عادةً ما يُخيم الحزن على قلوب الألمان في شهر ديسمبر (كانون الأول) الذي يتسم بأجواء قاتمة تغيب عنها الشمس إلى حد كبير. لكن هذا العام برمته كان كئيباً بوجه خاص على الدولة الأوروبية الرائدة، حيث يعيش الملايين في مزاج سيئ في وقت يبدو أن كل الأمور لا تسير على ما يرام.
فقد كانت عدوى الشكاوى تتفشى في ألمانيا ويُمكن اقتفاء جذورها إلى مرض سارٍ آخر، ألا وهو فيروس "كوفيد-19" الذي ارتفعت حصيلة وفياته إلى حد كبير، إثر الموجة الخريفية التي ضربت الدولة التي يسودها الاستقطاب [السياسي] على نحو متزايد، وكانت منفلتة العقال طوال فترة طويلة. وما يزيد الطين بلة فقدان الرأي العام على ما يبدو ثقته في القادة المنتخبين وقدرتهم على التعامل مع هذه المرحلة الحاسمة من الجائحة وإرث البلاد بعد الحرب الثانية، وسط ترقب لتغيير الحكومة المرتقب في الأسبوع المقبل.
زد على ذلك، قساوة المشهد في الشوارع والمحلات التجارية التي شهدت خلافات لا حصر لها حول ارتداء الأقنعة والتطعيم، في وقت تستعد فيه ألمانيا لتنصيب مستشار جديد من يسار الوسط، أولاف شولتز، يوم الأربعاء – في تغيير للسلطة يختتم 16 عاماً من الحكم المحافظ.
ولو أن الظروف عادية، لكان وصول حكومة شولتز الجديدة -التي تضم مروحة من القادة التقدميين اليافعين- بشيرَ تفاؤل. ولكن ليس هذا العام. فآخر مرة استولت فيها حكومة يسار الوسط على السلطة تحت حكم الديمقراطي الاشتراكي غيرهارد شرودر عام 1998 كانت أجواء البلاد مشحونة بطاقة وفيرة [مستعدة] للتغيير بعد 16 عاماً من حكم المحافظين الخانق، لكن ليس هذه المرة.
فهذه المرة، سيتسلم "ائتلاف الإشارة الضوئية" Ampelkoalition -الذي سُمي تيمناً بألوان الأحزاب الممثلة فيه، الأحمر والأخضر والأصفر على التوالي- مهامه الحكومية بقيادة شولتز تحت راية "الحزب الديمقراطي الاشتراكي" (SPD)، وسيشمل كلاً من الخضر المؤيدين البيئة (اللافتة الخضراء) والديمقراطيين الأحرار المؤيدين الأعمال التجارية (اللافتة الصفراء). ففي النهاية، الحكومة العتيدة هي رابع حكومة يقودها "الحزب الديمقراطي الاشتراكي" منذ عام 1949.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" المحافظ الذي سيطر على سياسات ألمانيا ما بعد الحرب محتفظاً بالسلطة والنفوذ مدة 52 عاماً من مجمل 72 عاماً، قد هُزم في انتخابات سبتمبر (أيلول) الماضي بزعامة المستشارة أنغيلا ميركل وسينضم إلى جبهة المعارضة لأول مرة منذ عام 2005. وبالنسبة إلى ميركل البالغة من العمر 67 سنة، فقد قررت التقاعد من العمل السياسي بنهاية الفترة التشريعية الحالية.
أوليست إدارتها الضعيفة للأزمة الصحية المستفحلة منذ انتخابات سبتمبر هي التي فاقمت الشعور العام بالكآبة والضيق؟!
"المزاج في ألمانيا اليوم رديء حقاً بعدما فقد الشعب ثقته في قدرة أي حكومة على إدارة الأزمة"، يؤكد البروفيسور توماس جاغر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كولونيا، لصحيفة "الاندبندنت"، "يمكنك أن تلمس الغضب والإحباط بنفسك لو كنتَ واحداً من الأشخاص غير المحظوظين الذين يقفون في البرد القارس ساعات طويلة منتظرين ومتأملين، أحياناً من دون جدوى، تلقي جرعة معززة من لقاح كورونا في أحد مراكز التطعيم. يبدو ألا شيء يعمل اليوم على ما يرام ويفترض به".
في بداية الجائحة، عولت الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات في ألمانيا على سياسات مستندة إلى العلم، وقد منحتها هذه السياسات سمعة طيبة بين دول العالم. فبفضلها وبفضل مستشفياتها ونظام رعايتها الصحية الممول جيداً، تمكنت من إبقاء معدل الوفيات جراء فيروس كورونا عند مستويات متدنية. بالمختصر المفيد، حتى شهر خلا تقريباً، استطاعت ألمانيا درء الأسوأ من فصول الجائحة عن شعبها.
أما الآن، فقد بات التنافر والتضاد سيد الموقف، والسبب: استهتار الحكومة طيلة الحملة الانتخابية أواخر أشهر الصيف والفشل في إدارة الأزمة من خلال عدم إتاحة عدد كافٍ من الجرعات ومراكز التطعيم، ناهيك بالتردد في تلقي اللقاح الذي ترك نحو ثلث الألمان من دون تطعيم.
