التصريحات التي أدلى بها الرئيس بوتين حول أن الحكومة الروسية استعانت بضباط من الاستخبارات المركزية الأميركية، تعني ضمناً ما هو أقرب إلى اتهام الرئيس السابق بوريس يلتسين بالتفريط في أمن الوطن، حتى لا نقول "خيانة" هذا الوطن.
وكان بوتين قد كشف في معرض تعليقه على ألكسندر سوكولوف المخرج السينمائي المشهور، عضو مجلس "تطوير المجتمع المدني وحقوق الإنسان" أن ضباطاً من الاستخبارات المركزية الأميركية عملوا كموظفين رسميين تحت ستار "مستشارين" بين صفوف الحكومة الروسية. "كانوا يذهبون إلى العمل كل صباح ليشغلوا أماكنهم حول مكاتب يظللها العلم الأميركي للإشراف على تنفيذ برنامج الخصخصة في منتصف التسعينيات".
خيانة مصالح الوطن
ومضى الرئيس بوتين إلى ما هو أبعد حين كشف عن أنهم ظلوا في مواقعهم حتى مطلع القرن الجاري، وكانوا "يعيشون ويعملون" أيضاً في المنشآت المحلية لمجمع الأسلحة النووية، وهو ما عمل على "تطهيره" في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
واستطرد ليقول إن هؤلاء الضباط والخبراء جرت محاسبتهم بعد عودتهم إلى بلادهم بموجب القانون الأميركي، نظراً إلى أنهم كانوا يعملون في الحكومة الروسية من دون أن يتخلوا عن مواقعهم في الاستخبارات المركزية، فضلاً عن اتهامهم بالتربح بشكل غير قانوني، في إشارة إلى ما اكتنزوه من ثروات، وما حصلوا عليه من أنصبتهم من برنامج الخصخصة، الذي أراد به أناتولي تشوبايس أن يكون "مسماراً في نعش الشيوعية، وضماناً للإجهاز على الاتحاد السوفياتي، والحيلولة دون أية فرصة لقيامه مجدداً، حسب قوله في أكثر من حديث.
وعلى الرغم من أن ما قاله الرئيس بوتين لم يكن سراً، حيث كان أشار إليه في أحد مؤتمراته الصحافية السنوية لدى تطرقه إلى نشاط أناتولي تشوبايس، الذي طالما تقلب بين جنبات أعلى المناصب الرسمية والحكومية، فإن الإعلان عن مشاركة ضباط الاستخبارات الأميركية في تحديد سياسات الدولة إبان سنوات حكم يلتسين، هو بالتبعية فضح لما هو أقرب إلى خيانة مصالح الوطن، لا سيما لأنه أعقب ذلك بالإشارة إلى التخلص منهم في مطلع القرن الجاري، أي عقب توليه لمقاليد الحكم في الكرملين.
كما أن القاصي والداني كان يعلم أيضاً بوجودهم بين صفوف الحملة الانتخابية، التي أسهمت في تنصيب الرئيس السابق يلتسين لفترة ولاية ثانية، وهو ما أشرنا إليه في أكثر من تقرير من موسكو.
وكانت وكالة ريا نوفوستي أفادت أنه يُعتقد أن أندريه شليفر وجوناثان هاي من ضباط وكالة الاستخبارات المركزية، كانا ممن عملوا في روسيا كجزء من برنامج مساعدة روسيا في الانتقال إلى اقتصاد السوق، أثناء العمل في جامعة هارفارد.
وقالت المصادر الروسية إنه "جرى تمويل هذا النشاط من قبل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية. وفي عام 2004، أدانتهم محكمة مقاطعة بوسطن بتهمة إساءة استخدام السلطة".
