سعت الولايات المتحدة منذ عقود إلى الحصول على دفاعات فعّالة ضد الصواريخ المعادية، ومع تأكيد المتخصصين أن الصواريخ الحركية التقليدية لن تكون فعّالة أو قادرة على صد هجمات الصواريخ التي تتمتع بقدرات مناورة عالية، أو تلك التي تطلق من المدار الخارجي للأرض، تواجه وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) ضغوطاً متزايدة لإعادة توجيه ميزانيتها للاستثمار في دفاعات الطاقة الموجهة، مثل طاقتي الليزر والميكروويف عالية القدرة، التي تسير بسرعة الضوء من أجل التغلب على القدرات الصاروخية الصينية والروسية المتطورة، فهل تتحول الولايات المتحدة إلى هذه التكنولوجيا؟
نظم غير فعّالة
تشير معايير تقييم قدرة أنظمة الدفاع الصاروخي على ردع الهجمات الصاروخية، إلى أن أنظمة الدفاع الصاروخي الأميركية، أصبحت غير فعّالة لمواجهة التهديدات الصاروخية الناشئة والمتطورة لدى خصوم الولايات المتحدة، بحسب عدد من المتخصصين الدفاعيين، ومنهم باتريك أوريللي، الجنرال السابق في الجيش الأميركي، المتخصص في التكنولوجيات الناشئة والدفاعات الصاروخية.
ومع ذلك، لا تزال وزارة الدفاع الأميركية تنفق استثمارات هائلة لإحداث تحسينات طفيفة في أنظمتها الدفاعية الحالية، لكن ضغوطاً يقودها بعض المتخصصين بعد تقييماتهم الاستراتيجية، تدفع باتجاه إعادة تخصيص التمويل من أجل تسريع تطوير أنظمة الطاقة الموجهة التي أصبحت تشكّل حاجة ماسّة للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها لنشر دفاعات صاروخية فعّالة بحلول نهاية هذا العقد.
250 مليار دولار
منذ أربعينيات القرن الماضي، كافحت الولايات المتحدة من أجل تطوير نظمها الدفاعية لمواجهة التهديدات الصاروخية، فعلى الرغم من استثمار أكثر من 250 مليار دولار في الدفاع الصاروخي منذ أن أعلن الرئيس رونالد ريغان حملة الدفاعات الصاروخية الاستراتيجية عام 1983، إلا أن وسائل الدفاع الأميركية ضد الهجمات الصاروخية، ظلت حتى الآن تعتمد بشكل أساسي على الهجمات الانتقامية والردع النووي ضد التهديدات الاستراتيجية.
وإلى أن تتوافر في المستقبل القريب دفاعات الطاقة الموجهة بشكل عملي، عبر استخدام نبضات الليزر، وأشعة الميكروويف عالية الطاقة، وغيرها من الوسائل الأخرى، كان الحل المؤقت دائماً هو الاعتماد على نظم الصواريخ الاعتراضية الحركية.
وتتمثل المشكلة الرئيسة في أن هذه الصواريخ الاعتراضية يمكن أن يتغلب عليها إطلاق وابل من الصواريخ غير المتطورة، أو إطلاق صواريخ من مواقع غير متوقعة، وقد تتغلب عليها أيضاً الرؤوس الحربية ذات القدرة على المناورة بعد إطلاق الصواريخ الاعتراضية عليها.
خطر التهديدات الناشئة
وفي حين ظل الحل المؤقت على مدى سنوات فعّالاً وكافياً، ضد الهجمات الصاروخية المحدودة، وإن كان ذلك بتكلفة كبيرة، إلا أن التهديدات الصاروخية الناشئة ستجعل نظم الاعتراض الصاروخية الحركية الحالية أقل فاعلية، وفقاً لما ذكره تقرير استخباراتي صدر أخيراً من وزارة الدفاع الأميركية، وخلص إلى أن التهديدات التي تشكلها أنظمة إطلاق الصواريخ الباليستية سوف تستمر، وتزداد تطوراً، وتصبح أكثر دقة وتنطلق من منصات متنقلة، وبمدى أطول.