"لا بد أن الحكومة تعتقد بأننا جميعاً أغبياء"، علق نيكولاس بلوم، كبير المراسلين السياسيين لدى شبكة "آر تي أل" التجارية البارزة. "ففي الآونة الأخيرة، ارتكبت ميركل أخطاءً جسيمة وينطبق الشيء نفسه على خليفتها أولاف شولتز. من الواضح أنه لا يريد أن تكون له أي علاقة بسياسات كورونا حتى يتسلم مهامه رسمياً. لكن عندئذ سيكون قد فات الأوان على ألمانيا؛ وهذه بنظري، بداية سيئة جداً لولايته".
وبالاستناد إلى استطلاع أجرته "دويتشلاند تريند" يوم الجمعة لصالح "الهيئة العامة للبث الإذاعي في جمهورية ألمانيا الاتحادية" (ARD)، فإن 18 في المئة فقط من الألمان راضون عن إدارة الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات الجائحة، فيما 79 في المئة منهم غير راضين أو غير راضين أبداً. وتأتي هذه النتائج لتُتوج ارتفاع نسبة الذين يعتبرون جهود الحكومات في مكافحة الجائحة غير كافية إلى 60 في المئة في الأشهر الأخيرة.
فبينما كانت الحكومة المنتهية ولايتها تنتظر تشكل الائتلاف الجديد، حلق معدل الإصابات اليومي بفيروس كورونا عالياً، ووصل إلى معدل مثير للقلق بلغ 442 حالة لكل 100 ألف شخص بدءاً من يوم السبت في 4 ديسمبر الحالي، وذلك بعدما كان سجل انخفاضاً إلى ما دون 50 حالة لكل 100 ألف شخص أواخر الصيف.
وفي غضون الساعات الأربع والعشرين الماضية، توفي 378 شخصاً جراء كورونا في ألمانيا، أي أكثر بواقع 100 شخص عن الأسبوع الماضي وعشرة أضعاف معدل الوفيات اليومي المسجل في الصيف. ويتناقض هذا العدد على نحو صارخ مع دول أوروبية أخرى، مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا التي تضررت بشدة في المراحل الأولى من الجائحة، ولكن لديها الآن معدلات تطعيم أعلى ومستويات إصابة أقل بكثير.
كذلك، ارتفع عدد حالات الاستشفاء في ألمانيا إلى نحو ست حالات لكل 100 ألف شخص، متسبباً باكتظاظ بعض المستشفيات في مناطق الجنوب والجنوب الشرقي الأكثر تضرراً واضطرارها إلى الاستعانة بالقوات الجوية الألمانية لنقل المرضى إلى مستشفيات في الشمال قادرة على استيعابهم. وفي منطقة ساكسونيا الأشد تأثراً بالتحديد، ارتفع معدل الإصابة بالعدوى إلى 2143 حالة لكل 100 ألف شخص.
وقد حمل ذلك عدداً من الدوائر الحكومية [المحلية] على منع الأشخاص غير الملقحين من ارتياد الأماكن العامة المغلقة من مطاعم ومقاهٍ ومتاجر ومسارح في ولايات عديدة، وإغلاق أبواب الحانات والنوادي في وجه الجميع في ولايات أخرى. هذا بالإضافة طبعاً إلى حصر ركوب الحافلات والقطارات والطائرات في الملقحين ضد كورونا أو المتعافين منه أو الحاصلين على اختبارات تشخيص سلبية. وفي الوقت الحاضر، تنظر الحكومة الجديدة في إمكانية جعل التطعيم إلزامياً اعتباراً من مطلع العام المقبل، ضاربة عرض الحائط بشكاوى غير الملقحين من انتهاك مثل هذا الإلزام حقوقهم.
"عادةً ما نختلف في هذه الفترة من العام حول تحديد موعد تناول عشاء عيد الميلاد"، كتب كريستيان لانغبهن في عمود في صحيفة "بيلد" (Bild) يوم السبت. "لكن لخلافنا هذا العام عنوان مختلف هو أحوال اللقاح [ضد فيروس كورونا]".
وأضاف "قررت أختي وزوجها عدم تلقي اللقاح؛ وقرارهما هذا قسم الأسرة إلى جبهتين وفجر نحوهما الكثير من العدائية في العمل ووسط الأقرباء والأصدقاء. ومذاك وهما يشعران بالاضطهاد والتمييز والدموع لا تُفارق عينيهما. يظهر أن مسألة التلقيح تقسم بلادنا وتُمزق عائلاتنا".
وفي بعض المناطق، بدأت المعركة حول متطلبات التطعيم المحتملة تتخذ منحى سيئاً، كما حدث في ساكسونيا، حيث استُدعيت الشرطة لتفريق حشد من 25 متظاهراً يحملون المشاعل، من أمام منزل الوزيرة بيترا كوبينج التي تنادي بفرض قيود على غير الملقحين.
يومها، أطلق المتظاهرون على أنفسهم اسم "ساكسونيا الحرة" وهتفوا بأعلى صوتهم "سلام وحرية ولا ديكتاتورية". وما كان على الشرطة إلا أن تتغلغل بينهم وتُشتتهم وتُغرمهم لانتهاكهم قواعد [التجمع أثناء] "كوفيد".
© The Independent