الرشوة جريمة ثنائية، يشترك فيها الراشي والمرتشي في آن. وقد تكون، أيضا، جريمة ثلاثية، حينما تغض الجهات الرقابية، الإدارية أو الحكومية أو القضائية، الطرف عما يتواطأ عليه العاطي والآخذ.
لكن في السياق العربي، تجد دائما من يقدم تفسيرا أو تبريرا، لهذه المخالفات الأخلاقية والقانونية التي تحدث تحت الطاولة غالبا، وعلى الملأ أحيانا. فالتفسير (أو التبرير) يقول إن طالب الخدمة يحتاج تمرير حاجته بسلاسة أو دون تعقيد، ومن يجلس خلف مكتبه لتلبية حاجات المواطنين يضطر إلى ذلك بسبب ظروف معيشية قاهرة...
فهل يمكن القبول بهذا التبرير؟ وماذا إذا كان طالب الخدمة لا يستحقها؟ وهل باتت الرشوة "ثقافة عامة" في حياتنا؟
في التحقيق التالي إجابات من: العراق، والسعودية، والأردن، ومصر، وتونس، ولبنان، والمغرب.
جريمة بحاضنة اجتماعية اسمها "الواسطة"
يحتل الأردن المرتبة السادسة عربياً من حيث انتشار جريمة الرشوة، التي كان آخر فصولها توقيف مسؤول مركز تطعيم ضد كورونا أصدر شهادات مطعوم كاذبة مقابل مبالغ مالية.
ويشير مراقبون إلى ازدياد حالات الفساد في المؤسسات العامة ومن بينها الرشوة في الآونة الأخيرة، لأسباب عديدة من أبرزها الوضع الاقتصادي والحاجة والفقر وتدني الرواتب.
وعلى الرغم من اعتبار الرشوة من الجرائم المتوسطة والصغيرة في جرائم الفساد، فإنها من أصعب الأمور إثباتاً، ومعظم حالاتها تكون من "طالب الخدمة" إلى الموظف الذي يقدم الخدمة في معظم الحالات.
الرشوة في القانون الأردني
تعرف الرشوة حسب القانون الأردني بأنها قيام موظف عام أو شخص ذي صفة عامة أو منتدب لخدمة عامة، بأخذ أو طلب مال أو هدية أو منفعة أو وعد أو أي أمر فيه منفعة لنفسه أو لغيره لغايات القيام بعمل يعد من واجبات وظيفته.
وعليه، فإن أهم عنصر لقيام جريمة الرشوة هو أن يكون المرتشي أو طالب الرشوة موظفاً في القطاع العام، وتعتبر خيانة للأمانة واستغلالاً للوظيفة لتحقيق مطامعه في كسب غير مشروع، وتنص المادة (170) المتعلقة بجريمة الرشوة من قانون العقوبات الأردني على عقوبة الحبس لمدة لا تقل عن سنتين وبغرامة تعادل قيمة ما طلب أو قبل من نقد أو عين، كما نصت المادة رقم (171) من القانون ذاته على عقوبة الأشغال المؤقتة وبغرامة تعادل قيمة ما طلبه أو قبله نقداً أو عيناً، وتتم معاقبة المحامي بالعقوبة ذاتها إذا ارتكب هذه الأفعال.
ونص قانون العقوبات الأردني على عقوبة للراشي أيضاً، وذلك في المادة 172 منه إذ جاء فيها، "تتم معاقبة الراشي أيضاً بالعقوبات المتضمنة في المادتين السابقتين".
مرض مجتمعي
بدورها، تطلق هيئة النزاهة ومكافحة الفساد حملات توعية حول مخاطر الرشوة وآثارها السلبية على المجتمع، وتشجع الأردنيين على التوجه إلى الهيئة وتقديم شكوى ضد طالبي الرشوة الذين يزيد متوسط عددهم سنوياً على 500 حالة. ويرى أكاديميون وقانونيون في الرشوة أحد الأمراض المجتمعية ذات المنشأ النفسي التي تجد في الفساد الإداري وغياب الرقابة والوازع الديني تربة خصبة، وبحسب هؤلاء، فإن البذرة الأساس للرشوة، التي يجب محاربتها، هي ظاهرة "الواسطة" والمحسوبية التي أصبحت حاضنة اجتماعية لهذه الجريمة، بسبب الطابع العشائري والولاءات الضيقة كعلاقات القربى والنسب في البلاد.
ومن بين الآثار السلبية للرشوة في المجتمع الأردني غياب العدالة والمساواة الاجتماعية والتذمر من الظلم والغبن الاجتماعي وتغليب المصالح الخاصة على المصلحة العامة.
ووفقاً لأستاذ علم النفس الاجتماعي، فايز المجالي، فإن الرشوة سلوك اجتماعي غير سوي، يلجأ إليه الفرد أو الجماعة كوسيلة لتحقيق غايات لا يستطيعون الوصول إليها بالوسائل المشروعة أو بالطرق التنافسية المتعارف عليها، وهي ظاهرة مرتبطة بالتفاوت الاجتماعي والاقتصادي ومستوى التعليم وضعف الأنظمة والقوانين.
الرشوة والشرع
كما أن الدين الإسلامي يحرم الرشوة باعتبارها ظلماً وميلاً عن الحق وعدم رد الحقوق إلى أصحابها. وأصدرت دائرة الإفتاء العام الأردنية فتوى جاء فيها أن "الإسلام حرم الرشوة، ولعن الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم كلاً من الراشي، وهو من يدفع الرشوة، والمرتشي الذي يأخذها".
ووفقاً لدائرة الإفتاء، فإن حرمة الرشوة تزداد إذا أدت إلى أكل أموال الآخرين وحقوقهم، أو إلحاق ظلم بهم. وبينت الفتوى أن من أخذ شيئاً من الرشوة في أثناء توليه المال العام، فعليه أن يعيده إلى خزينة الدولة، وأما من دفع الرشوة، فإن كان أخذ العطاء بأكثر من قيمته الفعلية، أو قصر في إتقانه العمل، فهذا من الاعتداء على المال العام، يستوجب التوبة إلى الله، وإرجاع الحقوق لأصحابها.
