46 عاماً بعد وفاتها في باريس، تدخل الفنانة الأميركية السوداء جوزفين بيكر، اليوم، إلى محفل العظماء في فرنسا، الـ"بانتيون"، وبذلك تلتحق بمجهولة هذا المحفل، سوفي بيرتولو، زوجة عالم الكيمياء مارسولان بيرتولو، وبعالمة الفيزياء الشهيرة ماري كوري، وبالمقاومة جونفييف دوغول أنتونيوز، وعالمة الإثنولوجيا جيرمان تييون، والنائبة والوزيرة الغنية عن التعريف سيمون فاي.
خمس نساء فقط حظين إذاً قبل بيكر بهذا الشرف، مقابل 75 رجلاً. قرار يحمل في ظاهره رسالة قوية ضد العنصرية، لكن في العمق، وكما أشار إلى ذلك عديد ممن انتقدوه، تتابع فرنسا تقليداً طويلاً يقوم على فضح العنصرية خارج حدودها، وعلى تمويهها في الداخل. وفعلاً، على الرغم من السمعة الطيبة التي تحظى بيكر بها في فرنسا، برز القرار المذكور الهوة السحيقة بين العقيدة الرسمية لهذا البلد الذي يرفع شعار الشمولية (universalisme)، وبعض المعارضين الذين يرون أنها طمست عقود من العنصرية المنهجية.
دخول بيكر اليوم إلى الـ"بانتيون" نتيجة سنوات من الجهود التي بذلها رجال سياسة فرنسيون ومنظمات غير حكومية وشخصيات كبيرة، آخرها العريضة التي دعا إلى توقيعها لوران كوفرمان، الباحث في شؤون الجمهورية الفرنسية، الذي صرح إلى وكالة "أسوشييتد برس": "من المحتمل أن يكون الوقت أكثر ملاءمة اليوم لترديد صدى نضالات بيكر: محاربة العنصرية ومعاداة السامية، ودورها داخل المقاومة الفرنسية"، مضيفاً أن "البانتيون هو المكان الذي ندخل إليه ليس لأننا نتحلى بشهرة كبيرة، بل لما قدمناه للروح المدنية للأمة".
ضد العنصرية
موافقة الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون على هذا القرار لقيت في فرنسا ترحيباً باعتباره غير مثير للجدل ووسيلة لمصالحة مختلف شرائح المجتمع الفرنسي بعد المشاكل التي سببها وباء "كورونا" وتظاهرات العام الماضي ضد عنف الشرطة الفرنسية. تظاهرات انطلقت إثر مقتل المواطن الأميركي الأسود جورج لويد في الولايات المتحدة على يد أحد عناصر الشرطة الأميركية أثناء توقيفه، وهدفت إلى التنديد بوفاة عدد من المواطنين الفرنسيين السود في فرنسا أثناء احتجازهم.
بالنسبة إلى داعمي قرار استقبال بيكر في الـ"بانتيون"، تمثل هذه الفنانة النهج الشمولي لفرنسا الذي يعتبر أن سكانها مواطنون متساوون، ولا يحددهم عن طريق العرق أو الأصل الإثني، مرتكزاً في ذلك على المادة الأولى من الدستور الفرنسي التي تنص على أن الجمهورية الفرنسية وقيمها ذات طابع شمولي، تضمن تمتع جميع المواطنين بالحقوق نفسها، بغض النظر عن أصلهم أو عرقهم أو دينهم.
في عام 1938، التحقت بيكر بما يسمى اليوم LICRA، وهي رابطة مناهضة للعنصرية تجهد منذ فترة طويلة من أجل دخول الفنانة إلى الـ"بانتيون". وإثر إعلان القرار المذكور، صرح رئيسها ماريو ستازي: "كانت تحب بشغف الشمولية (universalisme) وفرنسا التي لا تهتم بلون البشرة. حين وصلت من الولايات المتحدة، فهمت أنها جاءت من بلد "طائفي"، حيث كان يتم دوماً تذكيرها بأصولها العرقية، إلى بلد شعرت فيه بالقبول التام".
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشموليين في فرنسا ينعتون المعارضين المناهضين للعنصرية بـالـ"طائفيين"، لكونهم يضعون الهوية الطائفية قبل المواطنة الفرنسية الشاملة. أما المجموعات الراديكالية المناهضة للعنصرية، فيؤكدون أن فرنسا تحتاج أولاً إلى أن تأخذ في عين الاعتبار العنصرية المنهجية والقمع اللذين يعانيهما ذوو البشرة السمراء.
