عانى أدريان أنسيو كثيراً للعثور على مكان ينشر فيه كتاباته عن لقاح فيروس كورونا.
حملت تقارير الصحافي الروماني ادّعاءات بوجود علاقة خبيثة بين رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين من جهة و"فايزر"، مصنّع لقاح "كوفيد"، من جهة أخرى، كما زعمت بوجود مخططات وضعتها الشركات والمسؤولون الأميركيون للتلاعب بالإعلام لصالح قطاع تصنيع الأدوية. رفضت كل الوسائل الإخبارية في رومانيا تقريباً نشر تقاريره، بما فيها موقع إلكتروني نشر أخيراً مقالاً عن أنواع اللبان التي تمنع الإصابة بـ"كوفيد".
لكن السيد أنسيو، الذي أقرّ في مقابلة أنه لا يمتلك أي وثيقة تُثبت صحة ادّعاءاته، وجد في النهاية منصة لم تكتفِ بقبول نشر كتاباته فقط، بل أبرزتها وروّجت لها باعتبارها سلسلة من المقالات المنشورة على أجزاء عدة على موقعها الإلكتروني: موقع "سبوتنيك" الإخباري الروسي الذي يُعدّ أداة دعائية تابعة للكرملين.
وقال السيد أنسيو، الذي يعمل صحافياً وكاتباً لروايات تحمل طابعاً سياسياً "لست مدّعياً عاماً. كتبت تحقيقاً من وجهة نظر صحافية. وعلى (القضاء) متابعته إن اعتبر أنه يستحق المتابعة طبعاً".
تعاني غالبية دول أوروبا الشرقية والوسطى في مواجهة تردّد هائل تجاه تلقّي اللقاح، أعاق جهود تأسيس مقاومة لـ"كوفيد" وأسهم في ارتفاع عدد الوفيات كما الهواجس بشأن ظهور المتحوّرات الجديدة.
ويقول الخبراء إن الدعاية المضادة للتطعيم، التي تروّج لها معظم الأحيان الوسائل الإعلامية والمواقع الإلكترونية المرتبطة بعمليات استخبارات الكرملين، لعبت دوراً كبيراً في إثارة العدوانية تجاه اللقاحات وقرارات فرض التطعيم.
لا شك في أن الاختلال السياسي الداخلي وانتهاج السياسات السيئة هي الأسباب الرئيسة في فشل حملات التحصين في بلدان مثل بلغاريا، حيث أقل من ربع السكان قد تلقّوا اللقاح. واختارت رومانيا مثلاً ضابطاً كئيباً بلباس رسمي وجهاً لجهود التطعيم البطيئة ضد "كوفيد".
أثناء سعيهما للتوصل إلى اتفاق، تبادلت السيدة فون دير لاين الرسائل النصية مع الرئيس التنفيذي لـ"فايرز" ألبرت بورلا، لكن هذه الرسائل اختفت بعد ذلك، وهذه مسألة تخضع للتحقيق على يد المسؤولين في بروكسل، كما أنها مصدر نظريات مؤامرة عدة بشأن صفقات سرية مزعومة بين السياسيين وشركات تصنيع الأدوية العملاقة.
وقالت السيدة فون دير لاين إن الاتصالات التي أجرتها عبر القنوات الخلفية لم تهدف سوى إلى ضمان حصول أوروبا على كمية كافية من اللقاحات. وفي بيانها المرسل بالبريد الإلكتروني، أضافت المفوضية الأوروبية أن زوج السيدة فون دير لاين "لا يعمل مع فايزر ولا مع أي شركة أخرى من أجل الترويج للقاحات" وأن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تتخذ كافة القرارات المتعلقة بالتطعيمات.
حتى بعض معارضي موسكو يقللون من أهمية التأثير الروسي باعتباره محرك الرأي المعارض للتحصين الذي يسود في أوروبا الشرقية. ويحذّر رئيس حزب يس (Yes Party) الوسطي في بلغاريا هريستوف إيفانون من أن "التأثير الروسي أصبح التحليل الاحتياطي [يُستخدم في غياب جواب]".
لكن الخبراء يلفتون النظر كذلك إلى بعض المؤشرات المقلقة التي تظهر أن موسكو ربما تضع الصحة العامة بخطر عبر محاولتها استغلال الجائحة من أجل إضعاف والسيطرة على الدول التي تعتبرها إما تهديداً أو جزءًا من رقعة نفوذها.
في وقت سابق من العام الحالي، كشفت الوسائل الإخبارية الفرنسية محاولات شركة إعلانات مشبوهة مقرها في لندن ولديها صلات بالكرملين دفع آلاف اليوروهات للمؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي مقابل تهجّمهم على "فايزر". وقد يكون المخطط جزءًا من محاولة سابقة قامت بها موسكو لتعزيز مبيعات واستخدام لقاح "سبوتنيك في" الذي طوّرته لمكافحة "كوفيد". لكن هذه المحاولة توقفت الآن وسط قلق بشأن فاعلية اللقاح وشكوك حول قدرة روسيا على زيادة إنتاجه وتوزيعه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكشف تقرير نشره مركز دراسة الديمقراطية، وهو مركز أبحاث مقرّه في العاصمة البلغارية صوفيا، عن مئات صفحات "فيسبوك" المناصرة للروس والناطقة باللغة البلغارية التي تروّج لخليط من السياسات اليمينية المتطرفة والمعلومات المغلوطة حول "كوفيد"، كما تدعو إلى استخدام لقاح "سبوتنيك" الروسي بدل التطعيمات التي أنتجها الغرب.
