أثارت مسألة تعطيل مصالح الجمارك التونسية عملية تصدير لإحدى الشركات التونسية الرائدة في صناعة اليخوت البحرية الصغيرة الفاخرة من دون أي سبب أو مبرر قانوني، ما عطل نشاط هذه الشركة، استياءً في عالم الأعمال والاستثمار في تونس مما تُقدم عليه الإدارة التونسية من ممارسات أضحت مُنفرةً للاستثمار المحلي والأجنبي على حد سواء، وتسببت هذه العملية في تأخير تسليم هذه الشركة طلبياتها إلى حرفييها في الخارج على الرغم من أن صاحبها المستثمر الأجنبي قرر توسيع نشاط الشركة، وأحدث مواطن شغل جديدة.
وقال المحامي المتخصص في مجال الأعمال، أرسلان بن رجب، وعضو المكتب التنفيذي لكونفدرالية المؤسسات المواطنة التونسية (منظمة الأعراف في تونس)، إن شركة أجنبية رائدة في تونس منعت من التصدير من دون سبب أو توضيح، وذلك يوم الثالث من ديسمبر (كانون الأول) 2021، منتقداً بشدة تعامل الدولة ومؤسساتها مع الشركات والمستثمرين.
وكشف عن أن شركة أجنبية تابعة لمجموعة عالمية رائدة، موجودة في تونس منذ عام 2014، تنتج "قوارب فاخرة" في منطقة الهوارية (شمال شرقي تونس) بمعدل أربع وحدات في الأسبوع مخصصة حصرياً للتصدير منعت لأكثر من أسبوعين من تصدير منتجاتها من دون الإعلام رسمياً أو كتابياً أبداً من السلطات التونسية، وعبر عن استنكاره من الموقف غير المفهوم للإدارة التونسية، ما سبب تراكم الإنتاج من دون تصدير ومداخيل، إذ تنتظر اليوم ثماني وحدات (قوارب) التصدير في أحد الموانئ بمنطقة الإنتاج، و20 في المصنع بانتظار الانطلاق في التصنيع وتسع في خط التجميع تنتظر التسليم من دون جدوى.
وأكد ابن رجب أنه "نظراً لصمت السلطات، وعدم وجود تبرير يجب إيقاف الإنتاج بسبب عدم وجود مساحة لوضع يخوت جديدة، وسيتم التخلي عن 250 عاملاً، بينما تكتفي السلطات بالصمت"، معلقاً، "هذه قصة نجاح تونسية أخرى تتحول لكابوس". وتابع، "تم الاتصال بكل السلطات المعنية، وإرسال مكاتبات إلى كل مستويات الإدارة، لكن الإدارة التونسية لم ترد، ولم تتفاعل". وعلق المتحدث أيضاً أن الضرر الذي يسببه ذلك كبير، موضحاً أن الشركة المعنية تحصلت على شهادة إيداع إعلان استثمار لإنجاز مشروع جديد بمبلغ إجمالي قدره 24 مليون دولار، ولكن وعلى أثر هذه الإشكالية، تم إقرار التخلي نهائياً عن مشروع وتدمير علاقة الثقة.
الإدارة عنوان للتعطيل
ليست هذه المرة الأولى التي يتذمر فيها المستثمرون التونسيون، والأجانب، لتعاطي الإدارة التونسية، لا سيما في علاقة مباشرة مع الاستثمار، إذ لا يزال الفاعلون الاقتصاديون يعبرون عن امتعاضهم من التعطيلات الإدارية وبطء الإجراءات لتسريع إنجاز الأعمال، وكلما أتيحت الفرصة تذمر المستثمرون من تعاطي الإدارة مع ملف الاستثمار، وأن العنوان البارز كان المماطلة والتسويف وكثرة الوثائق وتعقد القوانين وتشعبها، ما جعل استقطاب الاستثمار في تونس يعاني عديداً من الصعوبات، بدليل أنه ما انفكّ يتراجع من سنة إلى أخرى، ويبرر المشرفون على المصالح الإدارية بأنهم ينفذون ما تم وضعه في القوانين من فصول قانونية وجب اتباعها واحترامها، علاوة على أهمية التحري من الوثائق في علاقة بالمشاريع.
دعونا نستثمر
وأطلق طارق الشريف، رئيس كونفدرالية المؤسسات المواطنة التونسية صيحة فزع، منادياً السلطات الساهرة على الاستثمار إلى ترك رجال الأعمال التونسيين في العمل والاستثمار في ظروف طيبة ومريحة من دون تضييق من الإدارة التونسية. وأكد الشريف، وهو أيضاً من أهم الصناعيين والمستثمرين في تونس، أن دراسة أنجزتها الكونفدرالية، الشهر الماضي، أظهرت أن نحو 50 في المئة من المؤسسات المشمولة بالدراسة، تعتبر أن الإطار الضريبي الحالي غير محفز وغير مشجع، وأن لديها عديداً من الضغوط الجبائية، وانتقد تعامل جهاز الجمارك مع الصناعيين، لافتاً إلى أن الدراسة ذاتها أفرزت أن نحو 35 في المئة من الشركات المستجوبة ترى أن جهاز الجمارك يمثل عائقاً لتطوير نشاطها. ودعا، في هذا الصدد، الإدارة الضريبية في تونس إلى اتخاذ إجراءات من أجل التخفيف من الضغوط على المؤسسات حتى تستعيد أنفاسها، علاوة على وجوب رقمنة الإدارة والتقليص قدر الإمكان من الوثائق، مستدلاً في ذلك على أن عدداً من الدول الأفريقية، جنوب الصحراء، تجاوزت تونس بكثير في مجال تعصير الإدارة.
