في روايته الرائعة "حفلة التيس"، تمكن الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا من استكناه الحياة الداخلية لرافائيل تروخيو، الزعيم الذي أرهب جمهورية الدومينيكان لمدة 30 عاماً، حتى لحظة اغتياله عام 1961، في ما عرف بـعصر تروخيو، إحدى الفترات الأشد ضراوة في تاريخ الأميركتين. أما في روايته "أوقات عصيبة" الصادرة حديثاً في ترجمة إنجليزية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، عن دار فارار وستراوس وجيرو للنشر، فيولي وجهه شطر غواتيمالا من خلال قصة حية تتمحور حول الانقلاب المدعوم من الولايات المتحدة عام 1954، مضفياً على التاريخ وجهاً إنسانياً يكشف من خلاله عواقب الانقلاب العسكري الذي نفذه كارلوس كاستيلو أرماس، بدعم من وكالة الاستخبارات المركزية، وكيف أطاح بحكومة جاكوبو أربينز المنتخبة ديمقراطياً. وراء هذا العمل العنيف كذبة تم تمريرها على أنها حقيقة، كان بوسعها أن تغير إلى الأبد تطور أميركا اللاتينية، وهي اتهام إدارة أيزنهاور لأربينز بأنه شجع انتشار الشيوعية السوفياتية في الأميركتين.
مسؤولية الكاتب في أميركا اللاتينية
لا تقتصر مهمة الكاتب في أميركا اللاتينية، من وجهة نظر الحائز جائزة نوبل، على ممارسة الكتابة وحسب، فدائماً ما يُتوقع منه إسهاماً نشطاً في حل مشكلات مجتمعه، نظراً إلى طبيعته المشتبكة، وتقاليده العميقة الجذور، وهويته التي تتجاوز الحدود الوطنية. غير أن الأدب كما يراه يوسا، لا يصف البلدان، بقدر ما يخترعها.
لقد اصطدم كتاب أميركا اللاتينية منذ نهاية الاستعمار الأوروبي، بمشكلتين متلازمتين، التأثير الخبيث للولايات المتحدة، والحكم الاستبدادي في بلادهم. يصف يوسا الديكتاتور الفنزويلي هوغو تشافيز، وفقاً لما ورد في التايمز الأميركية، "هجين من إنسان خارق ومهرج"، "القائد يخلق أشياء ويفككها بإرادته، بوحي من الخالق أو من أيديولوجية تكون فيها الاشتراكية والفاشية شكلين من الدولة والجماعية، دائماً ما يكون مرتبكاً، ويتواصل مباشرة مع شعبه من خلال الديماغوجية والخطابة والعروض العاطفية المتعددة الطوائف بطبيعتها الدينية السحرية والغامضة".
مثل عديد من المثقفين في أميركا اللاتينية، بدأ يوسا حياته المهنية متعاطفاً مع أهداف اليسار الثوري ومبادئه، ولكن بحلول الثمانينيات أصبح بطلاً للأسواق الحرة والليبرالية السياسية، بحيث وقف كمرشح رئاسي من اليمين الوسط في الانتخابات الرئاسية البيروفية في 1990. وفي الآونة الأخيرة، ظهر انجرافه نحو اليمين بوضوح لا يحتمل اللبس، وانضم في عام 2014 إلى جمعية مونت بيليرين، وهي المنظمة التي أسسها فريدريك هايك في عام 1947 المعروفة باحتضانها لليبرالية الجديدة.
ملكة جمال غواتيمالا بين عدوين لدودين
من تاريخ غواتيمالا الوحشي، يغزل يوسا أوقاتاً عصيبة ومثيرة للجدل، مستضيئاً بتجربته كمفكر وسياسي، في إزاحة الستار عن عالم السياسة المرعب والساخر في الآن ذاته. في هذا العالم يعيش الروائي الأميركي اللاتيني والزعيم عدوين لدودين إلى الأبد، كل منهما يحاول أن يخترع مستقبلاً أو يحلم بمستقبل يستبعد أو يقمع الآخر. وبغض النظر عن مدى قوة الديكتاتور، فإن إرثه (حسب ما يرى يوسا) سيشكله الروائيون في النهاية!
