يتساءل البعض عن سبب هبوط أسعار النفط في الفترات الأخيرة رغم تخفيض أوبك+ للإنتاج، ورغم تخفيض السعودية لصادراتها النفطية إلى الولايات المتحدة لمستويات تاريخية، في وقت شدّدت فيه حكومة ترمب عقوباتها على إيران وفنزويلا، وكون أسعار برنت المستقبلية أقل من الحالية، موحيةً بأن هناك انخفاضا في الإمدادات النفطية مقارنة بالنمو على الطلب.
إلا أن منحنى أسعار برنت المستقبلية يوضح مشكلتين: الأسعار لم ترتفع كما يجب وفقا لشكل المنحنى، كما أنه يوضح أن هناك انفصالاً تامّاً بين تجّار النفط في الأسواق الفورية والمضاربين في البراميل الورقية. وهناك من يرى أن عدم تجاوب المضاربين مع نقص الإمدادات يعود إلى نقص كبير في السيولة، ومتى توفّرت هذه السيولة فإنهم سيتجاوبون مع وضع السوق.
وفيما يلي أهم النقاط الأساسية التي تشرح سبب الانخفاض في أسعار النفط في الفترات الأخيرة:
1- انخفاض أسعار النفط لا علاقة له بإنتاج النفط الصخري الأميركي. حاليا، نمو إنتاج النفط الصخري متوقف.
2- توقف العديد من المصافي الأميركية أو وحدات فيها عن العمل، إما لأعمال الصيانة الدورية، أو نتيجة أعطال مفاجئة أو مشاكل تتعلق بالطقس، وحوادث في قناة هيوستن. توقف المصافي يعني انخفاض الطلب على النفط الخام، وبالتالي ارتفاع مخزونه.
3- انخفاض صادرات الولايات المتحدة من النفط بسبب مشاكل في قناة هيوستن- بدأت بحريق ضخم في مصنع للبتروكيماويات، تبعها فيضان بسبب الأمطار الغزيرة.
4- ارتفاع مستويات مخزون النفط الخام إلى مستويات عالية، حيث تجاوزت مستويات عام 2015، وتقترب من مستويات عام 2016. المخزون حاليا أعلى مما يجب أن يكون عليه بحدود 80 مليون برميل.
5- انخفاض معدلات النمو الصناعي في عدد من الدول الأوروبية والآسيوية، بما في ذلك الصين. النمو الصناعي يعد أحد المعايير الأساسية للنمو الاقتصادي، وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي يعني انخفاض معدلات نمو الطلب على النفط.
6- استمرار الدولار الأميركي في الارتفاع، والذي من شأنه تخفيض الطلب على النفط في الدول التي تنخفض عملتها مقارنة بالدولار. انخفاض العملة يعني ارتفاع أسعار النفط بالعملة المحلية. كما أن استمرار الدولار في مستويات عالية يشجع الشركات في بحر الشمال وروسيا والصين على زيادة إنتاج النفط، لأن أغلب تكاليفهم بالعملة المحلية المنخفضة، بينما يبيعون النفط بالأسعار العالمية مقيمة بالدولار أو ما يكافئ الدولار.
7- هناك اقتناع لدى كثيرين بأن إيران وفنزويلا ستستمران بتصدير النفط رغم العقوبات الأميركية، وبالتالي فإن ما يعتبره البعض نقصاً في الإمدادات هو نقص وهمي. ويؤيد هذا الفكرة تاريخ طويل من العقوبات الاقتصادية التي فشلت على مدى أكثر من 100 عام.
8- المخزون العائم، وهو المخزون في ناقلات نفط ضخمة، في ارتفاع في عدة مناطق. فمنذ شهر مارس (آذار) الماضي تضاعف المخزون العائم الإيراني ثلاثة أضعاف، بينما تضاعف المخزون في بحر الشمال، وتضاعف المخزون في الصين في الأسابيع الثلاثة الأخيرة.
9- هناك نظرية تقول إن سبب ارتفاع المخزون في الولايات المتحدة وانخفاض صادرات النفط هو قيام المصافي الأميركية بتخزين أنواع معينة من النفط توقعاً منها بنقص الإمدادات عالميا، في وقت يُباع فيه النفط الأميركي بأقل من خام برنت بنحو 8- 9 دولارات للبرميل، ومنحنى الأسعار المستقبلية لغرب تكساس في صعود، وليس في هبوط كما هي حال برنت، وتكاليف التخزين في سواحل خليج المكسيك هي الأقل في العالم. ويرد على ذلك بأنه إذا كان هذا هو الواقع، فإن هذا يعني بالضرورة أن جزءا كبيرا من المخزون الأميركي هو من أنواع غير مرغوبة من النفط، وبالتالي فإن المخزون الفعلي الذي يمكن استخدامه منخفض، وهذا من شأنه رفع الأسعار وليس تخفيضها.