روخايا ديالو، معلقة فرنسية حول مسائل العرق، صرحت بأن "الشمولية يوتوبيا وأسطورة ترويها الجمهورية الفرنسية عن نفسها ولا تتوافق مع أي واقع حاضر أو ماضٍ. بالنسبة إلى أبناء البشرة السمراء، لطالما كانت هذه الجمهورية فضاء لعدم المساواة". وهو ما أكده محامون ومناضلون لحقوق الإنسان بسردهم قصص تمييز عنصري حقيقية حدثت مع كم كبير من الأشخاص المتحدرين من أصول أفريقية أو عربية، سواء في الإسكان، أو في التوظيف، أو في تعامل الشرطة معهم.
باريس السوداء
من جهتها، أشارت المرشدة الفرنسية السوداء، كيفي دونات، التي تعمل في شركة "باريس السوداء" السياحية، إلى أن بيكر هي "الشخصية الأكثر إثارة للجدل لأنها اكتسبت في البداية شهرتها في فرنسا عبر رقصها بحزام من الموز حول خصرها، معززةً بذلك الصور المنمطة حول السود والأفارقة (...)، وغالباً ما كانت تقول إن العنصرية تنخر الولايات المتحدة، بينما ترحب فرنسا بجميع السود الأميركيين، كما لو أننا متقدمون عن المجتمع الأميركي، ولا مشكلة لدينا على هذا الصعيد!".
يشار إلى أن بيكر هي من بين عديد من الأميركيين السود البارزين الذين وجدوا ملاذاً من العنصرية الأميركية في فرنسا بعد الحربين العالميتين، نذكر منهم الكاتب الكبير جيمس بالدوين. وإضافة إلى شهرتها كمغنية وممثلة مسرحية، تجسست بيكر لصالح المقاومة الفرنسية، وسارت جنباً إلى جنب مع مارتن لوثر كينغ جونيور في واشنطن، وعنيت في تربية عدد كبير من الأطفال الذين تبنتهم من مختلف أنحاء العالم، وكانت تلقي عليهم تسمية "قبيلتي الملونة". ولذلك، يرى ستازي أن "نضالها ذو طابع شمولي، والهوية القومية لم تكن تهمها، بالتالي فهي تندرج تماماً داخل النضال (الفرنسي) من أجل "الحرية والمساواة والأخوة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن فرانسواز فرجيس، أستاذة العلوم السياسية في قضايا الثقافة والعرق والاستعمار، تعتبر أن هذه الحقائق لا تعني أي شيء، وأن "اللفتات الرمزية" مثل استقبال بيكر في الـ"بانتيون" لا تكفي لوضع حد للتمييز العرقي الذي "ما زال إلى حد اليوم يتحكم بحياة الناس في بلدنا". وحول قول كوفرمان إن العنصرية في فرنسا كانت موجودة، لكنها لم تكن ذات طابع مؤسساتي، كما في أميركا، ترى أن مثل هذه التصريحات تعتم على تاريخ فرنسا الخاص بالعنصرية والاستعمار، الذي يتضمن حرباً وحشية على الجزائر، حين قرر أبناء هذا البلد التحرر من سلطة المستعمر الفرنسي. وتضيف: "من الأسهل دائماً الاحتفاء بأشخاص ليسوا من بلدنا، لأن ذلك يجنبنا التشكيك في وضع دارنا".
وحول بيكر تحديداً، فسرت فرجيس بأن "الانتقال للعيش في بلد آخر يمكن أن يوفر لأي شخص بعض الحماية من العنصرية، فقط لأن السكان المحليين يرونك مختلفاً على أي حال، أميركياً أكثر منه أسود، كما في حالة بيكر. ترتبط عنصرية أي بلد بتاريخه الخاص. هناك أيضاً فرنسيون سود في الولايات المتحدة يجدونها أقل عنصرية من فرنسا، لأن كونهم فرنسيين يحميهم من أن يعاملوا مثل الأميركيين السود".
وهذا تحديداً ما أشار إليه الكاتب بالدوين في حوار أجرته معه مجلة "لو نوفل أوبسرفاتور" الفرنسية عام 1983: "في فرنسا، أنا أميركي أسود لا يمثل أي تهديد للهوية الفرنسية. عملياً، كأنني غير موجود، لكن ستكون لي قصة مختلفة تماماً، لو كنت سنغالياً، وأغنية شديدة المرارة، لو كنت جزائرياً".