لم يدمج يوسا بين السياسة والشخصيات والتشويق بهذا الشكل منذ روايته الكلاسكية "حفلة التيس"، فضلاً عن دمجه الواقع بالخيال في قصة الراوي، الذي يعيد خلق الشخصيات والمواقف بحرية، وقصة أولئك الذين يتحكمون في السياسة والاقتصاد في القارة عن طريق التلاعب بتاريخها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في مقابلة معه، عقب نشر الرواية، حدد يوسا الانقلاب الذي تدعمه وكالة الإستخبارات المركزية ضد أربينز، على أنه اللحظة التي أقنعت عديداً من الشباب الأميركيين اللاتينيين بأن الولايات المتحدة لن تسمح أبداً بتغيير ديمقراطي حقيقي، فأصبحت الشيوعية السبيل الوحيد الممكن للتحرر. وهو ما مهد الطريق لعقود من صراعات حرب العصابات في نصف الكرة الغربي التي تلت ذلك. لقد خفف غضبه من الأميركيين لسحقهم التطلعات الديمقراطية الليبرالية لجيله، من معاداته للشيوعية، وجعله على قناعة بأن الأسواق المفتوحة هي شرط مسبق لأنواع أخرى من الحريات. لكن النتيجة رواية تضم عدداً قليلاً من الأبطال وكثيراً من الأشرار، مسحوبة بتيار خفي من اليأس المطبق.
من ضمن شخصياته امرأة تُعرف باسم "ملكة جمال غواتيمالا"، مارتا بوريرو بارا، شابة رائعة الجمال تشق طريقها عبر الاضطرابات، وتنتهي أيامها في المنفى الثقيل في الولايات المتحدة. بصفتها عشيقة لكارلوس كاستيلو أرماس، الديكتاتور الذي نصبه الأميركيون، وبعد ذلك بصفتها مروجاً إعلامياً لتروجيلو، فهي واحدة من الشخصيات التي تربط بين "أوقات عصيبة" و"حفلة التيس"، وأبرزها تروجيلو رئيس الاستخبارات، وجوني عباس غارسيا، الذي أرسله الرئيس للاقتراب من ملكة جمال غواتيمالا، ومتابعة التطورات داخل القصر الرئاسي.
القارئ في دوامة التاريخ
لا تعد "أوقات عصيبة"، التي تغطي سنوات "حفلة التيس" نفسها، تكملة لها، على الرغم من تشابكهما في الأحداث والشخصيات. إنها فكرته الذكية لملء الفجوات وتعميق الشخصيات في روايته السابقة. أراد بها أن يطرق أرضاً جديدة، نرى فيها الأحداث من زوايا مختلفة من خلال وجهات نظر الشخصيات، بعد أن تمثل أمامنا بالفعل في لقطة عامة تليغرافية تاريخية إلى حد ما. يلجأ يوسا إلى وسيلة رائعة في السرد تعتمد على تشذير المحادثات التي حدثت في أوقات مختلفة، ليبقى القارئ عالقاً في دوامة التاريخ، مطّلعاً على الأسرار دون أن يملك أي قدر من التوازن حيال شبكة واسعة من المؤامرات والاغتيالات بين شخوص ما إن يغادروا المسرح، حتى تستقر الرواية على أحداث الانقلاب وتبعاته.
فارغاس يوسا هو روائي بيرو الأول، الحائز جائزة نوبل في الأدب عام 2010. في عام 1994 حصل على جائزة ثربانتس، وسام الشرف الأدبي الأكثر تميزاً في العالم الناطق بالإسبانية، وفي عام 1995 حصل على جائزة القدس. من ضمن أعماله المتميزة: "في مديح الخالة"، "شيطنات الطفلة الخبيثة"، "حرب نهاية العالم"، "الموت في جبال الأنديز"، "من قتل بالومينو موليرو"، "حديث في الكاتدرائية"، و"أوقات عصيبة" الرواية الجديدة، قصة المؤامرات الدولية والمصالح المتضاربة في زمن الحرب الباردة، التي ما زالت أصداؤها تتردد حتى اليوم.