في نهاية الأمر، حتى ولو كان أدب الإنجليزي الراحل قبل ما يقرب من العامين، جون لوكاريه، واحداً من أبرز الآداب التي اهتمت بالحرب الباردة والتنافس التجسسي بين ما كان يسمى حينها "الشرق" و"الغرب"، وذلك منذ ظهور روايته الكبرى الأولى "الجاسوس الآتي من الصقيع" خلال النصف الأول من ستينيات القرن العشرين، والضجيج الذي أثارته، فإنه لم يكن أدباً أيديولوجياً، بمعنى أنه كان أدباً يعلو على السياسة. ونعني هنا السياسة بالمعنى المبتذل للكلمة، والذي طبع، ويا للمفارقة، روايات إيان فليمنغ بجيمس بوندها وخمرها ونسائها والحبكات اللامعقولة التي امتلأت بها. ففي رواياته تناول لوكاريه مهنة الجاسوسية من موقع الأسئلة والمعاناة الإنسانية، حتى وإن كان لا بد له من مقاربة الأبعاد السياسية، إنما من تلك المنطلقات فقط. ولعل خير أمارة على ذلك أن أدبه تواصل بعد انفراط الحرب الباردة متناولاً شؤوناً تخرج تماماً عن تلك الحرب لتلامس شؤوناً تهم البشرية جميعاً من ألاعيب شركات الأدوية والديكتاتوريات والإرهاب، بل حتى من مناورات ومؤامرات أجهزة الاستخبارات، وغالباً بوصفها دولاً تقف أعلى من الدول، ولها منطقها الخاص واستراتيجياتها الثعبانية الخاصة، وذلك إلى جانب تنديده بالظلم اللاحق على البلدان الفقيرة وشعوبها.
السياسة في الضفة الأخرى
غير أن هذا لا يعني بالطبع أن لوكاريه كان بعيداً عن السياسة المباشرة إلى الحد الذي قد توحي به هذه السطور، بل على العكس، لكن اللافت لديه هو أن مواقفه السياسية البارزة كانت تظهر ليس في أدبه تماماً، ولكن تحديداً في مواقفه وتصريحاته التي غالباً ما كنت تهجو السياسات الأميركية التي كان يعتبرها ظالمة، ولا سيما من خلال تعاملها مع قضايا الشرق الأوسط بشكل خاص، ومع قضايا العالم الثالث بشكل عام. وكانت تلك مواقف واضحة تصل أحياناً إلى حد الصراخ في وجه أسياد العالم ومدمريه، وغالباً في تصريحات صحافية تتناقلها وسائل الإعلام، ونادراً ما يتمكن متابعوها من العثور على ما يصل إلى قوتها وصدقها في أدبه. ومع هذا يمكن لنا هنا أن نجد نوعاً من الاستثناء الذي قد يبدو مفاجئاً من كاتب يقول لنا تاريخه إنه اشتغل لحقبة طويلة من حياته في صفوف أجهزة الاستخبارات البريطانية، وساند سياسات بلده الاستعمارية. والحقيقة أن لوكاريه توقف عن تلك المساندة التي كان يمارسها باسمه الحقيقي ديفيد كورنويل منذ أن اختار جون لوكاريه اسماً أدبياً له، وانصرف إلى الكتابة الروائية، مستفيداً من تجاربه ورُؤاه الخاصة، مبتكراً شخصية العميل جورج سمايلي كأنا/ آخر له، يعبر عن معاناته كعميل ممزق بين وعيه وضميره من ناحية ومهنته من ناحية أخرى.
في شعاب قضية القضايا
تلك المواقف التي كان الكاتب يعبر عنها وصلت إلى ذروتها كما نعرف خلال سنوات السبعين، وما بعدها، حين راحت قضايا الشرق الأوسط تطفو على سطح الأحداث العالمية، وبدأ لوكاريه يتحسس الظلم الذي يمارسه الغرب عموماً، والسياسات الأميركية خصوصاً، في منطقة الشرق الأوسط. وسوف يمتد ذلك الوعي لدى كاتبنا طوال ما لا يقل عن ثلاثة عقود من السنين، ليشمل صراخه ضد التدخل الأميركي في حرب الخليج، ولكن من دون أن يشمل بتعاطفه تلك الممارسات الديكتاتورية من الحكم العراقي آنذاك، والتي أدت إلى ذلك التدخل. في ذلك الحين كان من الواضح أن لوكاريه راح يتمزق في وعيه كحال كُثر من المثقفين الشرفاء في العالم. وربما كان ذلك التمزق هو ما جعله يستنكف عن إنتاج أدب يعكس حقاً ما كان يحدث، مكتفياً بالتصريحات الصحافية والمواقف التنديدية. والحال أن هذا كان يتساوق مع ما كان يتبعه من الاكتفاء بالمواقف والتصريحات بالنسبة إلى السياسات المباشرة. وربما كان ذلك من جانبه نوعاً من الحذر لكي لا يقع في المطب الذي كان قد وقع به حين دنا من المسائل الشرق أوسطية إلى أدنى حد ممكن بالنسبة إليه في واحدة من رواياته الأكثر التباساً. وربما نقول هنا إنها أتت مُلتبسة إلى ذلك الحد الكبير تحديداً، لأنه بدا فيها حائراً غير قادر على الغوص في تسيُّسه المفاجئ من طريق الإبداع إلى تلك الدرجة التي غاص فيها.
