عرفت من رجال ليبيا، من عاش قرناً من الزمان، مثل الراحل وهبي البوري (1916- 2010)، كاتب القصة والمؤرخ، الدبلوماسي والسياسي، إذ كان سفيراً ووزيراً، في وزارات عدة في العهد الملكي، وقبل المترجم، عمل مذيعاً في إذاعة روما في ثلاثينيات القرن الماضى، وفي روما عرف وعاش مع الفلسطيني المفتي أمين الحسيني، والثائر العراقي رشيد عالى الكيلاني.
واليوم 7 ديسمبر (كانون الأول)، يرحل مصطفي بن حليم (مواليد 29 يناير/ كانون الثاني 1921)، الذي ولد في الاسكندرية، ونال من جامعتها بكالوريوس الهندسة. وقد عاد إلى البلاد ليعين عام 1950 وزيراً للأشغال، وفي عام 1954، كُلف برئاسة الحكومة، ثم تقلد العديد من المناصب، منها سفير ليبيا في فرنسا. وبعد مغادرته الحكومة، أسس العديد من الشركات الناجحة والمعروفة حتى اليوم. وهو من أوائل الليبيين الذين نشروا مذكراتهم. وقد أثارت مذكراته كثيراً من ردود الأفعال، خصوصاً من جهة العقيد معمر القذافي، الذي استُفز كثيراً عقب إصدارها. وبناء على هذا الإصدار، تم نشر مذكرات وكتب من زملاء له في العهد الملكي وغيرهم.
كتاب "صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي - مذكرات رئيس وزراء ليبيا الأسبق مصطفي أحمد بن حليم"، الصادر في طبعة يتيمة عام 1992، في 900 صفحة، يثير أهم الثوابت، في نشأة الدولة الليبية، إذ إن بن حليم هو رئيس الوزراء الثالث، وكانت حكومته، في الفترة من أبريل (نيسان) 1954 حتى منتصف 1957. ومن المعضلات البنيوية التي شكلت كيان الدولة وواجهت حكومة بن حليم:
أ- الشح الاقتصادي الذي عطل الدولة وأعاقها، ووضع على الحكومة، مستلزمات خلق سبل غير تقليدية، من أجل زيادة موارد البلاد.
ب- النقص في السيادة الوطنية، المتمثل في عدم وجود جيش وطني حديث. ما جعل من "الجيش السنوسي" الذي تكون خلال الحرب وشارك فيها لبنة ممكنة لتأسيس جيش وطني، لأجل استكمال صورة "السيادة الوطنية"، بحسب مفهوم ذلك الزمان.
ونجد مذكرات السيد رئيس الوزراء بن حليم مسكونة بهذه الهواجس، مما ترتب عليه أن المهمة الرئيسة للحكومة إخراج البلاد من هذه الزاوية الحرجة، التي مكونها من المكون الأساس للبلاد، المترامية الأطراف، البلاد الصحراء، وسكانها قلة وتعيش الكفاف. وبن حليم عاش سنوات حكومته كسياسي يبيع بضاعة غير مرغوبة. بالتالي، أظهرت مذكراته والوثائق التي احتوتها، دهاء ومكراً مميزين، في تركيبة شخصيته. وهما زاده الذي يفخر به، في مواجهة هذا القدر المحتوم، بلاد فقيرة ومعدومة الإمكانيات، ورجل محنك عار. فعمل بن حليم لتوظيف هذه العيوب، في معارك سياسية حبلها قصير لكنه متين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
1- استغل الوجود العسكري الأجنبي، القواعد الأميركية والإنجليزية، ومن ثم القوى الأميركية والضعف الإنجليزي أمامها، كمورد ينمو من أجل التنمية الاقتصادية.
2- عمل من وجود القوى العسكرية الأجنبية على أرض البلاد سنحة من أجل تكوين وتطوير جيش رمزي، يعطي للدولة هيبة رمزية.
3- استفاد من المعطيات التي انتجتها الحرب العالمية الكبرى، من مفهوم السيادة الوطنية في الدولة الحديثة، ودور الشعوب وحقها في تقرير مصيرها.
4- استخدام الحرب الباردة، التي أعقبت الحرب الثانية، في حلّ العقبات التي تواجه حكومته، لتدارك نواقص الدولة وسيادتها الوطنية. لذا، عمل على التوجه نحو الاتحاد السوفياتي، وأقام علاقة دبلوماسية معه، كوسيلة "ضغط" تبرر غاياته. واتخذ من النظام "الثوري الناصري" الجديد في مصر، كما عضيد، لتوطيد دعائم دولة "عربية مستقلة".
5- في المحصلة، لعب كسياسي لدعم الاقتصادي، واتخذ من التهديدات الأمنية، لضعضعة استقرار البلاد، كوسيلة لبناء جيش صغير، وملحق لقوات أمنية مركزية، عرفت بالقوة المتحركة.
مذكرات بن حليم، كما مذكرة توضيحية، تبين كيف أنه استفاد من العطب البنيوي للدولة الليبية المنقوصة السيادة، وجعل من عيوبها محلاً لنهوضها. فإذا كانت البلاد محكومة بأنها عرجاء فبالضرورة ألا تدخل في مسابقات للجري، لكن هذا لا يمنع أن تدخل في مسابقة لألعاب القوى، تعتمد اليدين مثلاً. هكذا تبدو "المذكرات" تبياناً لكيف يكون رجل الدولة، صانعاً لظروفه وليس مستسلماً لها: لقد جعل وجود "القواعد الأجنبية" ضرورة لسد الاحتياجات الملحة، وعمل على إقناع الأطراف المخالفة بقبول ذلك كعلاج بـ"الكي" و"مؤقت" لا محالة. أما مسألة "جيش وطني"، فلم يجعل منها قضية ملحة، بل من لزوم ما لا يلزم للدولة الحديثة. ولهذا، تظهر المذكرات على أنها ليست من مسائله ولم تقلقه: وما لم يفصح عنه هو أن "العدو" المفترض دولي. عليه، فإن أرض البلاد مدججة بقوى عظمى لمواجهته، وأن العدوان الإقليمي مستبعد لأسباب عدة، أهمها أنه محكوم بالمعطى الدولي. فهل يعول على بناء "جيش وطني"، مهمته الرئيسة والواضحة حينها، الانقلاب على نظام الحكم، كما حدث في مصر الجارة الكبرى... لذا، وجود قوى رمزية، تكفل للدولة شكل "السيادة الوطنية"، هو ما لزم بن حليم نفسه به، كما أنه في هذا ينفذ إرادة ملكية.
إذا كانت المذكرات حافلة بزهو بن حليم بدهائه وحنكته، فإنها تبين أن مبدأ الرجل هو أن ما لا يُطال كله لا يُترك كله. وفي هذا كان ينتمي إلى جيل عصامي، في عصر الإنشاء وما بعد الاستعمار. ولقد قام بمهمته كما رأى من دون تردد، وعاش مُعاركاً كجيله. الشغل عنده هو الترف والترفيه ووسيلة الراحة. وعندما قامت ثورة فبراير (شباط) 2017، ظهر كشيخ شاهد. وذكر أن ليبيا في الطبيعة، صنعت من مكابدة الصحراء، وفي التاريخ من حرب شعواء استعمارية، ومن حرب كبرى أوروبية ثانية. وبن حليم شهد بذلك - خلال قرن - كشاهد من أهلها.