10- هناك نظرية تقول إن الطلب على النفط أضعف مما هو متوقع وإن الصين زادت وارداتها من النفط للتخزين التجاري والاستراتيجي تحسبا لنقص الإمدادات الإيرانية بسبب العقوبات الأميركية وخوفا من تطور الحروب التجارية مع الولايات المتحدة، إلا أن البعض ظنّ أن زيادة الواردات تعكس زيادة الطلب على النفط. ومع ارتفاع أسعار النفط ستقوم الصين باستخدام هذا المخزون بدلا من استيراد النفط، وهذا يعني انخفاض أسعار النفط في الوقت الذي يتوقع فيه الكثيرون ارتفاعها. وهذا ما فعلته الصين في العام الماضي، حيث استخدمت المخزون، ثم ملأته بعد انخفاض الأسعار.
رغم كل الأدلة السابقة لا بد من ذكر أن عدداً كبيراً من تجّار النفط مقتنعون بأن السوق النفطية خارج الولايات المتحدة تعاني من عجز في الإمدادات وأن الأسعار سترتفع في كل الحالات. وبافتراض صحة هذه النظرية فإنه من الواضح أن الارتفاع سيكون محدودا في عام 2019 بسبب ارتفاع المخزون وارتفاع الدولار، إضافة إلى الآثار السلبية للحروب التجارية.
لماذا التركيز على الولايات المتحدة
يتساءل البعض أيضا عن سبب التركيز الدائم على الولايات المتحدة، وسبب تغير الأسعار الدائم مع تغيرات المخزون الأميركي، وعن سبب المفاجآت الدائمة في المخزون الأميركي وعما إذا كان هناك "مؤامرة" أميركية وراء أرقام المخزون.
الولايات المتحدة الأميركية هي أكبر منتج وأكبر مستهلك للنفط في العالم، وهي الوحيدة في العالم التي تصدر بيانات أسبوعية عن المخزون والإنتاج والصادرات والواردات، بينما بيانات الدول الأخرى تأتي متأخرة في الأقل شهر أو شهرين. لهذا يهتم المستثمرون والتجار وكل المهتمين بالصناعة بالبيانات الأميركية، على الرغم من أن البيانات الأوروبية والآسيوية، بخاصة الصين والهند، مهمة جداً. ونظراً لتركيز الجميع على البيانات الأسبوعية الأميركية كان من المنطقي أن تركز السعودية على تخفيض صادراتها للأسواق الأميركية لأنها هي الأسواق الظاهرة للعيان ويراها كل الأطراف، ويتصرفون بناء عليها.
تغير المخزون التجاري يرمز إلى صافي التغير في الطلب والعرض على النفط. فإذا كان المعروض أعلى من الاستهلاك، يرتفع المخزون، وإذا كان المعروض أقل من الاستهلاك ينخفض المخزون. لذلك فإن المخزون التجاري هو أقرب مؤشر حقيقي لوضع الطلب والعرض في منطقة ما، ومن هنا تنبع أهميته، وتتغير أسعار النفط بتغيره.
ليس هناك أي مؤامرة وراء تغير أرقام المخزون بشكل مفاجئ، رغم أن الدرس التاريخي من أسواق النفط هو أن كل شيء ممكن. القانون يجبر الشركات على تقديم بيانات المخزون لإدارة معلومات الطاقة الأميركية أسبوعياً، ثم تقوم الإدارة بجمع المعلومات وتقدير المخزون. من الصعب جداً التنبؤ بهذا البيانات لأنها تعتمد على الإنتاج والاستهلاك والصادرات والواردات وكمية النفط المتدفقة في الأنابيب وكمية المخزون السابق، وأنواع النفوط والمنتجات النفطية المختلفة، إلا أن شركات المراقبة التي تبيع بيانات المخزون والشحن تقوم بمراقبة مستويات المخزون بالأقمار الصناعية وبالطيران فوق المنشآت المختلفة وتصويرها، والآن تستخدم الطائرات بدون طيار "الدرون"، ثم يقومون بتحليل الصور وقياس مستويات المخزون حسب الظل في الخزانات.
أما معهد النفط الأميركي، فإن الشركات الأعضاء فيه تتبرع بتقديم بيانات المخزون أسبوعيا، لذلك هناك تفاوت بين بيانات المعهد وبيانات إدارة المعلومات. هذا يعني أن بيانات إدارة المعلومات أشمل كونها إجبارية، ولكن كونها إجبارية لا يعني بالضرورة أنها دقيقة؟
مما سبق يتبين أنه من الصعب توقع بيانات المخزون بدقة، كما أنه من الصعب قياس المخزون بدقة. لذلك لا غرابة في المفاجآت، سواء في الزيادة أو النقص.
ختاما، ستبدأ مخزونات النفط الأميركية بالانخفاض مع عودة المصافي للعمل، وسترتفع الأسعار، إلا أن هذا الارتفاع سيكون محدودا لأسباب عدة، وأغلب التغيرات ستكون في الفروقات السعرية بسبب وفرة النفط الخفيف والخفيف جدا من جهة، وندرة النفط الثقيل من جهة أخرى.