في المرتبة 60 عالمياً
تشير نتائج مؤشر الفساد لعام 2020 إلى أن الأردن احتل المرتبة 60 من أصل 180 دولة، واستند المؤشر إلى أمور عدة من بينها مدى انتشار الرشاوى في القطاع العام، إضافة إلى "الواسطة" والمحسوبية، غير أن أخطر ما ورد في رصد ظاهرة الرشوة في الأردن تعرض البعض للابتزاز الجنسي كشكل من أشكال الرشوة.
ووفقاً للكاتب ماهر أبو طير، لم يكن الأردن قبل نحو عقد من الزمن من الدول التي تتفشى فيها الرشوة والفساد مقارنة بدول عربية أخرى، مشيراً إلى ما بات يعرف بـ"الفساد الأصغر" وهي الرشوة، التي تنتشر بكثافة في 20 قطاعا رسمياً وحكومياً بحسب هيئة النزاهة ومكافحة الفساد، ويدور الحديث هنا عن بعض موظفي البلديات وضريبة الدخل ودائرة الأراضي ومفتشي الغذاء والدواء والجمارك.
ويشير أبو طير إلى تراجع ظاهرة "الواسطة" لصالح الرشوة لعدم ثقة المواطنين بالدولة وخدماتها، ويفضلون دفع الرشوة، من أجل حل مشاكلهم.
السعودية توجه قضايا "الرشاوى" بقانون صارم
وفي السعودية تعد الرشوة إحدى الجرائم المنصوص عليها في نظام مكافحة الرشوة، وهي من الجرائم الملحقة به، وتسمى جرائم الوظيفة العامة، ووصف المحامي أحمد المالكي نظام مكافحة الرشاوى في بلاده بـ"الفعال"، وقال "إلى جانب نظام مكافحة الرشاوى فهناك عديد من الأنظمة التي تسهم في مكافحة الفساد في المجتمع، ومنها "نزاهة"، وهي منصة وطنية موحدة تقدمها هيئة الرقابة ومكافحة الفساد تمكن المستفيد من تقديم بلاغ عن أي فساد إداري أو مالي في إحدى الجهات.
وأضاف "لا يجوز أن يتهاون الشخص ويبادر بدفع مال لموظف يطلبه بغير حق، حيث أنه يتقاضى أجراً للقيام بعمله من الجهة التي يعمل بها، أو أن يدفع مالاً ليدافع به عن نفسه أو لأخذ ما يراه حقاً له، فينبغي أن يكون الشخص إيجابياً لا يقر الفساد وينميه، بل عليه أن يمنعه ويحاربه ويتعاون مع المجتمع في القضاء عليه، ويتم ذلك بأن يعظ من يطلب الرشوة ويذكره بأنظمة الدولة في محاربة الفساد والرشوة بدلًا من أن يعطيه ما يطلب، فإِن لم يستجب المرتشي للوعظ أبلغ عنه المسؤولين لمعاقبته، كما يجب أن يتشدد القيمون في الحزم مع المفسدين، وعدم التهاون معهم عبر إنزال العقوبة بهم والتشهير بأساليب العقاب، حتى يكونوا عظة وعبرة لغيرهم من المقبلين على ارتكاب هذه الجريمة، سواء راش أو مرتش أو وسيط بينهما".
العقوبات
من جانبه، حدد المحامي صالح الحارثي العقوبات التي نص عليها النظام السعودي، المطبقة على مرتكبي جرائم الرشاوى، وقال "إن العقوبات تشمل السجن مدة لا تتجاوز عشر سنوات، أو غرامة لا تزيد على مليون ريال (266.566 ألف دولار)".
وينص النظام على عزل الموظف المرتشي من الوظيفة العامة وحرمانه منها، أو القيام بالأعمال التي يعد القائمون بها في حكم الموظفين العامين.
ولا تتوقف العقوبات في القانون السعودي على مرتكبي الجريمة، بل تشمل كل شخص عينه المرتشي أو الراشي لأخذ الرشوة، إذ يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز سنتين، وبغرامة لا تزيد على خمسين ألف ريال (13.33 الف دولار) أو بإحدى هاتين العقوبتين.
ولفت الحارثي أن النظام يعتبر الواسطة والتوصية والرجاء نوعاً من أنواع الرشوة وفقاً للمادة الرابعة منه، التي نصت "أن كل موظف عام أخل بواجبات وظيفته، بأن قام بعمل أو امتنع عن عمل من أعمال تلك الوظيفة نتيجة لرجاء أو توصية أو وساطة، يعد في حكم المرتشي".
وأكد في الوقت ذاته أن النظام السعودي نص على أن المرتشي، هو كل موظف عام، طلب لنفسه أو لغيره أو قبل أو أخذ وعداً أو عطية لأداء عمل من أعمال وظيفته، أو يزعم أنه من أعمال وظيفته، ولو كان هذا العمل مشروعاً، أو للامتناع عن عمل من أعمال وظيفته أو يزعم أنه من أعمال وظيفته، ولو كان هذا الامتناع مشروعاً.
الروتين يقود إلى الرشوة في العراق
وفي العراق، لم تفلح محاولات صادق جاسم (44 سنة) في إكمال تسجيل داره التي اشتراها أخيراً، بسبب روتين دائرة التسجيل العقاري، الذي أدى إلى تكدس طوابير من المراجعين يعرقل مهمة إنجاز أي معاملة إلا بعد عدة أيام.
جاسم، الذي يعمل موظفاً حكومياً، اضطر إلى الاتفاق مع شخص لديه علاقات جيدة بالموظفين في الدائرة، تضمن تسريع إنجاز معاملته مقابل مبالغ مالية تدفع إلى الموظفين، بهدف تسهيل الإجراءات والهروب من البيروقراطية.
