عُقدت جولة جديدة من مفاوضات الملف النووي الإيراني الخميس الماضي، لتُعيد قدراً من التفاؤل الحذر، عقب تصريحات الأطراف المختلفة بخاصة الغربية التي تشير إلى تراجع كبير في فرص الوصول إلى اتفاق.
لأول مرة تبدو تصريحات كبير المفاوضين الإيرانيين علي باقري كني محملة بقدر من التفاؤل، على الرغم من أن تصريحاته السابقة كشفت أن الجانب الإيراني لم يكتفِ بالتسويف، لكنه انتزع بدرجة كبيرة زمام المبادرة، وطرح مسودتي اتفاق على الجانب الآخر. مشيراً إلى أنه من الطبيعي أنهم يحتاجون إلى دراستها، وأن وفد بلاده موجود في فيينا بعد إعطائهم هذه الفرصة، لكى تُستكمل المفاوضات.
وفي الحقيقة، إنه مع تصاعد الإدراك العالمي بخطورة هذه الأزمة، وضغوطها على أطراف المفاوضات وأطراف إقليمية عديدة، فإنه نادراً ما يطرح الأمر في سياق تاريخي شامل، ليس من قبيل الرفاهية والتنظير بقدر ما هو وثيق الصلة والدلالة بمستقبل منطقة الشرق الأوسط والتوازنات الدولية ذاتها. كما أن المسألة تُلقي كثيراً من الضوء على كيفية تأثير أخطاء استراتيجية من القوى الدولية والإقليمية أدت إلى خلق معضلة وتحد كبير دولي وإقليمي.
مظاهر الخلل الاستراتيجي
سواء كان هناك مبعث للتفاؤل أم ليس بعد، فإن هناك حاجة إلى مراجعة أكثر شمولاً، فعندما انسحب ترمب من الاتفاق النووي الإيراني الذي وقعه أوباما، أعلن أن هذا بسبب انتهاكات إيران للاتفاقية، ووجود معلومات مؤكدة حول تجاوزها لما هو مسموح به من مستويات تخصيب اليورانيوم، وأن طهران استغلت الاتفاقية كذلك لمزيد من التوسع والتغلغل الإقليمي في شؤون جيرانها، فضلاً عن مواصلتها تطوير برنامجها من الصواريخ الباليستية.
وبعد عامين من التصعيد وفرض العقوبات الأميركية عمقت طهران من كل الأسباب التي ذكرها ترمب لمعاقبتها، سواء في التغلغل الإقليمي، أو في تخصيب اليورانيوم لمستويات أعلى.
ومع دلالة هذا، جاء بايدن منذ حملته الانتخابية، ليعلن أن هذه الاستراتيجية لسلفه فاشلة، وأنه سيعود إلى الاتفاقية والمفاوضات. ملمحاً إلى أن لهذا النهج ناتجاً أفضل في صدد المشاغل الأميركية والدولية وطبعاً الإسرائيلية. واستؤنفت المفاوضات في جولات عدة.
ووفقاً لتصريحات وزير الخارجية الأميركي بلينكن والرئيس الفرنسي ماكرون بعد الجولة السابقة، فإن الأمور تتعثر، وأكثر من هذا ذكر المنسق الأوروبي أنريكي مورا للمحادثات غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران، بأن الأخيرة تتراجع عن كل التسويات التي جرى التوصل إليها بصعوبة، ويقصد بهذا جولات الربع الثاني من العام الحالي.
يمكن القول إن أغلب مجالات التعثر واضحة، يتقدمها طلب طهران تقديم الولايات المتحدة تعهداً بعدم الانسحاب مرة أخرى من الاتفاقية، وهو تعهد يبدو من المستحيلات في النظام السياسي الأميركي، ويحتاج إلى أن تصدر به موافقة من الكونغرس كقانون لا كاتفاقية دولية، بل إنه في الحقيقة يبدو صعباً لأي نظام سياسي ديمقراطي أو غير ذلك.