كما يشير التقرير إلى ما هو أكثر خطراً، والذي يشكل تحدياً جديداً لنظم الدفاع الصاروخية الحركية، وهي المركبات المنزلقة التي تتجاوز أضعاف سرعة الصوت، وتُطلق من معززات الصواريخ الباليستية، والتي تتطور وتزداد قدرة وكفاءة، بخاصة في ظل إجراءات الخداع المتزايدة لدى خصوم الولايات المتحدة، وتعزيز الإجراءات التقنية والتشغيلية المضادة للتغلب على نظم الدفاع ضد الصواريخ الباليستية.
حساب التكلفة والعائد
وعلى الرغم من ذلك، يواصل "البنتاغون" الاستثمار بشكل ملحوظ لإضافة تحسينات هامشية في أداء ودقة صواريخ الاعتراض، بدلاً من تطوير الحلول المتعلقة بالطاقة الموجهة التي تُعد ضرورية لمواجهة التهديدات الجديدة مع نهاية هذا العقد وفقاً لتقرير نشره المجلس الأطلسي.
وتستند رؤى المطالبين بسرعة التحول الأميركي في أحد عناصرها، إلى حساب التكلفة والعائد على اعتبار أن هناك أساليب غير متسقة في تحديد تكلفة تطوير ونشر دفاع صاروخي لا يكافئ تكلفة الهجمات الصاروخية الهجومية للخصوم، حتى مع احتساب الأرواح والأصول الاقتصادية التي تتم حمايتها، كما أن أنظمة الدفاع الصاروخي تمتد في العادة لعقود عدّة، بالتالي، فإن التقنيات الدفاعية غالباً ما تتقادم بعد فترة زمنية، وتصبح قدرتها المحدودة أو غير الفعّالة على التصدي للهجمات، محل تساؤلات، حيث تكون حسابات التكلفة والعائد غير منطقية أو متوازنة، وهو ما يخالف المعايير التي وضعها بول نيتز، مستشار الرئيس الأمير
كي السابق ريغان للحد من التسلح، والتي تقول إن النظام الدفاعي يجب أن يكون قادراً على صد الهجمات بكفاءة، وأن يكون النظام الدفاعي أقل تكلفة من الصواريخ المصمم لإسقاطها.
المفاهيم التشغيلية
تعتمد المفاهيم التشغيلية لأنظمة الدفاع الصاروخي الأميركية على تتبع الرؤوس الحربية الباليستية أثناء تحركها وانزلاقها وتحديد مكانها وحساب معايير التوقيت وعناصر المناورة المحتملة، ونشر صواريخ ومركبات الاعتراض لإسقاطها، ولكن مع الاتجاهات المتطورة في تهديدات الصواريخ، ظهرت ثلاثة عوامل حاكمة هي حجم الغارة الصاروخية، والقدرة على المناورة بالرؤوس الحربية، وإمكانية تنقل قاذفات الصواريخ، بخاصة أن غارات الإطلاق المتزامن والكثيف للصواريخ من مواقع إطلاق مختلفة ونطاق استهداف متباينة تشكل الآن أخطر تهديد لفاعلية النظم الدفاعية.
ووفقاً لتحليل أصدره "البنتاغون" عام 2020 حول الصواريخ الباليستية وصواريخ "كروز"، فإن التهديدات التي تشكلها هذه الصواريخ وانتشارها، سوف تستمر بشكل كبير كبديل جذاب للدول التي لا تستطيع تحمل تكلفة تطوير وتحديث قوات جوية فاعلة، فضلاً عن استخدام جهات أخرى غير حكومية وجماعات إرهابية، صواريخ "كروز" دقيقة وطائرات "درون" مسيّرة بعيدة المدى، وهو ما يزيد من حجم القلق، بخاصة مع توافر هذه الصواريخ في سوق الأسلحة الدولية وإمكان تشغيلها بقليل من التدريب، وانتشارها على منصات متنقلة، بما في ذلك السفن التجارية، بل وإمكانية إطلاقها من غواصات.