ومن اللافت في هذا الصدد أن الحديث عن خيانة مصالح الوطن في التسعينيات، جاء مواكباً لحلول الذكرى الثلاثين لانهيار الاتحاد السوفياتي التي كان يلتسين أحد أهم المشاركين في تقويض أركانه "في إجراء وصفه كثيرون بالخيانة، في إشارة إلى توقيعه مع رئيسي أوكرانيا ليونيد كرافتشوك، وبيلاروسيا (الاسم القديم لبيلاروس) فياتشيسلاف شوشكيفيتش في 8 ديسمبر (كانون الأول) 1991.
وما دام الشيء بالشيء يذكر نشير أيضاً إلى ما قيل ويقال حول أنه كان هناك في قيادات الاتحاد السوفياتي "خونة" أسهموا في التعجيل بانهياره.
وفيما تدفقت الاتهامات بالخيانة من جانب القوميين والشيوعيين في حق بوريس يلتسين منذ إعلانه عن انفصال روسيا عن الاتحاد السوفياتي في 12 يونيو (حزيران) 1990 تحت ستار "إعلان السيادة والاستقلال"، أعاد عدد من قيادات الحزب الشيوعي السوفياتي وجهاز أمن الدولة "كي جي بي" إلى الأذهان كثيراً مما يتردد حول سقوط ألكسندر ياكوفليف عضو المكتب السياسي والساعد الأيمن لغورباتشوف في شرك العمالة للاستخبارات الأميركية.
خدمة الأجهزة الأميركية
وعن حقيقة تجنيد ياكوفليف لخدمة الاستخبارات المركزية الأميركية، نعيد إلى الاذهان بعضاً مما كشف عنه عدد من كبار رجال الدولة، ومنهم فلاديمير كريوتشكوف عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي، رئيس جهاز "كي جي بي" أكتوبر (تشرين الأول) 1988 - أغسطس (آب) 1991، الذي قال إن ياكوفليف الذي كان تدرج في سلك التنظيمات الحزبية منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي، وحتى انتقاله للعمل في جهاز اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، وقع في براثن الأجهزة الأميركية منذ أن سافر للدراسات العليا في جامعة كولومبيا في عام 1958 - 1959 برفقة أوليج كالوجين، الذي كان أيضاً تدرج في سلك الاستخبارات السوفياتية حتى رتبة جنرال "كي جي بي"، وهرب لاحقاً في مطلع تسعينيات القرن الماضي إلى الولايات المتحدة التي استقر فيها حتى اليوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان ياكوفليف قد واصل بعد عودته من مهمته في الولايات المتحدة، نشاطه في جهاز اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي ضمن فريق المتخصصين في شؤون الولايات المتحدة، وحتى "إبعاده" عن موسكو واللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، كسفير للاتحاد السوفياتي في كندا لما يقرب من عشر سنوات، عاد بعدها ليشغل منصب مدير معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية في 1983، وحتى جرى انتخابه نائباً في السوفيات الأعلى (البرلمان السوفياتي) في 1984، ورئيساً لقسم الدعاية والإعلام في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، الذي انتقل منه إلى منصب سكرتير اللجنة المركزية للحزب مسؤولاً عن قطاع الأيديولوجيا والثقافة والإعلام، وحتى انتخابه عضواً في المكتب السياسي.
وننقل عن فالنتين فالين، رئيس القسم الدولي السابق للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، ما قاله في حديثه إلى صحيفة "فيرسيا" الأسبوعية في ديسمبر 2011، حول ظهور الشكوك حول ياكوفليف منذ بداية فترة رئاسة يوري أندروبوف لجهاز "كي جي بي" في ستينيات القرن الماضي، لكن "عدم وجود الوثائق" حال دون اتخاذ القرار المناسب.
قال فالين: "إن هناك ما قد يؤكد وجود الشواهد التي تقول إن اتصالات ياكوفليف مع ممثلي أجهزة المخابرات الأجنبية لم تكن بغير علم، بل وبتكليف من زعماء الدولة السوفياتية، بداية من نيكيتا خروشوف ومروراً بليونيد بريجنيف ويوري أندروبوف، وحتى ميخائيل غورباتشوف".