ومن ناحية أخرى، يعتبر بعض المحللين أن هدف التسويف هو الحصول على أكبر قدر ممكن من رفع العقوبات الأميركية من خلال سياسة النفس الطويل التي تجيدها إيران. وفي الخلف من كل هذا المشهد، ما كشفته الوكالة الدولية للطاقة الذرية من أن إيران تحرز تقدماً على مسار تخصيب اليورانيوم.
وهنا، وفقاً للجانب الإسرائيلي فإن طهران سوف تسعى بشكل حثيث للوصول للسلاح النووي، وتستخدم مظلة المفاوضات للتضليل والخداع حتى تحقق أهدافها العدوانية. وواصلت الحكومة الإسرائيلية تهديداتها ودعوتها لوقف هذه المفاوضات واتخاذ إجراءات، سماها رئيس الوزراء بينيت صارمة من قِبل الدول العظمى، وتتصاعد نذر تهديدات إسرائيلية أكثر حدة.
المكاسب والخسائر في السيناريوهات المختلفة
في الحقيقة، إنني كنت وكثيرين توقعوا منذ اندلاع الأزمة في منتصف العقد الأول من هذا القرن أن العالم سيتجنب مواجهة معقدة، وأنه على الرغم من لغة التصعيد الأميركية والإسرائيلية، فإنه سيتم التوصل إلى ترتيبات معينة، لمحاولة التحكم وتقليل الاندفاع الإيراني.
واستندت الحسابات الرشيدة إلى ما تملكه طهران من مقدرة على تهديد أمن الخليج. والأخطر أذرع عسكرية خارجية، على رأسها "حزب الله"، ومن هنا جاءت اتفاقية 2015 متسقة مع هذه التوقعات. أما ما تباين في التعليقات فيتعلق بما إذا كانت القوى الرئيسة المتفاوضة ستنجح أو ستهتم بمسألة التغلغل الإيراني الإقليمي، وهو عموماً ما ثبت أنه لم يحدث، وأن النتيجة كانت مزيداً من تغلغل طهران.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اليوم، نحن بالطبع أمام ثلاثة احتمالات، أن ينتهي التسويف الإيراني بصفقة جيدة في ما يتعلق بمكاسبها الاقتصادية والدولية، وليس من الوارد هنا أي نجاح دولي وإقليمي في وقف التغلغل الإيراني، ويصبح على دول المنطقة عقد التفاهمات بهذا الصدد، وهو ما تبدو بعض إرهاصاته لتبقى إسرائيل في حالة عزلة.
والسيناريو الثاني أن يستمر التفاوض والتسويف فترات طويلة، يحدث خلالها مزيد من تخصيب اليورانيوم، وربما تتمكن إيران من تحقيق اختراق يؤدى إلى تغيير جوهري في التوازنات الدولية والإقليمية.
أما السيناريو الثالث فهو أن يؤدي التعثر إلى تصعيد عسكري يصعب اليقين بشأنه حالياً، سيتوقف على حجم الإجراءات العسكرية، لكن من المؤكد أنه سيسفر عنه كثير من ردود الفعل والتداعيات التي يصعب تقديرها إلا في ضوء فعالية هذه الأدوات العسكرية، وحتى الآن وعلى الرغم من الضجة الإسرائيلية يظل هذا أقل الاحتمالات لما يتضمنه من تداعيات يصعب التحكم فيها.
هل ستحدث توازنات دولية جديدة؟
في الحقيقة إن اثنين من هذه السيناريوهات سابقة الذكر، وهي الاتفاق وكذا مواصلة التسويف سيترتب عليها نشأة واستقرار توازنات إقليمية جديدة تقتضى مزيداً من التحرك الاستراتيجي لدول المنطقة، للتعامل مع الظاهرة الإيرانية ومساحة حركتها الأكثر اتساعاً في الإقليم.