الخطر الأكبر
غير أن الخطر الذي يمثل أكبر تهديد لنظم الدفاع الصاروخية الأميركية هو المركبات المنزلقة الفرط صوتية القادرة على المناورة بسرعات تفوق أضعاف سرعة الصوت، والتي نجحت الصين وروسيا في إنتاجها، لأنها تقاوم بشكل فعّال كل أنظمة الدفاع الصاروخي الحالية في الولايات المتحدة التي تعتمد تقليدياً على التنبؤ الدقيق لمسار ثابت للصواريخ من أجل اعتراضها في وقت لاحق من الرحلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن، مع صواريخ تحلق عادة بسرعات تتراوح بين 7 ماخ (2.4 كيلومتر/ ثانية) و19 ماخ (6.5 كيلومتر/ ثانية)، وتمتلك مركباتها المنزلقة القدرة على تغيير مسارها، يصعب على المنظومة الدفاعية الأميركية اعتراضها في المراحل النهائية، بخاصة إذا كانت تحلق على ارتفاعات أقل من الصواريخ الباليستية، بالتالي يصعب تعقبها باستخدام الرادارات أو عبر البصر بسبب أفق الأرض.
وعلاوة على ذلك، يخشى متخصصون دفاعيون من إمكانية مهاجمة الولايات المتحدة من مسارات متعددة، فقد تأتي الهجمات من الجنوب أو الشمال، وقد يأتي التهديد من غواصات تطلق هذه الصواريخ أو من أنظمة إطلاق متحركة ومخفية، ومع وجود أنظمة دفاع صاروخي لا تلبي أياً من المعايير طويلة الأمد التي يقتضيها الإنفاق على الدفاع الصاروخي، فإن الحل المؤقت القائم الآن هو حل غير حكيم.
تحول مطلوب
ولهذا، تتصاعد المطالبات بتسريع تطوير نظم دفاعية بالطاقة الموجهة، بخاصة أن تطوير أنظمة الليزر الفعّالة والترددات الراديوية عالية الطاقة، والتي تستعين بالذكاء الاصطناعي، سوف يستغرق سنوات عديدة بالنظر إلى عدد من الانتكاسات الفنية والتشغيلية في وقت سابق.
ويرى متخصصون استراتيجيون أنه يمكن بالتعاون مع أساطيل الذكاء الاصطناعي المطبقة في عدد من المنصات المستقلة في المجالات البحرية والجوية والأرضية والفضائية، أن تظهر فرص أفضل لتطوير أنظمة طاقة موجهة فعّالة وبأسعار معقولة بحلول نهاية هذا العقد.
ومن خلال تحديد أولويات التمويل في تحديث نظم الطاقة الموجهة، من المؤكد أن تشهد نظم الدفاع الأميركية طفرة مهمة، على غرار تطوير تقنيات السلاح خلال التسعينيات والعقد الأول من القرن الـ21.
ويعترف كثيرون بأن القاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية ليست على ما يرام بسبب النقص في التصنيع وسلسلة التوريد وكفاءة القوى العاملة، ما يؤثر على قدرة الولايات المتحدة على تطوير القدرة الصناعية لأنظمة الطاقة الموجهة، إلا أن الجيش الأميركي أجرى اختبارات واعدة في نظم أسلحة بالليزر ونظام لأشعة الميكروويف عالي الطاقة "هيلوز" ونظام "أثينا" عالي الطاقة يخضع حالياً للتطوير، ومن المتوقع أن يساعد التحول الحكومي في الاستثمار في الطاقة الموجهة إلى منجزات أفضل في المستقبل.