عندما كتب الأديب الفرنسي ميشال ليريس في واحد من كتب ذكرياته التي ربما كانت أفضل ما كتب، يتحدث عن جسده بذلك النص الذي لم يتوقف فيه عن وصف نفسه، جسدياً وخلقياً، بأبشع صورة، متحدثاً مثلاً عن رقبته المستقيمة و"كأنها جدار أو مفازة كواحدة من علامات برج الثور"، وجبهته "المحدودبة بشرايينها البارزة الدبقة دائماً، كواحدة هذه المرة من علامات برج الحمل"، وعن عينيه ليقول إنهما بُنيتان، ولكن بجفون دائمة الالتهاب، معلناً في الوقت نفسه خجله ببشرته الملساء المحمرة دائماً ويديه الهزيلتين، و"رأسي الذي يبدو كبيراً على جسدي"، لافتاً إلى ما وصفه بـ"ساقي القصيرتين"، و"مشيتي في انحناء إلى الأمام"، ابتسم كثر من معارفه، وقالوا: ها هو الكاتب الكبير لا يصف نفسه على حقيقتها بقدر ما يصف تلك اللوحات التي رسمه فيها صديقه الرسام البريطاني فرنسيس بيكون، فيما قال آخرون: بل لعل بيكون قرأ هذا الوصف الذاتي الذي دبجه ليريس فانتهى به الأمر إلى نقله على اللوحة. والحقيقة أن كثراً اعتبروا الاحتمالين واردين، واستعادوا هذه الحكاية قبل فترة حين خص مركز جورج بومبيدو الثقافي وسط العاصمة الفرنسية بيكون بثاني معرض أقامه لأعماله خلال عقدين من الزمن، لكنه ركز فيه هذه المرة على موضوع محدد فحواه "بيكون والأدب"، وهو موضوع أتى في الحقيقة مفاجئاً لكثر كانوا قد نسوا بالأحرى ما اعترف به بيكون نفسه منذ بداية سنوات السبعين بنهله من الأدب والأدباء في الكثير من لوحاته هو الذي كان توجهه الإبداعي الأول في حياته نحو الأدب، لكنه سرعان ما أبدله بالرسم إثر زيارته معرضاً لأعمال بيكاسو بعيد الحرب العالمية الثانية.
فن أدب وفلسفة
والحقيقة أن العلاقة بين بيكون والأدب، وإلى حد ما بين بيكون والفلسفة الحديثة، ولا سيما الفرنسية منها (جورج باتاي)، وحتى علاقته مع كتابات نيتشه بدت واضحة في معظم لوحات ذلك المعرض، ولكن بدت واضحة أكثر علاقته المتشعبة والرفاقية مع ميشال ليريس الذي رسمه مرات عديدة، و"أمعن في تشويه ملامحه وجسده"، بحسب تعبير أحد النقاد على سبيل المزاح. وإلى هذا كشف المعرض، وما كتب عنه أن علاقة بيكون بالأدب كانت أعمق مما يعتقد، ولا سيما حين كشف للمناسبة أن نحو ألف عمل أدبي روائي وفلسفي كانت تشكل آخر مكتبة احتفظ بيكون فيها بآخر ما قرأه من كتب. ومن أغنى ما احتوته كتب نيتشه بالطبع، ولكن أيضاً روايات عديدة لجوزف كونراد الذي كان يقرؤه بشغف، وطبعات عديدة من كتب ليريس نفسه، ونسخة نادرة من كتاب يضم قصيدة "الأرض اليباب" لإليوت ومئات الروايات الأخرى.
دراسات مفاجئة
غير أن الأهم من ذلك كان الدراسات التي نشرت لمناسبة ذلك المعرض غير المتوقع، والتي سبرت أغوار العلاقة بين بيكون والنصوص التي ذكرنا وأصحابها. وكانت دراسات بدت بعد نشرها كالبديهة، إذ جعلت بعض متابعي أعمال بيكون يتساءلون كيف أنهم لم يتنبهوا إلى تلك العلاقة من قبل. فعلى سبيل المثال، لئن كانت واحدة من الدراسات ذكرت بتلك "الثلاثية" التي رسمها بيكون بين عامين 1981 و1983 تحت عنوان مشترك هو "كثبان الرمل" مستوحاة من بعض مقاطع "الأرض اليباب"، فيما خص الثالثة بعنوان آخر مستقل هو "قطعة من الأرض اليباب"، وأعادت إلى الأذهان ما قاله بيكون قبل ذلك عن "التصحيحات" التي أجراها إزرا باوند على النسخة الأولى التي كان هو ناشرها، فإن الدراسة توقفت كذلك عند ثلاثية رسمها بيكون في عام 1967 مستوحياً إياها من قصيدة إليوت "سويني يعاني" التي تحدث فيها عن أشهر حلاق قاتل في تاريخ لندن، وهو نفسه الذي سيحقق عنه تيم بورتون لاحقاً فيلمه الشهير عن "سويني تود" من بطولة جوني ديب. المهم أن المعرض استعاد بقوة علاقة بيكون بإليوت.
