بعد مرور 78 عاماً على استقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي، يعيش البلد حالةً من اضطراب الهوية الوطنية فيما تتفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية، حتى بلغ الأمر بالبعض أن يتمنوا "العودة إلى الخضوع للسلطة المنتدبة". وعلى غرار اللغة العربية، يعتبر هذا الخطاب حمّال أوجه، فلا هو متجانس، ولا هو واقعي. فهو تعبير عن حالة المواطن اليائس من قيادته، والساخط مما بلغته البلاد في ظل انهيار اقتصادي غير مسبوق، كما أنه تمنٍّ يعكس الآمال الظرفية التي ولدتها مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالخلاص من الطبقة الحاكمة، ولكن ما لبست أن تقهقرت تحت وطأة الصدمات. وبين هذا وذاك، تبقى اللغة الفرنسية الرابط الأقوى بين اللبنانيين وباريس، إذ تفتح نافذة دائمة للتبادل الاقتصادي والتواصل الثقافي، وليس الدعم الذي قدّمته فرنسا إلى المؤسسات التربوية الفرنكوفونية في لبنان إلا خير دليل على دور الثقافة في خدمة السياسة والاقتصاد.
نهاية حقبة الانتداب؟
في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1943، استقل لبنان رسمياً عن الدولة المنتدبة، لكنه انتظر حتى خواتيم عام 1946 لجلاء الجيوش الأجنبية كافة عن البلاد. حفلت تلك الفترة بالمشاعر الوطنية والطموح ببناء دولة قوية وقادرة على دخول مصاف الدول المتطورة. ولكن في الواقع، استمرت تركات الانتداب في تسيير مستقبل البلاد.
وفي العودة إلى فترة الانتداب، يمكن وصف تلك المرحلة بالتأسيسية لدولة لبنان المستقل. ففي تلك الحقبة، أنشئت مؤسسات لبنان الكبير الذي أعلن في عام 1920، والذي شكلّت متصرفية جبل لبنان نواته الأساسية. ووضعت أسس النظام السياسي، تحديداً دستور عام 1926 الذي استوحي من الدستور الفرنسي حينها. كما أنشئت المؤسسات الدستورية من رئاسة الجمهورية ومجلس النواب والحكومة، فضلاً عن وضع البنية القانونية والتشريعية، تحديداً في القانون المدني اللبناني.
إلى ذلك، وضعت سلطات الانتداب أسس "الجندرما" (قوى الدرك) والجيش، إضافة إلى مؤسسة النقد والمصرف المركزي الذي كان حينها "بنك سوريا ولبنان" ومرافق الخدمات العامة وإدارة التبغ والتنباك "الريجي". ومثّلت هذه المؤسسات هيكل الجمهورية حتى عهد الرئيس فؤاد شهاب (1958-1964)، الذي شكّل نقلة نوعية في تاريخ البلاد دولاتياً وقانونياً، لا سيما عبر تأسيس المؤسسات الرقابية.
هذه المؤسسات التي ارتبطت بسلطة الانتداب، جسّدت الأداة لانتظام الحياة العامة في لبنان عقب الاستقلال، واستمرت إلى يومنا هذا. ولكن تحويرات، وأحياناً "تشويهات"، طالت هذه المؤسسات. ليبقى السؤال عن مدى قدرة النظام اللبناني على تطوير آلياته وتحقيق السيادة التامة للدولة على أراضيها ومؤسساتها. واليوم، انعكست الأزمة الاقتصادية على المؤسسات النواتية للدولة، مع نظام مصرفي ينهار ومؤسسات أمنية منهكة ودستور منتهك ومؤسسات سياسية معطلة وقوانين متقادمة خارجة عن روح العصر.
روابط ثقافية وثيقة
عبر الأزمنة، حافظت الروابط الثقافية على متانتها بين لبنان وفرنسا، التي لُقّبت بـ"الأم الحنون". هذا التعبير الذي يحمل كثيراً من العاطفة، لا يمكنه أن يحجب لعبة المصالح التي تقود لغة التعامل بين الدول. يؤصل الأكاديمي اللبناني الدكتور خليل خير الله العلاقة بين البلدين فيعيدها إلى ما قبل الانتداب، مع بروز سلطة القناصل إبان العهد الأخير للسلطنة العثمانية وظهور نظام الحماية الأجنبية الغربية للطوائف، مع تعهد فرنسا حماية الموارنة، وروسيا الروم الأرثوذكس، والنمسا الكاثوليك، وبريطانيا الدروز، وهكذا دواليك في اجتماع تقاسم "الوليمة".
ويلفت خير الله إلى أهمية الصلات العلمية الفرنكوفونية التي قامت بين لبنان وفرنسا و"تطبُّع اللبناني مع اللغة الفرنسية" التي ترسخت في حقبة الانتداب، حتى أثرت الصلات الثقافية في عملية وضع الدستور والقوانين من قبل "رعاة الكيان اللبناني".