حركات التحرر الوطني
وحول دور ياكوفليف في التعجيل بانفصال جمهوريات البلطيق قبل الإعلان رسمياً عن تصفية الاتحاد السوفياتي في نهاية 1991 قال فالين في حديثه إلى صحيفة "فيرسيا"، "إن ياكوفليف كان المسؤول عن الظهور المفاجئ لحركات (التحرر الوطني) في جمهوريات البلطيق، التي منها بدأت عملية انهيار الاتحاد السوفياتي. ففي صيف 1988 (أي قبل انعقاد مؤتمر نواب الشعب في مايو (أيار) 1989، زار ياكوفليف كلاً من ريجا وفيلنوس (عاصمتي لاتفيا وليتوانيا)، حيث لم يلتق بقيادات الجمهوريتين وحسب، بل وتركزت لقاءاته مع "الرموز المحلية المعارضة"، وهو ما كان مقدمة لظهور "الجبهات الشعبية" في كل من إستونيا ولاتفيا، وحركة "سايوديس" المعارضة في ليتوانيا، على المسرح السياسي في أكتوبر من نفس العام.
ومن ياكوفليف بالتحديد بدأت عملية إعادة كتابة التاريخ. وكان ياكوفليف صاحب التقرير "الفضائحي" حول تبعات معاهدة "مولوتوف - روبينتروب"، التي وقعها فياتشيسلاف مولوتوف، ويواخيم فون روبنتروب وزيرا خارجية الاتحاد السوفياتي وألمانيا النازية في 1939 (وحملت اسميهما). وكان هو أيضاً من أماط اللثام عن هذه الوثيقة في المؤتمر الثاني لنواب الشعب في ديسمبر 1989، التي أعلن على أساسها عن استنتاجاته (بشأن التواطؤ السوفياتي مع ألمانيا النازية)، على الرغم من أنه لم يكشف آنذاك عن الملاحق السرية لهذه المعاهدة، التي لم تظهر إلا في عام 1992.
الحكايات بهذا الشأن كثيرة، وتتراوح بين عمالة ياكوفليف "الأحادية الجانب"، وكونه "عميلاً مزدوجاً" بعلم ومباركة القيادة السوفياتية التي وقفت وراء إيفاده إلى جامعة كولومبيا في مهمة علمية إلى جامعة كولومبيا عام 1958 للاطلاع على وثائق المكتبات الأميركية، والتعرف على مؤسسات صناعة القرار في الولايات المتحدة الأميركية.
وتلك هي المهمة التي ساعدته على أن يطلع على كثير من الأفكار التي أسهمت في تكوين الصورة المناسبة لتطوير بلاده، وهي التي أودعها فكرته عن "البيريسترويكا"، وما طرحه لاحقاً على غورباتشوف وكان مسؤولاً آنذاك عن قطاع الزراعة في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، حين التقاه في أوتاوا في عام 1983 إبان سنوات عمله سفيراً لبلاده في كندا.
وثمة من قال إنه سقط في شرك الاستخبارات الأميركية، التي استغلت ميوله الليبرالية، وعدم ارتياحه لكثير من مقررات الحزب الشيوعي السوفياتي، وتفكيره في الحاجة الماسة لبلاده إلى التغيير. لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، وعاد ليطفو على السطح بعد احتدام الجدل حول ماهية "البيريسترويكا" وأهدافها الحقيقية، والكشف عن أن ياكوفليف هو صاحب فكرتها، والساعد الأيمن لغورباتشوف منذ جاء إلى قمة السلطة في عام 1985.
وكان من الطبيعي أن تطال الاتهامات التي ترددت على استحياء في البداية في أوساط المحافظين الشيوعيين والقوميين عن خيانة غورباتشوف لمصالح الوطن، ساعده الأيمن ألكسندر ياكوفليف عضو المكتب السياسي الذي استمر إلى جانبه بوصفه "فيلسوف البيريسترويكا"، وحتى اليوم الأخير من ولايته كرئيس للاتحاد السوفياتي في 25 ديسمبر 1991.
