يُنقل عن دبلوماسي في إحدى العواصم الكبرى مولج من قبل وزارة الخارجية والسلطات العليا في بلاده بمتابعة الوضع اللبناني قوله إنه يتخوف من أن ينتهي لبنان إلى النسيان على أجندة الدول من شدة عدم ملاقاة القوى السياسية النافذة فيه لجهود مساعدته وانعدام التجاوب مع إلحاح المجتمع الدولي على الإصلاحات ووقف زج البلد في الصراعات الإقليمية. فالعواصم الكبرى قد تستنتج، بحسب الدبلوماسي، بعد أعوام من الاهتمام بانتشال لبنان من مأزقه، من دون نتيجة، أنه من الأفضل أن يُترك لحاله طالما ليست هناك استجابة لمتطلبات مساعدته مالياً، "وهو في كل حال بلد صغير من 4 إلى 5 ملايين نسمة"...
لكن حتى هذه اللحظة، يبدو أن القرار الموحد في الأسرة الدولية هو منع الانهيار الكامل للدولة اللبنانية ومؤسساتها، على الرغم من التدهور المريع في كل أدائها والخدمات البديهية التي عليها تقديمها، ومع حؤول التأزم السياسي دون تسريع إنجاز ما على السلطة السياسية القيام به من أجل المباشرة في خطة للتعافي الاقتصادي باتفاق مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية والدول المانحة.
فهذا الاتفاق المنتظر منذ خريف 2019 هو وحده الذي ينتشل لبنان من الوضع المأساوي الذي يعيشه والذي يزداد تردياً يوماً بعد يوم.
في المقابل، شكّلت الزيارة التي قام بها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى لبنان على مدى أربعة أيام تلخيصاً للالتزامات الدولية السعي لإبقاء لبنان قابلاً لتصحيح المسار الانحداري الذي يسلكه، على الصعيدين الاقتصادي والمعيشي، في انتظار أن ترسو سلطاته الدستورية والسياسية على معادلة واضحة بعد الانتخابات النيابية في الربيع المقبل، ثم بعد الانتخابات الرئاسية في الخريف الذي يليه، نظراً إلى قناعة الدول المنخرطة في تفاصيل الأزمة، أنه يستحيل إرساء حلول بعيدة المدى مع التركيبة السياسية الحاكمة الحالية، ما لم يحصل تغيير ما في السلطة، الاستحقاق الانتخابي هو الحد الفاصل فيه. وكل ما يمكن تقديمه حالياً هو المساعدات الإنسانية.
إضافة إلى تكراره لازمة ضرورة إجراء الانتخابات النيابية في موعدها التي يراهن عليها المجتمع الدولي، وإبداء الاستعداد لتغطية نفقات بعض أنشطتها، والتشديد على دعم الجيش اللبناني بالمساعدات التي تقدمها له قوات "يونيفيل"، خصوصاً أنه اجتمع مع قائد الجيش العماد جوزيف عون لهذا الغرض، هناك ثلاث نقاط يمكن استنتاجها من زيارة غوتيريش في سياق ما سُمي بـ"الإدارة الدولية للشأن اللبناني"، التي يأمل معظم اللبنانيين أن تكون أكثر حضوراً، فيما يخشى منها "حزب الله" الفريق الأقوى على الساحة نظراً إلى أنها تقضم من نفوذه على السلطة الذي تصاعد منذ نجاحه في الإتيان بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية منذ 2016 ، على تحالف معه على الرغم من الاختلافات الظرفية التي تظهر بينهما.
