تشهد العاصمة السودانية الخرطوم وعدد من مدن البلاد الرئيسة، الثلاثاء 30 نوفمبر (تشرين الثاني)، انطلاق مسيرات احتجاجية تحمل اسم "مليونية 30 نوفمبر"، دعت لها تنسيقيات لجان المقاومة وتجمع المهنيين السودانيين، بشعار "لا شراكة، ولا تفاوض، ولا شرعية مع العسكر".
ويأتي استمرار التظاهرات التي اندلعت منذ إعلان قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) حالة الطوارئ وإلغاء الشراكة مع المكون المدني، على الرغم من توقيع اتفاق سياسي بين البرهان ورئيس مجلس الوزراء عبد الله حمدوك في 21 نوفمبر عاد بموجبه الأخير إلى منصبه، إلا أنه لم يجد التأييد الواسع في الشارع السوداني ومكوناته السياسية المختلفة، التي تطالب بإزالة المكون العسكري من المشهد السياسي، معتبرة ما حدث في 25 أكتوبر "انقلاباً عسكرياً كامل الأركان".
وتعد هذه المليونية السادسة منذ إعلان قرارات 25 أكتوبر، والثانية منذ توقيع الاتفاق الثنائي بين البرهان وحمدوك، الذي منذ توقيعه لم تشهد التظاهرات السلمية استخدام عنف مفرط كما شهدته المليونيات الأربع الأولى. فضلاً عن أنها تأتي في ظل تغييرات كبيرة طالت الجيش والأجهزة الأمنية والشرطية، إذ تم إعفاء مدير الاستخبارات العسكرية في الجيش ياسر عثمان، ومدير جهاز الأمن جمال عبد المجيد، وتعيين بدلاً منهما اللواء محمد صبير مديراً لجهاز الاستخبارات العسكرية، والفريق أحمد المفضل مديراً لجهاز الأمن والاستخبارات، إلى جانب إعفاء مدير الشرطة الفريق أول خالد مهدي إبراهيم الإمام، ونائبه الصادق علي إبراهيم، وتعيين بدلاً منهما كل من فريق شرطة حقوقي عنان حامد محمد عمر مديراً عاماً للشرطة، ولواء شرطة مدثر عبد الرحمن نصر الدين عبد الله نائباً له ومفتشاً عاماً.
لكن كيف ينظر المراقبون والسياسيون لمدى واقعية مطلب المحتجين بإبعاد العسكريين من السلطة نهائياً، وإمكانية تحقيق ذلك من خلال الحراك السلمي المتواصل؟
توازن القوة
يوضح مساعد رئيس "حزب الأمة القومي" السوداني للشؤون الولائية عبد الجليل الباشا، قائلاً "أعتقد أن لكل فعل رد فعل، فمن الطبيعي أن ما حدث من استخدام مفرط للعنف أدى إلى مقتل أكثر من 40 متظاهراً منذ إعلان انقلاب البرهان في 25 أكتوبر، الذي بموجبه انقلب على الشراكة مع المدنيين وعطل العمل بالوثيقة الدستورية، جعل سقف مطالب الشارع تعلو اتجاه المطالبة بتنحي القيادة العسكرية والمحاسبة، نتيجة فقدان الثقة في الشراكة من جديد مع هذه المجموعة من العسكريين".
وأضاف "صحيح قد لا تتحقق مطالب الشارع وشعاراته المرفوعة في غضون أيام معدودة لانعدام توازن القوة، فضلاً عن التعقيدات الدولية والإقليمية، وطبيعة الحكومة حالياً، لكن التجربة السودانية المتراكمة في عملية الحراك تؤكد أن الشارع أقوى ويستطيع تحقيق مطالبه مع الوقت. ومع ذلك نعتقد أنه إذا قدمت تنازلات حقيقية في إطار تحقيق مكاسب انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) يمكن أن تكون هناك مساحة للحوار، بشرط أن تتمثل تلك التنازلات في الرجوع من مربع 25 أكتوبر".
وتابع مساعد رئيس "حزب الأمة القومي"، "قد لا تتفق القوى السياسية مع الشارع السوداني في كل خطواته بممارسة الضغط على المجموعة العسكرية الانقلابية وتقديمهم للمحاسبة لتقويضهم النظام الدستوري، لكن تتفق معه على عودة الأوضاع لما قبل 25 أكتوبر، وإلغاء كل القرارات التي اتخذها البرهان بالإعفاء والتعيين في الفترة السابقة". مؤكداً أن اتفاق البرهان - حمدوك منح الشرعية لسلطة العسكر، حيث إن كل الخطوات التي تلت هذا الاتفاق بخاصة تعيين مجلس السيادة الجديد، غير شرعية، ولا بد من العودة إلى الوضع القديم بمشاركة القوى السياسية المؤيدة للانتفاضة حتى تكون الشراكة حقيقية.