تجنيد ياكوفليف
وعن حقيقة تجنيد ياكوفليف لخدمة الاستخبارات المركزية الأميركية، نضيف إلى ما سبق الإشارة إليه، بعضاً مما كشف عنه عدد من كبار رجال الدولة، بمن فيهم فلاديمير كريوتشكوف عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي ورئيس جهاز "كي جي بي"، الذي عاد ليبلغ غورباتشوف بفحوى هذه التقارير.
فماذا قال غورباتشوف؟ تساءل في البداية عما إذا كان تجنيد ياكوفليف تم أثناء بعثته التدريبية في جامعة كولومبيا في نهاية الخمسينيات، وحين جاءه الرد بأن ذلك مستمر حتى اليوم، علق على ذلك بقوله، "هل ياكوفليف شخص مفيد للبيريسترويكا؟ إذا كان مفيداً، فاغفر له. فمن لم تكن له خطايا في شبابه؟!".
وقد جاء الاجتماع الذي عقده الرئيس فلاديمير بوتين يوم الخميس الماضي (9 ديسمبر) عبر الفيديو كونفرنس مع أعضاء مجلس "تطوير المجتمع المدني وحقوق الإنسان" ليعيد إلى الأذهان مفردات كثير من جوانب العلاقات المخجلة المثقلة بعار السقوط في براثن الخيانة وأجهزة الدعاية والتحريض التي تواصل ممارساتها العدائية في روسيا والفضاء السوفياتي السابق.
وذلك ما أماطت اللثام عن بعض مشاهده تلك المقارعة الكلامية التي احتدمت بين الرئيس بوتين والمخرج السينمائي ألكسندر سوركوف، وكشفت عن أن التيارات الانفصالية لا تزال تهدد الدولة الروسية، وهو ما حرص بوتين على التصدي له بكل الحسم.
ففي لقائه مع أعضاء المجلس اتخذ بوتين موقفاً متشدداً من اقتراح سوركوف حول إطلاق حرية الجمهوريات (في شمال القوقاز)، التي لا تريد العيش مع روسيا في دولة واحدة، في الانفصال، إلى جانب انتقاداته للقيادة الروسية التي اتهمها بإغداق الدعم على بيلاروس وأوسيتيا الجنوبية وسوريا.
وعلى الرغم مما كانت تربط بوتين وسوركوف من علاقات طيبة منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، فقد حمل بوتين على "رفيق الماضي" بحدة واضحة، مؤكداً ضرورة معرفة أبعاد ما يقول، وتدارس الموقف برمته قبل التصدي لإثارته على الملأ.
وكان سوركوف قد استهل حديثه بانتقاد السياسة الخارجية لروسيا وتحميلها وزر التباعد والخلافات مع "معظم بلدان العالم"، ووصفها بأنها "باهظة الثمن"، مشيراً إلى أن بيلاروس وأوسيتيا الجنوبية وسوريا تقتات من الدعم الروسي.
وأشار سوركوف إلى عديد من النزاعات على الحدود في القوقاز، ومنها النزاع بين الشيشان وأنغوشيتيا، إلى جانب كثير من المطالب الانفصالية. وتطرق سوركوف إلى ما وصفه بـ "تسييس" قوات الأمن في البلاد، وضرورة الحيلولة دون اضطهاد الشباب، بسبب موقفهم المدني النشيط، على حد تعبيره.
ولم يغفل سوركوف انتقاد قانون فرض وضعية "العملاء الأجانب" على وسائل الإعلام الأجنبية، إلى جانب قضايا أخرى كثيرة، جعلت بوتين يستشيط غضباً، إلى الحد الذي اعتقد سوركوف نفسه في احتمالات أن يجري اعتقاله، قبل أن يصل إلى مسكنه. وذلك ما دحضه دميتري بيسكوف، الناطق الرسمي باسم الكرملين، مهدئاً من روع كثيرين ممن أعربوا عن خشيتهم من احتمال ذلك.