الجذور الفرنسية للنظام
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عبر نظام "الامتيازات"، وسّعت فرنسا نفوذ العائلات المؤيدة لها في لبنان، إلى أن جاءت اتفاقية "سايكس بيكو" لتفرض سيطرة باريس على لبنان وسوريا باعتراف دولي. فأسست سلطة الانتداب المؤسسات العامة لإدارة البلاد ووضعت البنية القانونية، مستوحية التشريعات اللبنانية من النصوص الفرنسية، تحديداً دستور الجمهورية الثالثة والقانون المدني "Code Napoleon 1805" الذي حل محل قانون "أحكام المجلة"، ووضعت مجموعة من الجهابذة اللبنانيين والفقهاء الفرنسيين قانون الموجبات والعقود عام 1932، آخذين في الاعتبار الأخطاء التي وقع فيها المشرّع الفرنسي.
ويشير خير الله إلى استثمار سلطة الانتداب في الروابط الدينية، وعلى خلاف سلوكيات فرنسا "العلمانية" في الداخل، فقد اعتمدت على البعثات الدينية لتوسيع دائرة نفوذها في لبنان الكبير.
المؤسسات الصامدة
وحتى اليوم، ما زالت المؤسسات التي وضع أسسها المنتدب الفرنسي صامدة، من الرئاسة إلى مجلس النواب والحكومة. لكن صيغ هذه المؤسسات "تم تشويهها" وإفراغها من جوهرها، وفق خير الله الذي يتساءل عن "تغييب مجلس الشيوخ" وإلغاء الطائفية السياسية. ويقول، "خلال زمن الانتداب، بعض الأمور كانت أفضل مما هي عليه اليوم، فقد كان بالإمكان انتخاب رئيس الجمهورية بغض النظر عن انتمائه الطائفي والمذهبي، فالرئيس الأول شارل دباس أرثوذكسي (يفرض الميثاق اللبناني حالياً أن يكون مارونياً)، وفي إحدى المرات تم طرح الشيخ نديم الجسر (سني) ليكون رئيساً، إلا أن فرنسا عارضت ذلك لكي لا يدخل لبنان المسار العلماني".
العاطفة لخدمة المصالح
اقتصادياً، على غرار أي دولة احتلال تود خدمة مصالحها، استفادت فرنسا من الثروات اللبنانية. ويقول خير الله إن "العملة الذهبية اللبنانية دعمت الفرنك الفرنسي آنذاك".
واستثمر الفرنسيون نفوذهم المعنوي في لبنان، وصولاً إلى طرح أولوية تلزيم استكشاف الغاز والنفط لشركة "توتال" الفرنسية. وفيما تراجع الدور الفرنسي أوروبياً وعالمياً مع صعود الولايات المتحدة، يقول خير الله إن باريس راحت تستثمر الخطاب العاطفي للحفاظ على صلاتها باللبنانيين، مستفيدةً من "دبلوماسية السفارة" والخريجين ورجال السياسة من حاملي الجنسية الفرنسية، الذين يسهمون في منحها دوراً مهماً في اللعبة السياسية اللبنانية.
وفي أعقاب انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) 2020، وصل ماكرون إلى لبنان حاملاً ما عُرف بـ"المبادرة الفرنسية". فشكّل ذلك حينها "نافذة خلاص" للمواطن اللبناني الذي أمل في أن يساعده الرئيس الفرنسي على التخلص من الطبقة السياسية. لكن في الواقع، ينظر اليوم إلى المبادرة الفرنسية كحبل نجاة للطبقة السياسية التي كانت تبحث عن "سترة بعد ارتكاباتها".
بناءً عليه، لا يستغرب خير الله مطالبة بعض اللبنانيين باستعادة سلطة الانتداب، بسبب انعدام الثقة بالإدارة السياسية، إلى جانب شعور المواطن بأنه "تعرّض للسرقة من قبل البنوك وتهدّد مستقبله وخسر قدرته الشرائية وفقد إمكانات العيش"، مشبهاً اللبناني بـ"الغريق" الذي يبحث عن مخرج من أزمته، قائلاً "هناك ثقة بأنه لو جاء رئيس وزراء بريطانيا أو غيره، كان وجد من يحتضنه في لبنان".
ويخلص خير الله إلى أنه "لا توجد دولة تمتلك الاستقلال التام والسيادة المطلقة، ولكن الصيغة اللبنانية تنقصها بعض الكرامة"، مضيفاً "لا يمتلك أي طرف دولي وحده التأثير الكامل في لبنان، وإلا لتمكّن من حل الأزمة على طريقته، فلبنان محطة لممارسة نفوذ جماعات متعددة بسبب فقدان السيادة".