إعادة صياغة
في المقابل، يشير أستاذ العلاقات الدولية في إحدى الجامعات السودانية، الرشيد محمد إبراهيم، في تعليقه على استمرار التظاهرات المطالبة بإبعاد العسكريين من المسرح السياسي، بقوله، "يبدو أن الأحزاب السودانية التي فقدت السلطة في الفترة الماضية أصبحت تتعامل برد الفعل، فليس لديها خيار أو بطاقة ضغط تمارسها غير التمسك بمسألة التعبئة والتظاهرات في الشارع، وهي وسيلة وليس غاية في ظل رفع شعار اللاءات الثلاث (لا شراكة، لا تفاوض، لا شرعية) مع العسكر، بالتالي يبقى الفعل السياسي ناقصاً ولن يكون هناك حصاد في المجهود الذي يبذل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونوه إبراهيم بأن "سيناريوهات المليونيات التي تنظم من وقت لآخر في الشارع السوداني تحتاج إلى إعادة صياغة، بخاصة في ظل ما تشهده من تناقص عددي واضح في كل مرة، فالكم أمر مهم جداً في هذه الحالة، بالتالي ما يحدث في هذا المشهد الخاص بالحراك الجماهيري خصم كثيراً من رصيد تلك التظاهرات، في ضوء وجود خطوات حثيثة من قبل الحكومة لاستيعاب لجان المقاومة في بعض أجهزة الحكم، لا سيما المجلس التشريعي، والتشاور معهم في العديد من القضايا الوطنية، فضلاً عما يتم من قبل المحتجين بإغلاق الشوارع والطرقات بالمتاريس، ما يؤدي إلى الاحتكاك مع الشرطة والمواطنين باعتبارها مسألة غير مقبولة، لأن ذلك يعطل حركة السير".
وحول مطالب إبعاد المكون العسكري عن السلطة، قال أستاذ العلاقات الدولية، "من الصعب إبعاد المكون العسكري حالياً عن أجهزة الحكم، فالأحزاب التي تنادي بهذا المطلب هي من أعطت العسكريين هذا الحق، بالتالي يصبح من غير المقبول المطالبة بذلك، خصوصاً في ظل الانهيار الأمني والاقتصادي الذي حدث بعد إطاحة نظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل (نيسان) 2019، حين أصبح التعويل على المؤسسة العسكرية أمراً مهماً للتصدي للتفلتات الأمنية في كثير من مناطق البلاد، إلى جانب المهددات التي يتعرض لها السودان في حدوده الشرقية. وبالتالي فإن الحديث عن إبعاد العسكريين عن المشهد السياسي مسألة غير مقبولة، وغير عملية، لكن الطريقة الوحيدة لخروج المكون العسكري من المسرح السياسي هي إجراء الانتخابات العامة في مواعيدها، وهو السؤال الذي يحتاج إلى إجابة".
إطلاق سراح المعتقلين
ولم ترشح أي تسريبات حول أسباب التغييرات التي طالت الأجهزة العسكرية والأمنية والشرطية في البلاد، إلا أنها أتت بعد إطلاق سراح عدد من الشخصيات السياسية البارزة، والوزراء والناشطين الذين أوقفوا منذ 25 أكتوبر، لدى مراكز تابعة للاستخبارات والأمن، على دفعات على مدى الأيام الماضية، من بينهم وزير مجلس الوزراء السابق خالد عمر يوسف، وقبله زعيم "حزب المؤتمر" عمر الدقير، ونائب رئيس "الحركة الشعبية لتحرير السودان - قطاع الشمال" مستشار حمدوك السابق ياسر عرمان، ووزير الإعلام حمزة بلول، والمستشار الصحافي لحمدوك فيصل محمد صالح، وغيرهم.
كما جاءت تلك التطورات والتغييرات بعد أن أكد رئيس الحكومة عبد الله حمدوك أنه سيحقق في مقتل عشرات المتظاهرين الذين سقطوا منذ فرض القوات المسلحة الإجراءات الاستثنائية الشهر الماضي، وحل الحكومة.
وكانت القوات المسلحة السودانية نفذت فجر 25 أكتوبر حملة توقيفات شملت العديد من السياسيين، والناشطين والقيادات الحزبية، ما دفع منظمات مدنية أساسية في البلاد إلى الدعوة إلى تظاهرات واسعة، مؤكدة رفضها مشاركة العسكر في الحكم.