المال مقابل الطابور
يقول جاسم إن عدم دفع مبالغ مالية للموظف المسؤول عن المعاملة يعني الانتظار في طابور طويل، وتأخير إنجاز المعاملة إلى أيام وربما أسابيع. مشيراً إلى أن عديداً من الموظفين يمارسون هذه الإجراءات، وهي متعارف عليها، لغرض إجبار المراجع على دفع مبالغ مالية مقابل إنجاز الخدمة العامة له.
لم يكن جاسم وحده الذي يعاني الرشاوى التي يتحتم دفعها للموظف، فجميع الدوائر الحكومية التي لها علاقة مباشرة مع المواطن يضطر العراقيون إلى دفع أموال لتسهيل معاملاتهم، حتى أصبحت ظاهرة متعارفة.
وعلى الرغم من وجود إجراءات قانونية تعاقب الذين يقومون بأخذ الرشاوى والمرتشين على حد سواء، فإن استفحال الظاهرة وضرورة إبراز الأدلة على حدوثها واستفحال الفساد الإداري والمرتشين الكبار جعل من الصعوبة إثبات بعض جرائم الرشاوى، وغض النظر عن أغلبها.
اعتقالات مصورة
ويمثل اعتقال موظفين وفاسدين مهما اختلفت درجاتهم ومواقعهم في الحكومة العراقية أو من المتعاونين معها أمراً مألوفاً لكثرة تلك الحالات، ولعل آخرها القبض على رئيس منظمة "الإصلاح والتغيير"، صباح الكناني، بتهم الفساد والابتزاز، الذي كان يقدم نفسه ناشطاً لمكافحة الفساد.
واعتقل الكناني في عملية أمنية مصورة بدأت من ظهوره وهو يحصل على أموال من مديرين عامين يجري ابتزازهم، ليدخل عناصر جهاز الأمن الوطني إلى منزله بعد دقائق من حصوله على الأموال.
ابتزاز وليس رشوة
وبحسب استبيان لهيئة النزاهة، أظهر أن دوائر المرور هي أكثر الدوائر في أخذ الرشاوى. يقول رئيس الهيئة السابق موسى فرج، إن 95 في المئة مما يحصل حالياً بحق المواطنين هو ابتزاز، ولا يطلق عليه مفهوم الرشوة. مشدداً على ضرورة محاسبة الراشين والمرتشين من كبار الفاسدين من أجل أن يرتدع الصغار.
وأضاف فرج أن "الرشوة بالعراق تصنف إلى جانبين، الأول يتمثل في جانب العمولات والعقود، وإحالة المشاريع وبيع المناصب، وهي ضمن الفساد الكبير الذي يقوم به ليس أطرافاً في الجهاز الحكومي فقط، إنما كبار المسؤولين الحكوميين والحزبيين بالدولة".
وأوضح أن الجانب الآخر هو الرشوة، ويعتبر كتصنيف من الفساد الصغير الذين يرتكبه الموظفون بمختلف درجاتهم سواء في قطاعات الجهاز الحكومي أو مواقع عليا. لافتاً إلى أن دراسة أعدتها هيئة النزاهة بالتعاون مع الأمم المتحدة ووزارة التخطيط أظهرت أن الرشوة مستفحلة في كل أجهزة الدولة.
وتابع فرج، أن الرشوة يجري تفسيرها على أنها كل من يقدم مبلغاً أو وعداً للحصول على منفعة، الذي يسمى الراشي، وتحدد له عقوبة، وكذلك العقوبة للمرتشي، وهذا فهم خاطئ، لكون 95 في المئة من الرشوة السائدة في أجهزة الدولة من المواطن هي في الحقيقة ليست رشوة، مبيناً أن ما يجري حالياً هو دفع الأموال في سبيل الحصول على حقوق المواطن في دوائر الدولة وليس الحصول على حقوق إضافية.
واعتبر فرج أن الموظف الذي يضع العراقيل من أجل الحصول على المال، يقوم بعملية أكبر من الرشوة، وهي اغتصاب المال، وعقوبته يجب أن تكون كبيرة، لأنه ابتز الشخص لكي يدفع.
عوامل مساعدة
وتابع فرج أن هناك ظروفاً ساعدت على انتشار الرشوة، أولها الفوضى السياسية والحكومية، والثاني غياب القانون وعدم المحاسبة على الرغم من وجود قوانين تحارب الرشوة، وكذلك فساد الأعلى. مؤكداً حاجة العراق إلى نظام سياسي يحترم حقوق الإنسان يكون فيه دور للمواطن للقضاء على الرشوة بكل أشكالها.
وبحسب قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 في الباب السادس من الفصل الأول، التي حددت بالمواد (307-314)، فإن العقوبة تفرض على كل موظف أو مكلف بخدمة عامة الذي ارتكب جريمة الرشوة، وهي غالباً ما تكون عقوبات سالبة للحرية (السجن المؤقت)، حددها القانون بأن لا تزيد على عشر سنوات أو الحبس والغرامة على أن لا تقل عما أخذ أو طلب أو أعطى.
ملايين متجذرة في العرف المصري
أما في مصر فالرشوة بطعم "الحلاوة" و"الشاي"، على الرغم من محاولات الدولة كبح زمام الرشاوى وعقاب الراشي والمرتشي.
فالرشاوى كثيرة، لكن جهود التعقب أيضاً كثيرة، ومعها قوانين وقواعد معاقبة متى تثبت عليه التهمة. فمثلاً، "القاضي إن ثبت تقاضيه رشوة لتغيير الحكم لصالح المتهم، فيتم إنزاله فوراً إلى عامل زراعي"، بحسب أدبيات وقوانين مصر القديمة.
وعلى الرغم من هيبة القضاء ومكانته الرفيعة، فإن الأمر لا يعني عدم وجود مرتشين. وحين أرسل مواطن استغاثة طالباً المساندة لأنه فقير والمحكمة طلبت منه ذهباً وفضة وملابس، استجاب الإله وعاقب المحكمة المرتشية.
