحي بواسطة التجريد، استطاع هو تجسيد هذا الشعور داخل الوجه البشري من خلال جدلية تصوير وتجريد لا سابق لها.