ويمكن تلخيص المعطيات حول هذه النقاط، التي عكس بعض عناوينها في مؤتمره الصحافي عشية مغادرته بيروت في 22 ديسمبر (كانون الأول) بالآتي:
فكرة المؤتمر الدولي بعد الإصلاحات
"على لبنان أن يقوم بواجبه (homework) أولاً. وهو أمر أساسي لصدقيته، بأن يبدأ بلا تأخير بتنفيذ الإصلاحات الموعودة من أجل إنجاز الاتفاق مع صندوق النقد". وفي هذا المجال، علمت "اندبندنت عربية" من مصدر لبناني رسمي أن غوتيريش، مثل سائر الدبلوماسيين المعنيين بوضع لبنان يتفهم تحديد طموح حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بالتوصل إلى "اتفاق إطار" مع الصندوق، عبر اجتماعات اللجنة الوزارية المكلفة التفاوض معه والتي تكثف اجتماعاتها في هذا الصدد لإنهاء هذا الاتفاق الأولي، تمهيداً لإقراره حين تسمح الظروف باجتماع الحكومة التي يحول الخلاف مع ثنائي "حزب الله"- حركة "أمل" دون التئامها تحت شرطهما الحد من صلاحيات المحقق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت بفصل ملاحقته للوزراء والنواب الذين يتهمهم بالتقصير والإهمال، عن سائر التحقيقات التي يجريها حول الانفجار، بإحالة هؤلاء إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الوزراء والنواب والرؤساء الذي شكّله المجلس النيابي.
أما الاتفاق الكامل مع صندوق النقد وتفاصيل المساعدات المالية التي يمكن أن يؤمنها (قال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أنها قد تكون بين 12 و15 مليار دولار لتحريك الاقتصاد)، فهو متروك لما بعد الانتخابات الرئاسية.
الجديد في كلام غوتيريش قوله إن قيام لبنان بواجبه يسمح بتعبئة المجتمع الدولي، "حيث لدينا مجموعة مبادرات نقوم بتحضيرها وصولاً إلى احتمال الدعوة لمؤتمر دولي لمساعدة لبنان". وترك الأمين العام هذه الفكرة غامضة، حول ما إذا كانت أجندة المؤتمر تشمل معالجة الوضع السياسي المتأزم في البلد أو أنها ستقتصر على البحث بضخ الأموال في اقتصاده. فغوتيريش جمع بين اشتراط المجتمع الدولي للإصلاحات الاقتصادية وبين الإصلاحات السياسية، موحياً بذلك أن إصلاح الاقتصاد يتطلب تغييراً سياسياً...
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي هذا السياق، ميّز بين المساعدات الاقتصادية البعيدة المدى وبين المساعدات الإنسانية التي يقدمها المجتمع الدولي راهناً إلى المجتمع اللبناني والتي لا تمرّ عبر مؤسسات الدولة اللبنانية، بل عبر المنظمات غير الحكومية.
وسبق زيارة المسؤول الدولي اتفاق فرنسي سعودي على السعي إلى إنشاء صندوق دولي يتولّى ضخ هذا النوع من المساعدات في مجالات الصحة والتربية والمواد الغذائية، تكون الأمم المتحدة المنسق الفعلي لتوزيعها لا الحكومة اللبنانية. ولذلك قال إن "الأسرة الدولية لن تتجاوب بقدر ما نريدها أن تفعل، إذا بقي البلد مشلولاً، وإذا لم تلمس الإصلاحات الواضحة للحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلد".
التحقيق في المرفأ والمجتمع الدولي
بالنسبة إلى التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، اعتبر غوتيريش أنه "من الضروري أن يكون غير منحاز، بالكامل، ومستقل وشفاف". وحين سئل في مؤتمره الصحافي عن إمكان الاستجابة لطلب بعض الفرقاء التحقيق الدولي، أمل أن يكون وفق المواصفات التي ذكرها "في الإطار اللبناني، وإذا لم يكُن كذلك، فمن المهم للمجتمع الدولي عندها أن يتحرك وهذا يتطلب آليات وقراراً يتعدى قدرتي الشخصية".