بتاح حتب
المسؤول المصري بتاح حتب ينتمي إلى الأسرة الخامسة التي عاشت قبل 2500 عام ق.م، ورحل إلى عالم أفضل. والإله الذي استجاب هو الإله آمون، وهو الذي لم يعد يعبد. أما المواطن فما زال موجوداً بمعاناته وأثقال الرشاوى التي تلقى على عاتقه وتثقل ميزانيته سواء كان محظوظاً بوجوده في أرجاء الهرم الطبقي العليا، أو كان رابضاً مرابطاً في القاعدة العريضة العظيمة.
عظمة أسلوب الحياة وقدرة المصريين على التعامل والتأقلم مع ظروفهم المعيشية تتجلى في منظومة "الرشاوى" التي هي أسلوب حياة. مسمياتها كثيرة، ومعانيها عديدة، أما الغاية منها فتبقى واحدة: الحصول على خدمة كان يفترض الحصول عليها من دون مقابل أو برسم منصوص عليه في أوراق رسمية.
الرشاوي نجمة وخمسة
الطريف أن الرشوة في المجتمع المصري تحقق مبدأ المساواة، ليس فقط بين الراشين، ولكن بين المرتشين كذلك. فبدءاً من فرد الأمن أو "السايس" الذي يفرض مبلغاً قد لا يزيد على خمسة أو عشرة جنيهات نظير السماح لأحدهم بإيقاف سيارته في الشارع، مروراً بالموظف الحكومي البسيط الذي يتبع سياسة "الدرج المفتوح" شرطاً لإتمام المعاملات أو في الأقل وسيلة لتسريع إتمامها حيث الرشوة عشرية أو مئوية، وانتهاءً بأرفع المسؤولين الذين يتقاضون فيلات فاخرة أو سيارات فارهة أو حقائب تحوي مبالغ مليونية وغيرها من صنوف الرشاوى خمسة نجوم.
الرشاوى نجمة واحدة يسميها المصريون "الحلاوة" أو "الشاي" أو "الأُبَيِّج" أو "الإكرامية". واقع الحال يشير إلى أن الغالبية المطلقة من المصريين لا تعتبر الرشاوى المتناهية الصغر "رشاوى" من الأصل، بل إن شركات خاصة وأماكن عمل تخصص بنداً يسمونه "إكراميات" أو "نثريات" للرشاوى المتناهية الصغير لزوم إبرام المعاملات والمصالح الخاصة بالعمل، أو في الأقل ضمان سرعة الإنجاز.
أحلى الرشاوى وأغلاها
وتتدرج الرشاوى لتصل إلى أفخم أنواع الرشاوى وأحلاها وأغلاها، وهذا النوع من الرشاوى المخصص لمسؤولين كبار لم يكن معتاداً طيلة عقود مضت، لكن اعتادها المصريون خلال السنوات السبع الماضية. بمعنى أدق، لم تكن أغلب قضايا فساد ورشوة الكبار تعرف طريقها إلى الكشف والعقوبة، بل كانت تمضي بسلام إلا في حالات نادرة. وجانب من هذه الحالات النادرة كان كشفه على سبيل العقاب السياسي.
هذه الآونة، يعرف المصريون تمام المعرفة هيئة قلّما عرفوا طبيعة عملها طيلة عقود. "هيئة الرقابة الإدارية" تتبع رئيس الجمهورية مباشرة. اختصاصاتها كثيرة، لكن أبرزها وسبب شهرتها بين المصريين هو مسؤوليتها عن الكشف عن المخالفات الإدارية والمالية والفنية التي تقع من العاملين في الدولة أثناء مباشرتهم واجبات وظائفهم أو بسببها، وكذلك ضبط الجرائم التي تستهدف الحصول أو محاولة الحصول على أي ربح أو منفعة باستغلال صفة أحد الموظفين العموميين المدنيين أو أحد شاغلي المناصب العامة بالجهات المدنية، والتحري عن حالات الكسب غير المشروع. ومن صميم اختصاصات الهيئة ضبط الجرائم المتصلة بالاختلاس والاستيلاء وتسهيل الاستيلاء على المال العام، والتربح من الوظيفة، والرشوة، واستغلال النفوذ وغيرها من صنوف الفساد والرشوة التي يشكو من شيوعها المصريون منذ عقود وربما قرون طويلة.
أبرز قضايا الرشوة
أبرز قضايا الفساد والرشوة الكبرى التي تم الإعلان عنها في السنوات القليلة الماضية وأدهشت المصريين كانت في عام 2018، إذ تم إلقاء القبض على محافظ المنوفية السابق هشام عبد الباسط واثنين من رجال الأعمال بتهمة الفساد، بعدما ثبت تورط المحافظ السابق في تخصيص قطعة أرض لرجلي الأعمال من دون سند قانوني، في مقابل تلقيه رشوة ضخمة تقدر بنحو 28 مليون جنيه مصري (نحو 1.8 مليون دولار أميركي).
وفي عام 2015، كان موعد المصريين مع قضية رشوة كبرى ولكن تفاصيلها كانت بالغة الدراماتيكية. فقد ألقت الرقابة الإدارية القبض على وزير الزراعة السابق صلاح هلال في ميدان التحرير في وضح النهار وأمام جموع المواطنين، بتهمة الفساد وتلقي رشاوى وهدايا من أجل تسهيل أعمال غير قانونية لرجال أعمال، وتم الحكم عليه بالسجن عشر سنوات.
وفي نهاية عام 2016 كشفت الرقابة الإدارية عن قضية رشوة كبرى عرفت إعلامياً باسم "رشوة مجلس الدولة"، واتهم فيها الأمين العام لمجلس الدولة وائل شلبي الذي توفي في محبسه، بالإضافة إلى مدير المشتريات في مجلس الدولة. يشار إلى أن مجلس الدولة هيئة قضائية وهي الجهة الأولى للإفتاء القانوني في مصر.
وفي نوفمبر الماضي، ألقت الرقابة الإدارية القبض على مدير مكتب وزيرة الصحة والسكان "المريضة" هالة زايد بتهمة الرشوة، وما زالت القضية قيد التحقيق.
