كان التجوال يشكل ثاني اهتمامات الكاتب الفرنسي ستاندال (هنري بيل) بعد كتابة الروايات وحتى قبل كتابته سير الكبار وكتب التحليل الفني التي أبدع فيها وانعكست على رواياته الكبرى وبخاصة "دير بارما" و"الأحمر والأسود"، علماً بأن أسلوبه في كتاباته غير الروائية كان يبدو دائماً أقرب ما يكون إلى الكتابة الروائية. ولعل في إمكاننا أن نلفت في هذا السياق إلى أن النجاحات، وربما الأرباح كذلك، التي كان يحققها من كتاباته غير الروائية غالباً ما كانت تفوق نظيرتها من الروايات.
كتاب سياحي للإنفاق على الإجازة
وهكذا، مثلاً، حين حدث لستاندال في عام 1836 أن أخذ إجازة ليرتاح من عمله القنصلي في تشيفيتا فيكيا في إيطاليا ليرتاح قليلاً من عبء النشاط الدبلوماسي، ثم أحس أن راحته لن تتوافر من دون حصوله على بعض المال، اتخذ قراراً "سهلاً" بنشر كتاب سياحي للحصول على مكافأة من ناشره وهو واثق أنه لو اختار أن يكتب رواية، لما حصل على ما يكفيه من المال. بالتالي ولد لديه كتابه الفذ "مذكرات سائح" الذي صدر بالفعل في عام 1838 واعتبر من أجمل ما كتب في هذا المجال، حتى وإن كان قد أنجزه لمجرد أن يدرّ عليه أموالاً تمكنه من الاستمتاع بالعيش وقد بلغ حينها أواسط عقده السادس. وبديهي أن نقول هنا إن المتعة كانت مزدوجة: متعة السفر والتجوال، ومتعة الحصول على ما هو في حاجة إليه من المال!
روعة على رغم "السرقات"
لكن النقد الذي تناول هذا الكتاب لم يأخذ في اعتباره هذين البعدين، بل تعامل مع "مذكرات سائح" كواحد من الكتب الأكثر قوة وجمالاً التي كتبت في مجال أدب الرحلات في ذلك الزمن. ومع ذلك كانوا قلة من النقاد أولئك الذين التفتوا حقاً إلى واقع أن ستاندال لم يكن "المؤلف" الوحيد لذلك النص. حتى وإن بدا واضحاً أن صاحب "الأحمر والأسود" قد استعار فقرات بكاملها من كتاب "سياحي" هو "رحلة في الجنوب الفرنسي" لزميله وصديقه الكاتب بروسبير ميريميه الذي كتب العديد من المؤلفات في مجال الآركيولوجيا مجاراة لوظيفته الرسمية التي تجعله مسؤولاً عن آثار الأزمان الغابرة في دائرة حكومية، وفقرات أخرى بكاملها أيضاً من نصوص للكاتب لوي ميّيان مستقاة من كتاب علمي لهذا الأخير عنوانه "رحلة إلى الجنوب". وفي مجمل الأحوال لم يعتبر النقاد الرئيسيون أن في الأمر سرقة. لماذا؟
توافق على الصمت
بكل بساطة لأنه كان هناك توافق كتوم على عدم اعتبار ستاندال عالماً أو باحثاً في الآركيولوجيا، بل ولا حتى كاتباً يهتم بالحجر أو بما يمكن أن يرصد من طبيعة أو عمران أو ما شابه ذلك. كان ستاندال يعتبر عبقرياً في وصف البشر وأحوالهم وعلاقاتهم وارتباطهم بالأمكنة التي يعيشون فيها. ومن هنا بدا الأمر في النهاية وكأن القسمة عادلة بين الحديث عن البشر كما يبرع فيه الكاتب الكبير ستاندال، وبين الحديث عن الحجر كما كان يتجلى عند ميريميه ولو بلغته الأدبية الراقية، أو عن التاريخ والجغرافيا كما كان بارزاً عند مييان. ولنذكر أن هذين لم يعترضا أو يشتكيا مما فعل زميلهما بل كثيراً ما أعلن ميريميه نفسه إعجابه الغامر بكتاب "مذكرات سائح" من دون أن يبدي أي ملاحظات على استعارات ستاندال. فقد كان يعرف تماماً أن ما يعود إلى هذا الأخير في الكتاب إنما هو الأساس ولا يمكن أن يكون ثانوياً في الكتاب. وما يعود إلى ستاندال لم يكن بالشيء اليسير على أي حال. وذلك بالنظر إلى أن هذا المؤلف ملأ الكتاب بالحكايات واللقاءات والملاحظات التي يتسم معظمها بتهكم مدهش ناهيك عن الاستناد إلى معلومات تعد بالمئات في ما يخص كل فصل من فصول الكتاب؛ من دون أن يتردد كلما دعت الحاجة عن التوقف عما يحكيه ليوصل قارئه إلى ما يشبه القصص القصيرة التي يؤكد له أنها مستقاة من الحياة نفسها، كحكاية التاجر الذي التقاه يتجول مثله من مدينة إلى أخرى يمارس تجارة الحديد ويتبادل معه حديثاً صاخباً ومشاكساً ما يجبره في كل لحظة على أن يذكّر القارئ بأنه "لا يشاطر رفيق السفر هذا أياً من أفكاره السياسية" على رغم أن القارئ سيلاحظ بسرعة أن ستاندال يستعرض تلك الآراء السياسية بقدر من التعاطف يتواكب مع قدر من السخرية اللطيفة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من عربة إلى أخرى