وفي الحالة الثانية، أي التسويف، قد يؤدي هذا إلى مزيد من التوتر الإقليمي، وربما سباق تسلح نووي لن يحقق شيئاً إلا مزيداً من التوترات والمخاطر الإقليمية والاستنزاف الاقتصادي، الذي يضيف مزيداً من الأعباء على بعض دول الإقليم. أما سيناريو التصعيد العسكري فإنه يتوقف على طبيعة وناتج العمليات العسكرية، وبالقطع سيعقد المشهد الإقليمي بدوره.
سؤال التاريخ
نعود إلى سؤالنا الرئيس، وهو ما الذي أدى إلى المشهد الراهن؟ ولماذا أخفقت استراتيجيات التعامل المختلفة مع إيران؟ يمكن القول إنها حققت مكاسب وأوراقاً استراتيجية في نفوذها الإقليمي، على الرغم من أن هذا بالقطع على حساب مزيد من القمع السياسي والاقتصادي لشعبها، وذلك لعدة أسباب.
التباس الموقف الغربي والدولي: حقيقة الأمر أنه منذ الثورة الإيرانية، وهناك التباس واضح في المواقف الغربية، ففي وقت شجعت القوى الغربية صدام حسين على حربه ضد إيران، كان الدعم السري الأميركي والإسرائيلي لإيران، التي كان عنوانها إيران جيت في عهد ريغان.
وبعد غزو أفغانستان كانت هناك تفاهمات ضد "طالبان" ومصالح مشتركة، ثم كانت هدية واشنطن لطهران بغزو العراق، وهذا الغزو بنهج إدارته وانسحابه التدريجي المسؤول عن تعظيم النفوذ الإيراني في العراق، وارتباك الحياة السياسية والاجتماعية لهذه الدولة، ثم نأتي إلى المشهد الأخير، وهو الخروج والعودة الأميركية من الاتفاق النووي، وهو مشهد مرتبك ملتبس، لم يفد أحداً إلا إيران، ويكشف عن عوار شديد في استراتيجية التعامل مع طهران.
الالتباس الإسرائيلي: وظفت إيران منذ البداية ورقة الانحياز والظلم الغربي للشعب الفلسطيني، لبناء أدوات تغلغلها الإقليمي. ويكفي القول إن مجمل كل القصة مبنية على المعايير المزدوجة والسماح لإسرائيل بترسانة نووية، وترويج سردية أن آليات هذا النظام الإيراني تجعل من المخاطرة الشديدة امتلاكه سلاحاً نووياً.
ومن الإنصاف القول إن هذا صحيح، وإن كان سيناريو الردع الإقليمي لم يختبر بعد، لكن دون شك لو كان العالم قد استمع إلى بعض الطروحات العربية بخاصة المصرية بشأن مبادرة شاملة لإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، لكانت هذه الرسالة أكثر مصداقية، وذات أثر عميق في إعادة صياغة المنطقة وتصويب مستقبلها.
الضعف والتناحر العربي، فلو كان النظام الإقليمي العربي أكثر تماسكاً وقوة، لما حدث هذا التغلغل الإيراني، وما استطاع توفير كل هذه الأدوات التي يمتلكها، التي تسبب ليس فقط تعظيم نفوذ إيران، إنما تقويض معالم الدولة والمؤسسات في أكثر من بلد عربي .
في النهاية، السياق التاريخي أن كياناً شمولياً توسعياً يتمدد في إقليم ضعيف، ويمارس هذا الدور على حساب رفاهة شعبه، ولا يقدم له إلا دغدغة مشاعره التاريخية التوسعية، ولم تكن استراتيجية التعامل معه بالكفاءة اللازمة، ومن ثم أدت كل السياسات إلى مزيد من قوة إيران، وسواء جرى الاتفاق أو حدث التصعيد العسكري، فإن مخاطر عدم الاستقرار وتهديد الأمن الإقليمي حاضرة بقوة، ودون إزالة الالتباسات العديدة السابقة الذكر سيتعذر التعامل الناجع مع هذه المعضلة ولو إلى حين.