لبنان محكوم بمسؤولين أقل أمراضهم "الشيزوفرينيا السياسية"، لا فقط بالنسبة إلى العيش في العالم الافتراضي والعالم الواقعي بل أيضاً بالنسبة إلى الانفصام بين الظاهر والباطن، شيء يبدون فيه كأنهم أساتذة لمكيافيلي القائل، "القواعد الأخلاقية للسلوك الإنساني يمكن أن تكون خطيرة إذا تبناها القادة في المراتب العليا. وفضائل الأمير يجب أن تكون واضحة ومرئية فقط لا حقيقية". وشيء يؤكد أن الحسابات الشخصية والفئوية الضيقة تطغى على حسابات البلد، وهذا ما ظهر خلال زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي "فطر لبنان قلبه" في حين لم تحرك كارثة لبنان واللبنانيين شعرة في رؤوس المسؤولين، فهم تصرفوا أمام غوتيريش كرجال دولة تحدثوا عن حاجات لبنان ومطالبه من دون أن يصغوا إلى مطالبته لهم بأن "يستحقوا شعبهم"، وهم كانوا حتى خلال زيارته، مشغولين بالعمل على صفقة معيبة هي صفقة الأقوياء الخائفين من القضاء والناخبين، وتصرفوا كرجال مافيا.
"الثنائي الشيعي" (حزب الله وحركة أمل)، الذي يفاخر بأنه يملك "فائض القوة" خائف من التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، و"الرئيس القوي" (رئيس الجمهورية ميشال عون)، ومعه صهره جبران باسيل رئيس "التيار الوطني الحر" و"تكتل لبنان القوي" خائفون من تصويت اللبنانيين في الخارج حيث هم للدوائر الانتخابية في البلد. والمفارقة أن "التيار الحر" كان أقوى مدافع عن حق غير المقيمين في الاقتراع، وأن باسيل كوزير للخارجية رتب أكثر من مؤتمر لهؤلاء وجال عليهم في كل مكان وصولاً إلى لاس فيغاس في الولايات المتحدة الأميركية. أما "الثنائي الشيعي"، فإنه رفض منذ الانفجار الرهيب اللجوء إلى التحقيق الدولي، ويصر على "قبع" المحقق العدلي طارق البيطار بعد الإطاحة بسلفه فادي صوان لمنع التحقيق من كشف الحقيقة، بحجة "منع الفتنة" والادعاء أن "السفارة الأميركية تدير التحقيق". كأن القاضي البيطار الباحث عن الحقيقة أخطر على لبنان من الجهة التي جاءت بـ2750 طناً من نترات الأمونيوم وخزنتها على مدى سنوات واستخدمتها على مراحل، قبل أن ينفجر الباقي منها ويدمر ثلث بيروت ويقتل ويجرح الآلاف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الصفقة المعيبة قائمة على مجزرة قضائية و"مسخرة" سياسية، قوامها تغيير سهيل عبود رئيس مجلس القضاء الأعلى وغسان عويدات النائب العام التميزي ورئيس شورى الدولة فادي الياس والمدعي العام المالي علي إبراهيم وتعيين بدائل لـ"قبع" البيطار بما يرضي "الثنائي الشيعي" مقابل تصويت المجلس الدستوري على إبطال قانون الانتخابات الذي طعن فيه "التيار الوطني الحر"، وعودة مجلس الوزراء إلى الاجتماع، وهو مطلب رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي.
والمعنى العملي للصفقة هو إنهاء المؤسسات والمجالس والإيحاء أن المجلس الدستوري "مجلس للإيجار" وحرمان اللبنانيين غير المقيمين من الاقتراع لدوائرهم هنا بما يريح باسيل الخائف من خسارته في البترون (شمال لبنان)، وخسارة التيار في أقضية عدة. فالرأي العام تغير بفعل الأزمات التي ضربت الناس وإصرار المسؤولين على تعميقها وتوظيفها. وما حدث هو أن رئيس الحكومة تخوف في النهاية من الصفقة وتأثيرها على بيئته والنظام كما على الدعم الفرنسي والأميركي له.
لكن سقوط الصفقة لا يلغي خطورتها، فالعقلية التي فكرت فيها وعملت لها مستعدة لفعل ما هو أسوأ منها في أي وقت، والأولوية عند المافيا السياسية والمالية والميليشياوية الحاكمة والمتحكمة كانت ولا تزال للحسابات الشخصية والفئوية ضد المصلحة الوطنية العليا، والأخطر هو أن الألعاب التكتيكية التي تقوم بها المافيا لحماية مصالحها تقود إلى مخاطر استراتيجية على لبنان واللبنانيين، مخاطر أولها فراغ السلطة ونهاية حلم الدولة. واللاعبون طرفان: واحد لا يعرف ماذا يفعل ولا سيناريو لديه، وآخر يدعي أنه يعرف ماذا يفعل، لكنه يدرك خطورة أن يفعل، ولا يستطيع ملء الفراغ بقوة الأمر الواقع.
يقول سانتايانا، "لا رياح ملائمة لمن ليس لهم اتجاه"، أما في الواقع اللبناني المخيف اليوم، فإنه لا رياح ملائمة حتى لمن لديهم اتجاه.