في كل يوم يمر، يزداد الوضع المالي لـتونس تعقيداً وتدهوراً. ويدلل على ذلك عجز البلاد عن دفع مستحقات ثلاث بواخر راسية في موانئ محافظة صفاقس منذ أيام عدة وترفض الشركة المصدرة إفراغ شحناتها من الحبوب قبل الحصول على مستحقاتها.
وسط ذلك، أتت الصدمة التي أحدثها التقرير الجديد الصادر عن "بنك أوف أميركا" ويتناول المالية العمومية في تونس وصعوبة سدَ الثغرات في الموازنة.
ويتوقع التقرير أن تصل فجوة التمويل الخارجي إلى 1.9 مليار دولار خلال الربع الأخير من السنة الحالية، ما قد يؤدي إلى تأخر تونس في سداد ديونها ومواجهتها نقصاً في الموارد الذاتية.
ويلفت التقرير إلى أن الدعم المالي الإقليمي لتونس غير مضمون على المدى القصير، لأن أي دعم ثنائي سيُمنح لها في المستقبل يتطلب إعادة هيكلة محتملة للدين العمومي من خلال التوجه إلى "نادي باريس". ما سيعمّق الأزمة الاقتصادية للبلاد.
السير بخطى ثابتة نحو "نادي باريس"
يجزم محسن حسن، وزير التجارة الأسبق، بأن تونس تسير بخطى حثيثة نحو "نادي باريس"، ويستند في رأيه هذا إلى "مؤشرات اقتصادية تقدمها الموازنة التكميلية لسنة 2021، واللجوء المفرط إلى الاقتراض الخارجي والداخلي وارتفاع الدين العام الذي تجاوز للمرة الأولى 41 مليار دولار".
ويحذَر من "المخاطر الكبرى التي يمكن أن تنتج من الدخول إلى نادي باريس عبر إعادة جدولة الديون ووضع شروط مجحفة للمانحين وفرض إصلاحات موجعة ستكون لها تكلفة اقتصادية واجتماعية، كالدعوة إلى تخفيض الأجور وخصخصة مؤسسات عمومية وتقليص النفقات في الشأن الاجتماعي".
ويلفت حسن إلى أن "مخاطر التوجه إلى نادي باريس نسبية، ذلك أن الحلول تبقى في يد التونسيين الذين يتعيّن عليهم تجاوز خلافاتهم السياسية الداخلية لتجنّب السيناريو اللبناني، وضرورة تنظيم حوار وطني واقتصادي لإنقاذ البلاد"، مشدداً على أنه "لا طائل من استمرار الصراعات السياسية، ولا بد من تجنب الدخول في معركة مع الاتحاد العام التونسي للشغل إذ سيكون لذلك تداعياته الخطيرة على الجميع".
"نادي باريس" لا يزل بعيداً
في المقابل، يصف فتحي زهير النوري، أستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة التونسية والعضو السابق في مجلس إدارة البنك المركزي التونسي، التقرير الجديد الذي أصدره "بنك أوف أميركا" بأنه "مجرد تخمينات"، لافتاً إلى أن "تونس على الرغم من الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعيشها لم تصل إلى مرحلة التوجه إلى نادي باريس وإعادة جدولة ديونها".
وفي الوقت ذاته، ينبه النوري من المخاطر التي تتهدد تونس داخلياً ومن اللجوء إلى تمويل الفجوة المالية في الموازنة بالاعتماد على البنك المركزي الذي سيضخ سيولة لسد هذه الثغرة المالية الكبيرة"، إذ يرى أن لذلك "عواقب وخيمة ستمس التوازنات المالية للبلاد من خلال التأثير في سعر الفائدة وسعر الصرف وتقليص الاحتياطي الوطني من النقد الأجنبي".
ويقول إن "السلطات التونسية تعتمد سياسة التعتيم على توجهات موازنة سنة 2022، ولم تعلن الخيارات التي يمكن أن تعتمدها لتمويل العجز"، مضيفاً أن "تونس استنفذت آليات الاقتراض الداخلي الذي تجاوز ملياري دولار، ولم يبقَ أمامها إلا اللجوء إلى ضخ السيولة عبر البنك المركزي، بالتالي الإجهاز على استقلاليته، إضافة إلى التداعيات الخطيرة على مستوى التضخم والدخول في عجز مضاعف على مستوى الموازنة فضلاً عن العجز المالي".
ويدعو النوري الحكومة التونسية إلى "اعتماد الشفافية ومصارحة التونسيين بحقيقة الوضع الاقتصادي والانكباب على إيجاد حلول تشاركية، من خلال الإعلان عن توجهات موازنة 2022 والحلول التي يمكن اعتمادها".
وجوب اعتماد سياسة نقدية ملائمة
ويذكّر معز حديدان، المتخصص في الشأن المالي، أن "بنك أوف أميركا كان قد صنف تونس في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) بلداً عالي المخاطر لجهة الإيفاء بالتعهدات المالية الخارجية وسداد الديون".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وينتقد "ارتفاع نفقات الدولة غلى مستوى 44 مليار دينار (15.7 مليار دولار)، منها 20 مليار دينار (7 مليارات دولار) تحت عنوان كتلة الأجور"، معتبراً أن "هذه الوضعية لم تعُد قابلة للاحتمال".
ويعتقد أنه "من الضروري أن تتبنّى تونس سياسة نقدية ملائمة كفيلة بترك مجال للنفقات بطريقة معقولة".
ويعتبر أن "الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي من تونس، لا سيما تعزيز الاستقرار الاقتصادي الكلّي وإصلاح المؤسسات الحكومية وتحديث الإدارة ورقمنتها وتحسين مناخ الأعمال، مسائل ضرورية ولا مفر منها من أجل وقف نزيف المالية العمومية وحماية الأجيال المقبلة وتجنب العجز عن توريد المواد الضرورية كالحبوب والأدوية والمحروقات".
ويخلص حديدان إلى أن "تواصل تدهور المؤشرات الاقتصادية والمالية سيفرض ضغوطاً إضافية على الاحتياطي من النقد الأجنبي، ما سيزيد ارتفاع المخاطر لتونس".
متى تُدعى البلدان إلى "نادي باريس"؟
وتُدعى الدول إلى "نادي باريس" عند عجزها عن سداد ديونها. وقد مرّت بالنادي دول عدة منها روسيا ومصر والمغرب والعراق والأردن والسودان الذي تم شطب قسم كبير من ديونه للدول المدينة، خصوصاً فرنسا.
وتتم جدولة ديون تلك الدول من قبل النادي بناء على توصية ضرورية من صندوق النقد الدولي. ولا بد من أن تكون الدولة عضواً في الصندوق وأبرمت اتفاقاً معه. وقبل جدولة الديون بواسطة النادي لا بد من أن تكون الدولة قد اعتمدت إجراءات تقشفية وإصلاحية. ويتم اللجوء إلى "نادي باريس" لإعادة جدولة الديون أو شطب جزء منها أو إلغائها بالكامل كملاذ أخير غالباً قبل التعثر في السداد.
وتجاوز حجم الديون التي عولجت في إطار "نادي باريس" منذ تأسيسه في 1956، 600 مليار دولار.