فقد عايش غوتيريش أثناء زيارته ما جرى من محاولات مساومة على التحقيق في انفجار المرفأ، بحيث انفجر الخلاف على ما سُمّي "الصفقة" التي جرى تحضيرها بين "حزب الله" ورئيس الجمهورية العماد ميشال عون و"التيار الوطني الحر"، والقاضية بمعالجة شرط الثنائي الشيعي تعطيل اجتماعات مجلس الوزراء، عبر مقايضة إقالة عدد من كبار القضاة، بينهم المحقق العدلي في ملف المرفأ طارق البيطار الذي يعترض عليه الثنائي، بتقديم مكسب للفريق الرئاسي يقوم على التأثير في قضاة في المجلس الدستوري ليتخذ قراراً لمصلحة الطعن الذي قدّمه "التيار الحر" بالتعديلات التي أدخلها المجلس النيابي على قانون الانتخاب.
فالرئيس ميقاتي أنهى بسرعة غداءه مع غوتيريش في اليوم الثاني لزيارته بيروت، من أجل زيارة رئيس البرلمان نبيه بري لإبلاغه برفضه تلك الصفقة، وعاد فأكد لعون أنه لا يقبل إقحام الحكومة التي كانت تقضي "الصفقة" أن تمرّ عبر اجتماعها، لأنه يرفض التدخل في السلطة القضائية فتم إسقاطها. وشهد غوتيريش على ما يعتبرها قطاع واسع من الشعب اللبناني والقوى السياسية محاولات لتمييع التحقيق في انفجار المرفأ. فهل أن إشارته إلى احتمال تحرك المجتمع الدولي في شأن التحقيق هي نوع من الإنذار للقوى التي تسعى إلى نسفه؟ وهو حرص على الإعلان حين سئل عن الموضوع "أنا أؤمن بفصل السلطات".
الحدود البحرية والنصيحة بالتجاوب مع هوكستين
أكد المصدر الرسمي اللبناني الذي تحدثت إليه "اندبندنت عربية" أن غوتيريش تناول مع الرؤساء الثلاثة مسألة التفاوض على ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل عبر الوسيط الأميركي ورعاية الأمم المتحدة. وأفادت المعلومات بأن غوتيريش أوضح أن الوسيط، المستشار الأول في وزارة الخارجية الأميركية آيموس هوكستين سيزور بيروت مجدداً قريباً، وأنه تمنى على كبار المسؤولين أن يتجاوبوا مع طرح جديد سيقدمه نتيجة مداولاته مع الجانب الإسرائيلي، من أجل عودة التفاوض غير المباشر بين الجانبين، الذي كان توقف قبل زهاء عام نتيجة اعتراض الجانب الإسرائيلي على خريطة جديدة تقدّم بها لبنان لخط الحدود البحرية (الخط 29) بدل الخريطة السابقة التي كان سجّلها عام 2013 لدى الأمم المتحدة والتي تعتمد الخط 23.
وتسبب التقدم بالخريطة الجديدة آنذاك بخلاف بين الرئيسين عون وبري الذي كان تولّى في الأعوام الماضية التفاوض مع الجانب الأميركي على حقوق لبنان في الخط 23 بهدف الحصول على 863 كيلومتراً مربعاً في نطاقه كانت إسرائيل تقول إنها تقع في المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة لها. إلا أن غوتيريش تبلّغ من الرؤساء الثلاثة خلال زيارته موقفاً موحداً يقضي بالتشبث بالخط 23. وعلم أن الطرح الجديد الذي سعى هوكستين إلى تسويقه لدى الجانبين اللبناني والإسرائيلي هو الموافقة على مطلب لبنان بالحصول على مساحة 863 كيلومتراً مربعاً التي يطالب بها، لكن مع إضافة أن يكون الخط البحري متعرّجاً بدلاً من أن يكون مستقيماً، بحيث يحصل لبنان على أحد حقول الغاز في البحر (حقل قانا) كاملاً لأنه يتداخل مع المساحة العائدة لإسرائيل، وتحصل إسرائيل على بدل تلك المساحة في عملية رسم الخط البحري.