فانيسا الساحرة نموذجاً
ونتحدث هنا طبعاً عن روايته "فتاة الطبل الصغيرة" التي صدرت في عام 1983، أي خلال تلك الحقبة التي كانت القضية الفلسطينية فيها قضية تشغل العالم بعدالتها، والمؤامرات التي تُحاك من حولها وإرهابها والحروب المحتدمة ضدها. وكانت القضية الفلسطينية حينها "قضية القضايا"، بالتالي لم يكن في وسع كاتب من طينة لوكاريه ألا يدنو منها، وفي أدبه تحديداً. ومن هنا، كتب تلك الرواية التي ستبدو في نهاية المطاف واحدة من أضعف روايات تلك المرحلة، لكنها ستكون روايته الأكثر التباساً، وكذلك ستكون حال الفيلم الذي اقتبسه عنها الأميركي جورج روي هيل من بطولة دايان كيتون وكلاوس كينسكي. ومهما يكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن الحبكة نفسها التي اختارها لوكاريه لروايته تبدو هي المسؤولة عما فيها من التباس، فالموضوع يدور هنا من حول ممثلة إنجليزية تتعاطف مع الفلسطينيين من جرّاء انتمائها الفكري لليسار المتطرف الأوروبي (ومن الواضح هنا أن الشخصية مأخوذة من شخصية فانيسا ريدغريف التي سيعترف لوكاريه لاحقاً بأنه كان مفتوناً بها) هي تشارلي التي يتمكن ضابط استخبارات إسرائيلي يُدعى كورتس من تجنيدها في غفلة عنها كي يصل من خلالها إلى مسؤول "إرهابي" فلسطيني يُدعى خليل، يعتبره الإسرائيليون مسؤولاً عن تفجيرات تطاول يهوداً في مدن أوروبية عديدة، ولا سيما في ألمانيا (وربما في إشارة مواربة هنا إلى عملية ميونيخ والمسؤول عنها في تنظيم أيلول الأسود، عام 1972). ولعل السؤال الأهم الذي يمكن طرحه هنا يتعلق بالدافع الذي يحدو بتشارلي إلى التعاون مع الإسرائيليين، حيت تدرك فحوى ما هو مطلوب منها، والجواب بسيط، بل تبسيطي حتى إنها تقع في غرام الضابط الإسرائيلي المكلف الاتصال بها، والاسم هنا جوزف لمجرد أنه يشبه ميشال شقيق خليل بعض الشبه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مطاردات وغرام وقنابل
من الواضح أن هذه الحبكة ليست مقنعة، ومع ذلك تواصل الرواية مجراها... يطلب من تشارلي أن تصطحب الضابط الإسرائيلي في جولة بين المدن الأوروبية لكي يعلم خليل بالأمر، ويسعى للقائها كي يستعلم منها عن حكايتها مع شبيه أخيه، وبذلك يتمكن الإسرائيليون من مطاردته والعثور عليه وقتله! إثر هذا يتجه خليل إلى التواصل مع تشارلي عن طريق وساطات متنوعة ومتشعبة حتى الوقت الذي تصل فيه هي إلى لبنان، حيث تلتحق بمخيم فلسطيني في الجنوب، وتبدأ بالتدريب على استخدام القنابل والمتفجرات، لكنها في خضم ذلك ستتمكن منها مناصرتها للفلسطينيين أكثر وأكثر، ما يخلق لديها ذلك التمزق الذي من الواضح أنه يعكس في الحقيقة تمزق جون لوكاريه نفسه تجاه تلك القضية، فيدفعنا إلى التيقن من أن تشارلي، إنما هي هنا الأنا/ الآخر للكاتب الذي يحاول في نهاية الأمر التعبير أدبياً عن تمزقه الخاص إزاء القضية، إنما من دون أن يوقف حكايته عند هذا الحد، ذلك أنه بعد فترة التدريب ترسل تشارلي (من قبل من؟) لتقتل محاضراً إسرائيلياً معتدلاً لا تروق مواقفه السلمية لخليل، ولكن ليس للإسرائيليين أيضاً. في النهاية، تتمكن تشارلي من تنفيذ العملية، لكن خليل يقع في الوقت نفسه في أيدي الإسرائيليين الذين يتمكنون من اغتياله غير آبهين بتشارلي "عميلتهم" التي سينتهي أمرها بانهيار مُريع ناتج بالطبع عن غرقها في تناقضاتها، تماماً كحال تلك الرواية التي تشكل تدخلاً نادراً في الشؤون السياسية من قبل كاتب كانت سياسات رواياته تبدو دائماً أكثر رهافة وقوة.