سعادة المصريين
قضايا الرشوة "الكبرى" كثيرة وتحفل بها ساحات المحاكم وأماكن الاحتجاز والسجون. وليس خفياً على أحد أن دخول كبار المسؤولين على خط الخضوع للإجراءات القانونية والعقابية لتلقي الرشاوى والتربح من مناصبهم يسعد عموم المصريين ممن ظنوا لعقود طويلة أن فضح أمر كبار المرتشين يأتي ضمن قائمة الغول والعنقاء والخل الوفي.
لكن هذا لا يعني أن منظومة الرشوة لدى المواطن العادي مختلفة. قد تكون أصغر كثيراً، لكنها ليست أفضل كثيراً؛ سيجارة، أو عشرة جنيهات، أو ألف جنيه، "خدمة" بناء مخالف في مقابل "خدمة" نقل الابن العزيز من مدرسة إلى أخرى أو مراعاة "المدام" في الإجازات أو تسريع ترقية ابن العم أو تفعيل علاوة ابنة الخالة، والقائمة تتسع لكل ابتكارات تبادل الخدمات.
ويكفي أن إحدى كبرى مصائب مصر في العصر الحديث ألا وهي البناء المخالف الذي تسبب في تشوه العمران بالمدن والقرى بشكل واضح، بالإضافة إلى البناء على الأرض الزراعية، الذي قلص مساحة الأرض الصالحة للزراعة في مصر، هما نتاج تحالف الرشوة مع غياب الوعي ووهن الضمير.
ما فقدته مصر
بحسب الإحصاءات الرسمية، فقدت مصر منذ عام 1980 نحو 400 ألف فدان من الأراضي الزراعية، منها 90 ألف فدان عقب أحداث يناير (كانون الثاني) 2011 فقط. وحذر أستاذ الإدارة المحلية واستشاري تطوير العشوائيات حمدي عرفة غير مرة من مغبة هذا التحالف. ويكفي أن الانفلات الأمني عقب أحداث 2011 أدى إلى وجود ثلاثة ملايين و240 ألف مبنى مخالف استغل أصحابها الأوضاع في سرعة البناء المخالف وأمنوا أنفسهم بسداد رشاوى للمحليات تحسباً لعودة قدر من النظام.
الطريف والمثير والغريب أن نسبة غير قليلة من المصريين لا ترى غضاضة في دفع "رشوة" في مقابل إتمام إجراء "غير قانوني"، وذلك على الجهتين: جهة الدافع والمدفوع إليه. حجج تدني الرواتب وصعوبة المعيشة كثيراً ما تهدئ من روع ضمير المدفوع إليه. وأعاذير استحالة إنهاء المعاملات الحكومية من دون "تفتيح مخ" ونتبع "ما وجدنا عليه آباءنا" تخلق واقعاً أخلاقياً افتراضياً يرضي الدافع. الأدهى من ذلك أن البعض يعتبر مثل هذه الـ"مدفوعات" "زكاة عن صحته وصحة الأبناء" أو صدقة تذهب لمن يستحقها ولا يتسول بالضرورة.
يشار إلى أن عدداً من القوانين وتعديلات القوانين الخاصة بتعديل هيكل أجور الموظفين الحكوميين صدرت خلال الأعوام القليلة المقبلة. الغاية المعلنة هي تنظيم وضبط الأجور. والأثر الجانبي الإيجابي المأمول كان تعديل الأجور بشكل يسد رمق ضعاف الرواتب والنفوس ممن يسهلون الأعمال المنافية للقانون في مقابل رشاوى.
وبحسب ما ورد في كتاب "الجريمة والعقاب في مصر القديمة"، فقد ذكر المتهم "با – ن- نفر" أثناء التحقيق معه في قضية سرقة مقابر الملوك في عهد رعمسيس التاسع أنه تم إلقاء القبض عليه واحتجازه، لكن تم إطلاق سراحه بعد دفع رشوة لمحتجزيه. قال، "قبضوا عليَّ واحتجزوني في مكتب عمدة طيبة. أنا أخذت 20 قطعة من الذهب، وهو نصيبي، وأعطيتهم إلى الكاتب خع-إم-إيدت، فأفرج عني".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المصلحة الذاتية وضمور قيم العدالة أسهما في تفشي الرشوة بتونس
أما في تونس، وأمام تطور مظاهر الفساد وتحوله إلى ظاهرة مركبة ومنظمة، سارع المشرع، إثر انهيار نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في يناير (كانون الثاني) 2011، إلى سن قانون خاص بمكافحة الفساد.
الرشوة والارتشاء
وعرفت المادة الثانية من المرسوم الإطاري رقم 120 لعام 2011، المؤرخ في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، الفساد بـ"سوء استخدام السلطة أو النفوذ أو الوظيفة للحصول على منفعة شخصية، ويشمل الفساد بخاصة جرائم الرشوة بكل أشكالها في القطاعين العام والخاص والاستيلاء على الأموال العمومية، أو سوء التصرف فيها...".
وتتكون الرشوة من جريمتين مستقلتين، جريمة الإرشاء، وهي بحسب المرسوم المذكور، "الفعل الصادر عن المتعامل مع الإدارة من أجل الحصول على خدمة في وقت قياسي، أو بمقتضى إجراءات مختصرة أو مخالفة للمقتضيات المشروطة، أو من أجل حرمان الغير من خدمة مشروعة، ويدفع للموظف القائم على الخدمة أو لغيره مقابلاً على ذلك، أو يعد به".
أما جريمة الارتشاء فتتمثل في "سعي الموظف العمومي، وبفعل إيجابي منه، إلى الحصول على منافع له أو لغيره مقابل القيام بعمل، أو الامتناع عنه، أو قبول منافع أو عروض مقابل تقديم الخدمة التي تقع ضمن صلاحياته".
توحيد التشريع التونسي
وعلى الرغم من سن ترسانة قانونية في تونس لمقاومة ظاهرة الفساد والرشوة، دعا أستاذ القانون العام، رابح الخرايفي، إلى "ضرورة توحيد التشريع التونسي في مجال مكافحة الرشوة في قانون واحد"، لافتاً إلى أن "المجلة الجزائية تجرم الرشوة بشكل أقل تشديداً مما ينص عليه قانون مكافحة الفساد الصادر عام 2011".