نزاعات حدودية
وبالفعل، كان حديث سوركوف أشبه بـ "البيان السياسي" كما وصفه بوتين، ويحمل بين طياته كل مطالب المعارضة الممنهجة، وغير الممنهجة التي تحظى باهتمام ورعاية الدوائر الغربية، وما تتلقفه من توصيات وتعليمات لتوظيفها في حربها "الضروس" ضد روسيا منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية في 2014، على حد قول مراقبين في موسكو. وذلك ما أثار حفيظة بوتين وما يفسر ما اتسمت به من حدة، تعليقاته التي كشف فيها عن أن بلاده لا تتحمل وزر تدهور علاقاتها مع مجموعة محدودة من البلدان الغربية، كشف عن كثير مما تدبره من مؤامرات، وما تضمره من مخططات تستهدف أمن ووجود روسيا.
وكشف بوتين أيضاً وبانزعاج ملحوظ، عن وجود ألفين من النزاعات الحدودية، ومنها ما يتواصل بين جمهوريات وأقاليم ومقاطعات روسيا الاتحادية، بما يعني أن فتح الباب أمام مثل هذه المناقشات سوف يكون مقدمة لعواقب وخيمة.
ولعل الحدة، التي اتسم بها خطاب وتعليقات بوتين، تعكس إدراكه، لأن ما كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يضمرونه لروسيا منذ تسعينيات القرن الماضي من مخططات انفصالية، لا يزال قائماً.
ومن هنا، تطرق بوتين وكما أشرنا عاليه إلى تسلل ضباط الاستخبارات المركزية الأميركية إلى صفوف الحكومة الروسية في منتصف تسعينيات القرن الماضي. كما انبرى للدفاع عن علاقات بلاده مع بيلاروس مطالباً سوركوف بضرورة التحدث باحترام حول القوميات الأخرى، مشيراً إلى ما ترتبط به بلاده مع بيلاروس من علاقات اتحادية، بموجب الاتفاقيات الموقعة بين البلدين.
وعلى الرغم من أن بعضاً مما قاله سوركوف ورد ضمناً في مداخلات عدد آخر من أعضاء مجلس تطوير المجتمع المدني وحقوق الإنسان، فإن ما قاله وما اشتعل من "صدام" مع رئيس الدولة حظي بالاهتمام الأكبر على الصعيدين المحلي والعالمي.
وكان دميتري بيسكوف، المتحدث الرسمي باسم الكرملين، قد حاول من جانبه التخفيف من حدة ذلك الموقف، وإن انتقد بدوره "تجاوزات" المخرج السينمائي الروسي ألكسندر سوركوف، الذي سرعان ما وقع فريسة اتهامات وتهديدات رئيس الشيشان رمضان قادروف الذي اتهمه سوركوف ضمناً بالتطاول على أراضي أنغوشيتيا المعارضة.
وكان سوركوف قد أشار إلى هذه القضية بالتفصيل فيما تلا بعض أسماء المعتقلين من أبناء أنغوشيتيا ممن ينتظرون تحديد مصيرهم في محاكمة سوف تنعقد في 15 ديسمبر الجاري.
ومن اللافت أن ما قاله بوتين بشأن تدخلات ومؤامرات الدوائر الغربية ضد روسيا لقي اهتمام كثيرين داخل المجتمع الروسي، الذي طالما ذاق ويلات هذه التدخلات في تسعينيات القرن الماضي. وقال بوتين بهذا الصدد، إن الغرب كان راضياً عن روسيا طوال هذه الحقبة التاريخية (التي شهدت انصياع القيادة الروسية إلى تعليماته ومقرراته)، حتى أعلن يلتسين عن سخطه واحتجاجه ضد قصف الناتو لصربيا في نهاية التسعينيات.