في قلب ظلمات الروح
لكنه استعاد كذلك علاقته بجوزيف كونراد صاحب "في قلب الظلمات" بين تحف روائية أخرى. وذلك من خلال لوحة "ثلاثية" أخرى رسمها بيكون في عام 1967 يصل ارتفاعها إلى نحو مترين ومجموع عرضها إلى ما يقارب أربعة أمتار ونصف المتر، وتصور بشكل خاص في قسميها اليساري واليميني شخصين متشابهين إلى حد كبير يفترض الباحثون أنهما يعبران تحت ملامح واحدة عن عدد من شخصيات روايات متنوعة لكونراد، لكن باحثين أكثر جرأة افترضوا أن المرسومين هما شخص واحد، وبالتحديد كورتز تاجر ومهرب العاج في مجاهل أفريقيا في "في قلب الظلمات"، والذي أعطاه السينمائي فرنسيس فورد كوبولا ملامح مارلون براندو في فيلمه "يوم الحشر الآن" الذي نقل أحداث الرواية نفسها من الكونغو إلى فيتنام مصوراً من خلال ذلك الانزياح جزءاً من "لا منطق الحرب الفيتنامية". ومن الواضح أن هذه "الثلاثية" تعتبر من جانب بيكون نوعاً من التحية إلى أدب كونراد الذي سيقول ذات مرة إنه غذى مخيلته في صباه وجعله يحاول الاتجاه إلى الأدب قبل أن يدخل فن بيكاسو على الخط ويأخذه في ذلك الاتجاه الآخر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مصارعة الثيران والكتابة
والحال أن بيكاسو نفسه يجد في المعرض تحية بيكونية له إنما من خلال لوحة رسمها بيكون في عام 1969 جمع فيها إلى تحيته لبيكاسو تحية وجهها بدوره إلى ميشال ليريس نفسه. وهذه اللوحة المستوحاة من مجموعة لوحات عن مصارعة الثيران حققها بيكاسو خلال مراحل متنوعة من مساره الفني الطويل تعرف تحت عنوان "دراسة لمصارعة الثيران-2"، ويملكها اليوم متحف الفنون الجميلة في مدينة ليون الفرنسية. ولعل اللافت في هذه اللوحة هو انتماؤها التام إلى بعض أقوى ما رسمه بيكون من لوحات تتناول علاقة القتل والدماء بين الإنسان والحيوان بحيث نجد الرسام البريطاني يتجاوز في عنف تعبيره وكم الدماء واللحم المذبوح الذي يرسمه كما في عمق التماهي بين جسد الحيوان القتيل وجسد قاتله الإنسان، كل ما تمكن بيكاسو من التعبير عنه في هذا المجال. ولعل من المفيد أن نذكر هنا أن المناخ العام لهذه اللوحة – الدراسة يستند في الأصل إلى وصف كتبه ميشال ليريس نفسه لأول حفلة مصارعة ثيران شهدها في حياته، وكان ذلك في عام 1929 في صحبة بيكاسو نفسه. وهو كتب عن ذلك في كتاب أصدره عام 1938 بعنوان "مرآة مصارعة الثيران": "إن مصارعة الثيران كناية عن الكتابة نفسها كحال الفن بالنسبة إلى الرسام تتطلب انخراط الكينونة كلها في اللعبة". ومن الواضح أن لوحة بيكون هذه تبدو على علاقة بنص ليريس بقدر ما هي مستقاة من لوحات بيكاسو.
... ومن بيكاسو إلى نيتشه
وعلى مثل هذا النسق المثلث، حيث يربط فن بيكون بين فنين أو نوعين إبداعيين آخرين، نجده يدنو من نيتشه، الذي يمكن الافتراض بأنه كان من فلاسفته المفضلين، ولكن بالترابط مع دنوه من واحد من رسامي القرن التاسع عشر، الفرنسي إنجرز الذي درس أعماله جيداً قبل أن يتوقف عند لوحة محددة من لوحات تلك الأعمال هي "أوديب وأبو الهول" ليقتبسها في عام 1983، ولكن عبر مسار لن يخفي أنه أوصله إلى نيتشه، وبالتحديد إلى اشتغال نيتشه على شخصية أوديب كما صورها سوفوكليس في واحدة من أشهر مسرحيات الإغريق. ومن الجلي أن نيتشه كان بالغ الإعجاب بتلك الشخصية، إعجاباً عبر عنه بقوة في واحد من أول كتبه "ولادة التراجيديا"، حيث نجده يؤكد أن "أوديب هو صاحب الشخصية الأكثر إيلاماً في تاريخ المسرح الإغريقي" شخصية صاغها سوفوكلوس على صورة شخص يغمره النبل قاده مصيره، على الرغم من حكمته، إلى أن يقع في الخطأ والسقوط، لكنه في نهاية الأمر، ولكثرة ما عانى عذاباته، عرف كيف ينشر من حوله قوة خير تمكن تأثيرها السحري من أن يعيش من بعد اختفائه هو نفسه (...) صحيح أن أفعاله خرقت الشرائع وهزت المنظومة الأخلاقية والقانون الطبيعي، لكن تأثيرها خط حلقة سحرية أقامت عالماً جديداً على أطلال العالم القديم".