وأشار إلى أنه "منذ عام 2011، تم اعتبار الرشوة نوعاً من أنواع الفساد، وتم تشديد العقوبة على مرتكب جريمة الرشوة، التي قد يصل فيها السجن إلى عشر سنوات".
وشدد الخرايفي على أن "القوانين في تونس موجودة وكافية لمكافحة الرشوة، ولا بد من توحيدها، من أجل تسهيل عمل القضاة، وتحديث هذه القوانين لتواكب المتغيرات المجتمعية". وأضاف أستاذ القانون، أن "تعدد قوانين مكافحة جريمة الرشوة قد يفتح المجال للإفلات من العقاب، من خلال تكييف قضايا الرشوة تكييفاً ذاتياً، ولأغراض لا تخدم العدالة".
وأرجع الخرايفي معضلة تنامي الرشوة في المجتمعات العربية عموماً، وفي تونس خصوصاً، إلى "ثقافة مجتمعية طبعت إلى حد كبير مع هذه الظاهرة".
تنشئة اجتماعية تنزع إلى المصلحة الفردية
في سياق متصل، اعتبر الباحث في علم الاجتماع، معاذ بن نصير، أن "ارتفاع حالات الفساد والرشوة في المجتمع التونسي، يعود إلى المقاربة الاجتماعية التي تتخذ من الرشوة حلاً سهلاً وسريعاً لقضاء أمور إدارية". وأضاف أن "التنشئة الاجتماعية غير السوية أسهمت في انتشار ظاهرة الرشوة، على غرار تنامي ثقافة الربح السريع، وبأقل مجهود بدني وفكري ممكن، علاوةً على ازدهار نزعة حب الذات والنزوع نحو المصلحة الفردية على حساب المصلحة الجماعية".
كما رأى ابن نصير أن "انتشار الرشوة في المجتمع التونسي يعود أساساً إلى عدم الاستقرار السياسي والمؤسساتي الذي تعيشه البلاد خلال السنوات الأخيرة"، لافتاً إلى أن "غياب الرقابة جعل من هذا السلوك يتفشى بطريقة سريعة جداً، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها أغلب أفراد المجتمع، وتدفع البعض إلى الوصول إلى الهدف عبر توخي طرق ملتوية وغير قانونية كممارسة الرشوة".
وأقر بأن "الرشوة آفة اجتماعية ضارة بالمجتمع، لأنها تفضي إلى الظلم، والإثراء بغير حق، وتقضي على مبدأ أساسي للتعايش المشترك، وهو المواطنة وتكافؤ الفرص بين الجميع".
قانون النفاذ إلى المعلومة عزز ثقافة المساءلة
وبخصوص دور المجتمع المدني في مقاومة ظاهرتي الفساد والرشوة، صرح رئيس مرصد رقابة (منظمة رقابية)، عماد الدايمي، بأن "المجتمع المدني يقوم بدور مهم في معاضدة مجهود الدولة في مقاومة الفساد والرشوة"، لافتاً إلى أن "قانون النفاذ إلى المعلومة عزز ثقافة المساءلة في تونس، وسمح لمنظمات المجتمع المدني بتقديم الملفات وإثارة الدعاوى القضائية في عدد من القضايا".
ودعا الدايمي إلى "تعزيز دور المنظمات المدنية في مقاومة الفساد والرشوة"، محذراً من "التوظيف السياسي والتداخل بين السياسي والمالي، الذي قد يشوه المسار الديمقراطي في تونس"، معتبراً أن "توفر الإرادة السياسية في مكافحة الفساد والرشوة هو السبيل الوحيد للحد من هذه الظاهرة".
كما لفت رئيس مرصد "رقابة"، إلى أنه "منذ 25 يوليو (تموز) 2021، تم تعليق عمل هيئة مكافحة الفساد، إضافة إلى هياكل رقابية الأخرى، ما سيحمل المجتمع المدني مسؤولية أكبر في الكشف عن ملفات الفساد ومقاضاة كل من يمس المال العام". وأضاف أن "تضافر جهود مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والإعلام، من شأنه أن يرسخ وعياً مجتمعياً جديداً يرتكز على قيم العدالة، من أجل تنقية المجتمع من شوائب الفساد والرشوة، وهو عمل يومي متواصل".
ظاهرة الرشوة تتفاقم مع أزمة لبنان غير المسبوقة
الفساد في لبنان حكاية طويلة، يعود تاريخها إلى العهد العثماني، حيث عمد الإقطاعيون اللبنانيون إلى شراء الألقاب من الإمبراطورية العثمانية مقابل السماح لها باستباحة الأراضي اللبنانية. وقد عصف الفساد بأركان الدولة التي منذ الاستقلال أخذ فيها منحى خطيراً. ففي عهد الرئيس بشارة الخوري، وهو العهد الأول بعد الاستقلال، أرغم على مغادرة القصر بعد أن أصر على تمديد ولايته، لكن إسراف شقيقه سليم في التدخلات، واستغلال النفوذ، دفع معارضيه إلى إشعال الشارع. أما عهد الرئيس كميل شمعون، فقد أنعش لبنان اقتصادياً، لكنه أنعش أيضاً مجموعة من الفاسدين، وما ثورة عام 1958 إلا مؤشر على بدء تضرر الناس من هذا الفساد.