واختتم التقرير بقوله "أسهمت الجائحة، إضافة إلى تضخيم الروايات الخاطئة ونظريات المؤامرة بشأن كوفيد-19، في تنمية المحتوى الضار الذي يروّج للأفكار الوطنية الزائفة والتأثير الخارجي الخبيث".
زعم تقرير نشرته شركة "غرافيكا" في أكتوبر (تشرين الأول) أن الحسابات المؤيدة لروسيا على وسائل التواصل الاجتماعي بدأت بانتقاد حملات التلقيح وقرارات فرض التطعيم.
وقد انتشرت الرسائل المناهضة للتحصين بشكل كثيف جداً يبدو أنه انعكس سلباً على روسيا نفسها وأسهم في إفشال جهود السلطات في موسكو في محاولة التشجيع على التطعيم. وذكر تقرير صدر عن مركز ليفادا في نوفمبر (تشرين الثاني) أن 45 في المئة من الروس رفضوا تلقّي أي نوع من اللقاحات، سواء كان "سبوتنيك في" أو أي لقاح غربي الصنع.
ويرى إيليان فاسيليف، السفير البلغاري السابق لدى روسيا أن "الروس ليسوا مع التطعيم أو ضده. بل جلّ ما يهمّهم هو إحداث انقسام في الآراء وإرساء خطوط اختلاف وزعزعة استقرار الأوضاع السائدة".
كما يُعتقد أن روسيا تؤثّر أو تدعم أحزاباً يمينية متطرفة عدة لديها جداول أعمال معادية للتحصين. نجحت إحدى المجموعات البلغارية المؤيدة للروس واسمها "إعادة إحياء أرض الوطن" (Revival of the Homeland) بإحراز ما يكفي من الأصوات التي تؤهلها لدخول البرلمان للمرة الأولى منذ تأسيسها، وقد حصدت أصواتاً من الأوساط المعارضة لسياسة فرض التطعيم في البلاد.
وقال السيد فاسيليف "تُعتبر حركة إعادة إحياء أرض الوطن أجدد العناصر المهمة بالنسبة إلى روسيا. فهي تدين بالولاء التام لروسيا ومعادية للتطعيم".
أصرّ زعيم الحركة كوستادين كوستادينوف، خلال إحدى المقابلات على أن حزبه لا يتلقّى أي تمويل من روسيا، متهماً أحزاباً أخرى بأنها أدوات في أيدي العواصم الأجنبية.
ويقول "تتلقّى الأحزاب السياسية البلغارية الدعم من الخارج- من أميركا وألمانيا وتركيا. ومنظمتنا هي الوحيدة التي لا تعتمد على الخارج. لا نعتمد على سفير الولايات المتحدة لكي يجعلنا نشارك في الحكومة".
تهاجم معظم الرسائل الصادرة عن الجهات السياسية والحملات الدعائية المناصرة للروس، "فايزر" و"موديرنا". وتشكّك التقارير في فاعليتهما وسلامتهما كما في أجندات الأفراد الذين يقفون وراءهما. وتضخّم بعض المواقع الإلكترونية مثل news-front.info الذي يديره الصحافي المؤيد للكرملين كونستانتين كنيريك، الإشاعات والتلميحات باللغات البلغارية والجورجية والهنغارية والسلوفاكية والبولندية والصربية.
وأشار تقرير إلى أن أحد المدراء التنفيذيين في مجلس إدارة "رويترز" هو عضو كذلك في مجلس إدارة "فايزر"، وهو ما يحدث عادة في عالم حوكمة الشركات.
ويقول نيكولاي تبريغن، الباحث في معهد العلوم السياسية والعلاقات الدولية في بوخارست "لدينا وسائل إعلامية مؤيدة للروس تنشر أخباراً قومية تقدّم التطعيم على أنه فعل عبودية يستتبع رومانيا، ويفرض عليها ديكتاتورية أدوية. والهدف هو زرع الشك في [صدقية] السلطات والخبراء".
كل الدول الأوروبية الشرقية التي تستهدفها حملة التأثير الروسية المزعومة ربطتها علاقات متشابكة ومعقّدة بموسكو منذ عشرات السنين. وتحمل رومانيا تحديداً، ضغينة تجاه روسيا منذ مئة عام، بسبب كنز ضخم من الجواهر نُقل إليها لكي يُحفظ في روسيا خلال الحرب العالمية الأولى ولم يعُد [تسترجعه] أبداً.
عند سؤاله إن كان يقلق من أن تخدم تقاريره مصالح قوة خارجية، أنهى السيد أنسيو الصحافي المقابلة بسرعة. وقال في محادثة أُجريت عبر تطبيق تراسل "يمكن أن يأخذ أي كان كل ما نشرته، حتى سبوتنيك. لم أنشر من أجل جهة معيّنة، إنما من أجل اكتشاف الحقيقة حتى لو كانت تزعج بعض الأشخاص".
© The Independent