تراجع نوايا الاستثمارات الصناعية
وسجلت نوايا الاستثمار في القطاع الصناعي خلال الأشهر الـ10 الأولى من هذه السنة تراجعاً بنسبة 16.9 في المئة، ليعكس هذا المؤشر الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر به تونس، ولا سيما الضبابية، وعدم وضوح الرؤية السياسية، فضلاً عن التعطيلات الإدارية المكبلة، ووفق البيانات التي نشرتها وكالة النهوض بالصناعة والتجديد (حكومية)، فقد بلغت قيمة نوايا الاستثمار إلى نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من هذا العام نحو 697 مليون دولار مقابل نحو 839 مليون دولار في الفترة نفسها من العام الماضي، لتتأكد بالتالي أن تونس لم تعد وجهة جاذبة للاستثمار، سواء المحلي أو الأجنبي في ظل ما عرفه من صعوبات اقتصادية وتشدد إداري، علاوة على أنها أضحت ذات مخاطر استثمارية مرتفعة نسبياً.
حبر على ورق
وأعلنت حكومة هشام المشيشي، المعفى من مهامه، في 25 يوليو (تموز) 2021، منذ شهر يونيو (حزيران)، اعتزامها حذف 25 ترخيصاً وتعويضها بكراسات شروط قبل نهاية سنة 2021 ضمن الاستراتيجية المتبعة لتنشيط الاستثمار ودفع المبادرة الخاصة والتقليص من القيود الإدارية وتعدد التراخيص، ولكن هذا القرار لم يفعل حتى الآن، وظل حبراً على ورق بسبب الوضعية الاستثنائية التي تمر بها تونس على أثر إجراءات 25 يوليو بتعليق أعمال البرلمان وتجميد جانب من الدستور، وكان الغرض من حكومة المشيشي في تلك الفترة أن تنخرط هذه الإجراءات ضمن منهجية برنامج مراجعة تراخيص تعاطي الأنشطة الاقتصادية عبر استهداف حذف 10 في المئة (25 ترخيصاً) من جملة التراخيص مع إمكانية تعويضها بكراسات شروط، ضمن البرنامج الحكومي للتخفيف من تعقيدات الإجراءات الإدارية والبيروقراطية، عبر حذف مجموعة من التراخيص في مجالات معينة، بخاصة أن تونس في حاجة لتنشيط الاستثمارات الداخلية والخارجية في مرحلة ما بعد جائحة فيروس كورونا، وتتعلق أبرز قائمات حذف التراخيص في استغلال محلات بيع التبغ (إسناد جديد) ورخصة استغلال محلات بيع التبغ، وتم الاتفاق في هذا الإطار على الترخيصين، وسيقع حذف ترخيص في استغلال طائرات لا يفوق وزنها 5.7 طن في أنشطة الترفيه والتنشيط السياحي أو العمل الجوي، وترخيص في استغلال النشاط الترفيهي والتنشيط السياحي أو العمل الجوي بواسطة الطائرات الخفيفة جداً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان من المقرر حذف ترخيص توريد وتسويق الأجهزة والمنظومات الإلكترونية وحذف ترخيص إحداث مساحة تجارية كبرى، أو مركز تجاري، بالإضافة إلى حذف ترخيص لإنجاز مصانع الأسمنت الرمادي والأبيض وصناعة الجير.
وفي قطاع الطاقة، ستحذف الحكومة ترخيصاً في إنجاز مشاريع الإنتاج الذاتي للكهرباء من الطاقات المتجددة المرتبطة بشبكة الجهد المنخفض إلى جانب حذف الترخيص في إنجاز مشاريع الإنتاج الذاتي للكهرباء من الطاقات المتجددة المرتبطة بشبكة الجهد العالي والمتوسط.
وفي القطاع السياحي، تقرر آنذاك حذف الموافقة المسبقة والنهائية على مشاريع الإيواء السياحي وعلى مشاريع التنشيط السياحي (الاستضافات العائلية)، وحذف الموافقة النهائية، يشار إلى أن مسألة حذف التراخيص وتعويضها بكراسات شروط ظلت مطلباً متواصلاً وملحاً من عدد من المستثمرين التونسيين والأجانب باعتبار أنها تشكل عائقاً أمام إنجاز المشاريع في آجال قصيرة.
إصلاح منظومة الاستثمار
وأمام تسارع الأحداث واستباق الأوضاع قبل أن تزيد في التردي، أقر سمير سعيد، وزير الاقتصاد والتخطيط، بأنه من الضروري أن تلعب الإدارة، وبخاصة في العلاقة بالاستثمار، دوراً أكبر وأرفع من أجل أن تكون عاملاً فاعلاً في جذب الاستثمار، وكشف عن بعض ملامح الإصلاحات الاقتصادية التي تنوي حكومة نجلاء بودن المضي فيها، مؤكداً أنه "حان وقت الإصلاحات العميقة بطريقة تشاركية وتضامنية من مختلف الأطراف المعنية من خلال إصلاح منظومة الجباية وتغيير قانون الشغل وترشيد العمل الإداري وتحسينه، ودفع نسق الاستثمار الخاص الداخلي والخارجي الذي يمثل أحد عناصر خطة التنمية التي ستعتمدها الحكومة". أضاف أنه من بين الإصلاحات الاقتصادية المزمع تنفيذها "إصلاح منظومة الاستثمار من خلال تغيير عدد من القوانين المعقدة التي تتطلب تبسيطها، والمرور إلى اقتصاد المعرفة والمرونة".