وصول الرئيس فؤاد شهاب إلى سدة الرئاسة، ووضعه الأسس لمؤسسات الدولة (التفتيش المركزي، والخدمة المدنية، وديوان المحاسبة، والضمان الاجتماعي، ومصرف لبنان)، كبح من تمدد الفساد في الدولة، وازدهر معها لبنان اقتصادياً وإنمائياً، إذ إن الرئيس شهاب اعتبر أن استقرار الوطن ونموه يتحققان بإلغاء دولة الطوائف وبناء دولة المؤسسات. وحاول شهاب وعمل على تطوير ذهنية العمل السياسي، بحيث تصبح السياسة دراسة ورأياً وتوجيهاً ومسؤولية ورقابة ووطنية تتخلص من أثقال الوساطة والاستعلاء على القانون، لكن العهود التي تلت عهده قضت على كل الإنجازات، وشلت عمل المؤسسات الرقابية، وهذا ما سهل انطلاق الحرب الأهلية عام 1975 التي استمرت إلى أوائل التسعينيات، ودفعت بالأحزاب إلى وضع يدها على مرافق الدولة وأصولها. ومع انتهاء الحرب الأهلية تمت قوننة الفساد وحمايته من خلال مبدأ "السلم الأهلي فوق كل اعتبار"، حيث أصبح من شبه المستحيل محاربة أي فاسد، نظراً إلى الحماية التي تؤمنها له طائفته.
تفاقم الرشوة في القطاعين العام والخاص
وقد تزايدت ظاهرة الرشوة في لبنان، بخاصة في السنتين الأخيرتين، أي بعد انهيار الوضع الاقتصادي وانتشار الفقر والعوز، وتدني سعر صرف العملة، بحيث تلاشت الرواتب وفقدت قيمتها الشرائية، الأمر الذي دفع البعض من الموظفين في القطاعين العام والخاص إلى قبول الرشوة بهدف تحسين أوضاعهم. وفي هذا السياق، رأى القاضي السابق حسام النجار في حديث خاص لـ"اندبندنت عربية"، أنه "من الطبيعي أن تنسحب ظاهرة الرشوة على النظام، إذ لم يعد باستطاعة المواطن العادي أن ينجز معاملته بصورة عادية ولا حتى عن طريق الرشوة، كونه لا يملك المال اللازم لذلك، مما يؤدي إلى انهيار ما تبقى من مؤسسات خاصة إذا ما انتشرت هذه الظاهرة في المؤسسات الأمنية، مما يقود إلى خسارة ملاذ المواطن الأخير في الأمن والطمأنينة. في المقابل، إن انتشار هذه الظاهرة في القطاع العام قد يدفع أصحاب النفوس الضعيفة إلى إجراء عمليات تزوير وتغيير حقائق في السجلات الرسمية، مما يسهم بانتشار الفوضى وانعدام الثقة التي تحتاج إلى عقود طويلة لاسترجاعها".
العقوبة ونظم مكافحة الرشوة
أما بالنسبة لنظم مكافحة الرشوة والسبب وراء عدم تطبيقها في لبنان، فيوضح النجار أن "مجلس النواب اللبناني كان قد أقر عديداً من القوانين بهدف مكافحة ظاهرة الفساد في القطاع العام، ومنها قانون الإثراء غير المشروع، وقانون مكافحة تبييض الأموال، وقانون مكافحة الفساد على أن يتم انتخاب القضاة لأعضاء الهيئة وتعيين الحكومة الأعضاء الباقين، فضلاً عن النصوص الموجودة في قانون العقوبات التي تتناول جرائم الرشوة وصرف النفوذ، وتختلف العقوبة بحسب الوصف الجرمي، أي إذا كانت جنحة أم جناية، وهذه النصوص موجودة وتطبق في لبنان، إلان نظام "الوساطة" والأيدي الخفية والعلنية سياسياً وأمنياً ودينياً وقضائياً، تلعب دوراً هاماً في تجنب الملاحقة أو التهرب منها أو تغيير وقائعها والوصف القانوني المعطى لها"، لافتاً في الوقت عينه إلى أن "العائق الأكبر للملاحقة في لبنان هي الحصانات المعطاة لكل الفئات، والتي تشكل حاجزاً أمام القضاء إذا ما أراد القيام بدوره، مما يستتبع ملاحقة المواطن العادي دون غيره".
وعن عقوبات المرتشي والأساليب الرادعة لمكافحة الرشوة قانوناً، يشرح نجار أن "عقوبة المرتشي بحسب نص المادة 351 في حالة الجنحة تتراوح بين 3 أشهر و3 سنوات مع غرامة مالية. أما العقوبة بحسب المادة 352 فهي الأشغال الشاقة المؤقتة، والتي تبدأ من 3 سنوات حتى 15 سنة، وبغرامة ثلاثة أضعاف مما أخذ. أما الرشوة في القطاع الخاص، فعقوبتها تصل إلى سنتين حبساً. أما الأساليب الرادعة فهي تأتي ضمن سلسلة متكاملة من حيث اختيار الموظف الكفء، واعتماد مبدأ الثواب والعقاب وتحسين الرواتب وتفعيل دور مؤسسات الرقابة ورفع الغطاء عن الفاسدين وإطلاق يد القضاء بعد تنقيته وإجراء ورشة تصحيحية".
إن شلل الدولة ومؤسساتها في لبنان وتغلغل الفساد المادي والقانوني كله ناتج من المشكلة السياسية، والمشكلة السياسية مرتبطة بالمشكلة الطائفية، وهذا مرض مزمن عمره من عمر الكيان اللبناني. إن عديداً من المؤسسات استحال أن يلامسه الإصلاح الإداري بسبب الحماية السياسية والطائفية له، فالمسؤول الذي يتعرض للنقد من أي جهة خارج طائفته، ستلتف حوله طائفته، وتدافع عنه. لذا، أعطيت الطائفية أكثر من دورها في إطار الوظيفة العامة، وليس بين الطوائف فحسب، بل حتى داخل الطائفة الواحدة، إذ تتحول الطائفية إلى حامٍ لأفرادها في وجه الدولة والقانون. وتصبح محاسبة الموظف بمنزلة محاسبة لطائفته، وتتساقط قوانين الرقابة والعقاب، حيث لا رقابة، ولا محاسبة، وتسود الفوضى، ويعشعش الفساد.
الرشوة في المغرب... ظاهرة نسقية
ويعاني المغرب كباقي الدول العربية من التفشي الكبير لظاهرة الرشوة، التي أضحت جزءاً من ثقافة التعامل بين المرتفق والإدارة. وارتكز عمل السلطات لعقود على تشديد القوانين في سبيل مكافحة تلك الظاهرة، لكنها ظلت مستشرية في البلاد، الأمر الذي حدا بها إلى اعتماد توجه وقائي عبر وضع آليات عملية ومؤسساتية.