وكان بوتين قد كشف أيضاً عن موقف مماثل، حين أعلن في مطلع القرن 21 عن ارتياحه للتقارب مع الولايات المتحدة والبلدان الغربية، إلى الحد الذي أعرب فيه عن استعداد بلاده للانضمام إلى حلف الناتو، لكن شريطة الانضمام على أساس التكافؤ والمشاركة في صناعة القرار، ودون الوقوف في طابور من ينتظر ذلك من بلدان شرق أوروبا، وهو ما لم يوافق عليه الناتو في حينه.
وقد كشف عن خلفيات هذه الموقف أندريه كورتونوف، المدير العام لمجلس الشؤون الدولية الروسي، في معرض مشاركته في المائدة المستديرة، التي جرت أعمالها في موسكو تحت عنوان "انهيار الاتحاد السوفياتي: التأثير في روسيا الحديثة والعالم".
الانضمام إلى السبع الكبار
وفي معرض إدانته لسياسات البلدان الغربية التي قال إنها تتحمل مسئولية تفاقم الخلافات مع روسيا، أكد كورتونوف أن الدول الغربية هي المسؤولة عن التحول في العلاقات بين روسيا والغرب، معيداً إلى الاذهان "أن روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، حاولت بنشاط الانضمام إلى مجموعة السبع الكبار".
وكشف عن أن الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين طالما كان أيضاً على وفاق مع ما هو أقرب إلى مثل هذه التوجهات الموالية للغرب وقيمه وثوابته، إلى أن خلص إلى نفس ما سبق وأعلن عنه بوتين حول أن الأحداث في يوغوسلافيا كانت لحظة فارقة، لحظة مواجهة الحقيقة بالنسبة إلى روسيا، عندما أصبح معروفاً أن الغرب يميل نحو استخدام (معايير مزدوجة) على حد قوله.
وكانت جريدة "فزجلياد" (وجهة نظر) نقلت عن كورتونوف أيضاً ما قاله في معرض تعليقه على نتائج القمة الأخيرة، التي جرت عبر الفيديو كونفرنس بين بوتين ونظيره الأميركي بايدن، حول "تعذر حصول روسيا على ضمانات من الناتو بعدم التوسع شرقاً، والشك في التزام الحلف بها حتى لو منحها لموسكو".
أما عن مجمل النتائج، وما إذا كانت تتضمن الحل المنشود للمشكلة المحورية في علاقات البلدين وتتعلق بالأزمة الأوكرانية، ومدى إمكانية حصول روسيا على ضمانات قانونية ثابتة حول عدم توسع الناتو شرقاً، في إشارة إلى أوكرانيا وجورجيا، قال كورتونوف إنه "في ما يتعلق بمطالب بوتين حول تقديم ضمانات قانونية لروسيا بعدم توسع الناتو، فمن الواضح أنه، للأسف، لن يحصل على مثل هذا الحل المثالي لموسكو. لأن ذلك يقتضي إعادة النظر في الوثائق الأساسية للناتو، والحصول على موافقة جميع أعضاء الحلف".
وخلص كورتونوف إلى القول، إنه حتى لو ضغط بايدن بطريقة ما على الحلفاء وحقق (المطلب الروسي)، فسيأتي رئيس أميركي آخر ويغير كل شيء. "يجب أن ننطلق مما هو واقعي وما هو غير واقعي، وأن نأخذ في الاعتبار أن أي اتفاقيات ملزمة قانوناً يمكن أن تقع بسهولة ضحية للبيئة السياسية المتغيرة بسرعة"، على حد قول كورتونوف.
ولعل ذلك كله وما سبقه من أحداث وتطورات يدفع روسيا كما قال بوتين ورفاقه من ممثلي القيادات السياسية والعسكرية، إلى العودة لإعلان التمسك بما سبق وحدده حكامها منذ سني الإمبراطورية الروسية بما شهدته من أمجاد وانتصارات حول أن "أصدقاء روسيا يقتصرون على الجيش والأسطول"، وهو ما أضافت إليه روسيا بعد عملية الدفع بقواتها إلى سوريا في 2015، "القوات الاستراتيجية".