وعلى هذا النحو تتوالى فصول الكتاب التي تتجول بنا بين عدد لا يستهان به من المناطق الفرنسية حيث نرافق الكاتب من عربة إلى أخرى ومن نزل إلى آخر ونصغي إليه وهو يسهب في وصف أحداث الطريق وصعوبات الانتقال وغرابة أطباع رفاق السفر والمشادات التي تقوم بينهم، بحيث يشكل ذلك كله صورة تكاد تكون متكاملة عن أوضاع البشر وأحوالهم وأخلاقهم ومعنوياتهم في زمن التغيرات الفرنسية الكبرى الذي كانته تلك الحقبة من التاريخ الفرنسي، بما في ذلك حديثه الشيق عن السياسات المحلية في كل منطقة من المناطق، كما عن التوافقات والاختلافات ليس فقط بين أحوال مدينة وأخرى، بل حتى عن التنافس والتكامل الاقتصادي بينها، لا سيما عن التجارة وتبدل أحوالها انطلاقاً من ملاحظة كثيراً ما توقف ستاندال عندها وفحواها أن أكثر المسافرين في رفقته وعلى متن العربات نفسها إنما كانوا من التجار الذين تمكن من خلال تبادل أحاديث مسهبة معهم أن يتوصل إلى رسم صور بالغة الثراء للتبادلات التجارية بين المناطق الفرنسية، الأمر الذي جعل عدداً من الباحثين لاحقاً يلاحظون قرابة بين هذا الكتاب وبين التوصيف الذي سيقدمه إميل زولا للحياة الاجتماعية الباريسية لاحقاً في "آل روغون – ماكار" بأجزائه العشرين بحيث قال بعض النقاد مازحين "إن زولا احتاج 20 مجلداً ليصف الحياة الباريسية فيما لم يحتج ستاندال لأكثر من 300 صفحة لوصف الحياة في فرنسا كلها!".
بانوراما متكاملة
غير أن ثمة من بين الباحثين من لاحظ أن ستاندال لم يصف في هذا الكتاب تلك الحقبة وحدها من التاريخ الاجتماعي الفرنسي بل تجاوز ذلك بشكل جعل كتابه يبدو شبيهاً ببانوراما مسهبة تتناول صورة الإنسان الفرنسي ومجتمعه خلال مرحلة ما بعد الإمبراطورية النابوليونية بحيث يبدو الكتاب أقرب إلى أن يكون "جردة حساب" لفرنسا بأسرها تحت حكم لويس – فيليب. وربما كان ذلك هو السبب المباشر الذي جعل كثراً من القراء يستنكفون عن قراءة الكتاب كله عندما اشتروه بوفرة معلنين خيبة أملهم إزاءه. ولكن لاحقاً وحيث راح "مذكرات سائح" يفسر من قبل الباحثين والنقاد بشكل تدريجي راح الكتاب يستعيد مكانته، لا سيما لدى قراء ستاندال الأوفياء الذين أدركوا سوء تقديرهم في البداية لما فيه، مستعيدين ثقتهم بكاتبهم المفضل إلى درجة أنه ما إن مرت السنوات حتى راحت الطبعات تتزايد، بل حتى راحت النظرة التي ألقاها ستاندال على فرنسا تترسخ وتصبح النظرة المعتمدة.
مكان الصدارة
غير أن تلك "العودة" لم يكن من شأنها أن تعيد إلى مؤلف الكتاب زهوه هو الذي كان برحيله عن عالمنا في عام 1842؛ أي بعد أقل من أربع سنوات على صدور الكتاب، قد فاته أن يرصد تغيير موقف قرائه تجاهه وبشكل بالغ الإيجابية. إذ كان "مذكرات سائح" واحداً من تلك الكتب التي لا تُكتشف إلا متأخرة وأحياناً بعد أن يكون قد فات الأوان. ومع ذلك عرف أدب ستاندال كيف يستعيد مكانة كبيرة بفضل ذلك الأوان الذي فات ليعتبر "مذكرات سائح" واحداً من مؤلفات "الكاتب الراحل" الكبرى إلى جانب "الأحمر والأسود" و"دير بارما" وعدد كبير من كتب إبداعية ودراسية جعل لستاندال مكان الصدارة في زمنه وربما في الأزمنة اللاحقة.