وتوصلت إحدى الجمعيات المغربية في دراسة حديثة، إلى أن الرشوة في المغرب ظاهرة نسقية، ولها آثار اقتصادية تعمل على كبح التنمية. ويؤثر نسقها السلبي واستمرارها على منظومة الآليات الاقتصادية وتشجيع الاستثمار والتماسك الاجتماعي، ما أدى في النهاية إلى بروز نموذج اقتصادي غير مستدام. وأشارت الدراسة إلى أن الرشوة تعمل على تحريف التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلد بشكل عميق، وينتج منها عدم تحفيز الفاعلين الاقتصاديين.
وما يبرهن استمرارية تلك الظاهرة في المغرب، بحسب الدراسة، وجود عدد من المؤشرات منها إدراك الرشوة، إذ حصل المغرب سنة 2020 على معدل 41/100، واحتل الرتبة 86 من ضمن 186 بلداً، إضافة إلى مؤشر جاذبية الاستثمارات الخارجية المباشرة، ومؤشر سيادة القانون، موضحة أن كل هذه المؤشرات ترسم معالم مغرب يعاني من رشوة نسقية ومعممة.
واعتبر رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، محمد الغلوسي، أن "من أهم مظاهر الفساد استمرار سياسة الريع ونهب المال العام والرشوة"، موضحاً أن "المغرب احتل مراتب مخجلة في مؤشرات منظمة الشفافية العالمية، ومع ذلك ليست هناك إرادة سياسية حقيقية للحد من هذه الآفات".
وأكد الغلوسي أن "الفساد والرشوة ونهب المال العام وغياب الدور الحكومي، كلها أمور سببت الاحتقان الاجتماعي في عدد من مدن وقرى المغرب"، لافتاً إلى أن "الصفقات العمومية تستهلك 50 مليار درهم سنوياً في مجال الرشوة، في حين أن بعض المقاولات المحظوظة هي التي تستفيد من الكعكة، كما أن معظم المؤسسات التي يتم إحداثها لمكافحة الرشوة تفتقر إلى الإمكانات".
أسباب بنيوية
كما كشفت الدراسة أن من بين أسباب انتشار الرشوة في المغرب طبيعة المنظومة المؤسساتية والاقتصادية والاجتماعية، باعتبار أن "الرشوة نتاج طبيعي لنمط حكامة غير فعال"، مضيفة أن الأسباب الأخرى تتجلى في "الإفلات من العقاب، وضعف تفعيل القوانين، وانعدام المحاسبة، وإفلاس العدالة وانعدام الشفافية. وفي بيئة من هذا القبيل، فإن ممارسات الرشوة وتوزيع الامتيازات وتبادل الخدمات هي التي تنظم الفضاء العمومي أكثر مما تفعل قواعد القانون".
وأضافت الجمعية في دراستها، أن أغلبية المؤسسات في المغرب تتميز بنسب عالية من الرشوة، إذ يتضح جلياً أن الرشوة والحكم السيئ يشكلان أكبر العقبات التي تعترض التنمية، وذلك لتأثيرهما السلبي للغاية في الاقتصاد والمجتمع. وخلصت إلى أنه على الرغم من تعهد الحكومات المتعاقبة على محاربة الرشوة وجعلها من الأولويات، إضافة إلى تعهد الدولة باحترام الالتزامات الدولية، وإحداث هيئات وطنية لمحاربة هذه الظاهرة، إلا أن الرشوة تستمر في التفشي. فضلاً عن ذلك فإن المواطنين لا ينخدعون بصدق التزام السلطات العمومية لمحاربة الرشوة، إذ أشار 74 في المئة ممن شملتهم الدراسة، إلى أن الحكومة عاجزة عن القيام بعملها في مجال محاربة الرشوة.
وقاية بعد زجر
وبعد عقود من تبني المغرب لتوجه تشديد القوانين بهدف مكافحة الرشوة، وبعد أن تبين استمرار انتشار تلك الظاهرة، عملت البلاد على اعتماد سياسة وقائية عبر آليات عملية، إضافة إلى إنشاء مؤسسات متخصصة مثل "الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها" (حكومية). وفي هذا الشأن، يقول نور الدين العمراني في بحث حول "ملامح السياسة الجنائية في مجال مكافحة الرشوة في المغرب"، "لما كان الارتكاز على المقاربة الزجرية وحدها في مواجهة آفة الرشوة ومكافحتها غير مجد وفعال، فقد راهن المغرب على المقاربة الوقائية للحد منها مع الحرص على تشجيع التبليغ عن الجريمة"، موضحاً أنه قد تجسد ذلك بالأساس من خلال إقرار تدابير حمائية لصالح ضحايا الرشوة والشهود والمبلغين عنها والخبراء من جهة، وإحداث آليات مؤسساتية تسهم في ترسيخ قيم النزاهة والحكامة من جهة أخرى، مضيفاً أنه نظراً لأهمية وفائدة التبليغ عن الجرائم والإدلاء بالشهادة حول وقائعها، خصوصاً إذا تعلق الأمر بجرائم الفساد والرشوة، ولكونه يسهم في بناء الثقة وترسيخ مبدأ المواطنة الحقة ويعزز مشاركة الأفراد في مكافحة الإجرام والوقاية منه، فإن المشرع المغربي، حرصاً منه على هذا التوجه، عمل على إصدار القانون رقم 10.37 الصادر بتنفيذه في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2011، القاضي بتغيير وتتميم قانون المسطرة الجنائية في شأن توفير الحماية القانونية لهؤلاء الأشخاص. وقد تضمن هذا القانون مجموعة من التدابير التي تحمي هؤلاء الأشخاص وأفراد أسرهم وأقاربهم خلال مختلف مراحل المسطرة القضائية، كلما تعرضت حياتهم أو ممتلكاتهم أو مصالحهم الأساسية للخطر أو لضرر مادي أو معنوي.