أمام مكتب السكان والهجرة الإسرائيلي في حي وادي الجوز شرق القدس، يقف عامر (20 سنة) حائراً أمام أصعب قرار سيتخذه في حياته، فالجنسية الإسرائيلية التي عزم التقدم لطلبها أملاً بالحصول على مستقبل أفضل بحسب اعتقاده، خلقت شرخاً قوياً بينه وبين عائلته التي ألحت عليه بغضب التراجع عنها خوفاً من وصمة عار قد تلاحقهم، فمعظم المقدسيين يعتبرون أن الجنسية الإسرائيلية التي تشترط "الولاء لدولة إسرائيل" خيانة لهويتهم الفلسطينية.
كان الخيار موجعاً بالنسبة إلى عامر لكنه أقدم على طلب الجنسية الإسرائيلية وأخفى قراره عن العائلة والأصدقاء خشية ردود فعل سلبية.
أسباب عملية يقول إنها دفعته إلى هذه الخطوة، "أعتقد أن الجنسية الإسرائيلية ستمهد لواقع جيد من حيث العمل والتعليم وامتلاك منزل والتنقل والسفر، والحياة خارج القدس لن تغدو مخاطرة كما السابق. لطالما كان الخوف من الطرد والبطالة والفقر وضيق السكن يلاحق شباب القدس من كل جانب من دون اكتراث من أي مسؤول فلسطيني."
ويضيف لـ "اندبندنت عربية"، "الجنسية الإسرائيلية ليست خيانة كما يعتقد بعضهم، فنحن لم نتخل عن حبنا للقدس وعن مبادئنا كفلسطينيين ولا زلنا نعشق باب العامود والبلدة القديمة، لكن طمعاً بالتسهيلات وهرباً من شبح سحب الإقامة والطرد داخل المدينة وخارجها، تقدمت كما مئات الشباب المقدسيين لطلب الجنسية."
عام واحد فقط
نهاية عام 2019 بدأت دائرة تسجيل السكان الإسرائيلية في القدس حملة لتقليص فترة الانتظار للحصول على الجنسية الإسرائيلية لسكان القدس الشرقية، إذ أصبحت فترة الانتظار لمعالجة غالبية طلبات الفلسطينيين عاماً واحداً فقط بدلاً من ستة أعوام، وعلى مقدمي الطلبات إثبات أن القدس مكان سكنهم الرئيس في آخر ثلاث سنوات متواصلة، بما يشملها من فواتير الضرائب والمياه والكهرباء والبلدية، وعليهم أيضاً تحدث اللغة العبرية وأداء قسم الولاء "لدولة إسرائيل"، وتشترط دائرة السكان والهجرة على المتقدمين أن يتنازلوا عن جواز السفر الأردني المؤقت، وخلو سجلاتهم الأمنية من أي أنشطة فيها معاداة لإسرائيل.
ووفقا لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، فإن الطلب للحصول على الجنسية الإسرائيلية من قبل سكان القدس الشرقية في ارتفاع مستمر وغير مسبوق، فخلال عام 2003 تم تقديم 69 طلباً فقط لوزارة الداخلية للحصول على الجنسية، فيما تقدم أكثر من 1000 فلسطيني من سكان القدس الشرقية العام الماضي للحصول على الجنسية الإسرائيلية، وتشير أرقام وزارة الداخلية الإسرائيلية إلى أن 1064 فلسطينياً من القدس الشرقية قدموا في 2018 طلبات للحصول على الجنسية الإسرائيلية، في مقابل 1633 طلباً في 2020، السنة التي تمت الموافقة فيها على 1826 طلباً.
وبحسب الأرقام الرسمية المعلنة فقد حصل حوالى 24 ألف فلسطيني من شرق القدس على الجنسية الإسرائيلية منذ أن سيطرت إسرائيل على كامل مدينة القدس عام 1967.
مبالغة في الأرقام المعلنة
مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية في مدينة القدس زياد الحموري شكك في أرقام وزارة الداخلية الإسرائيلية وأهدافها من تسهيلات "التجنيس"، ويقول في حديث خاص إنه "ضمن سياسة التهجير القسري يسعى الاحتلال إلى إلغاء الوجود الفلسطيني بصفة ممنهجة في المدينة المقدسة في محاولة لتكريس أغلبية يهودية بشطريها، وحتى بعد الحصول على الجنسية لن يتخلى الاحتلال عن سياساته العنصرية تجاه الفلسطينيين، فهناك ممارسات عنصرية إسرائيلية مستمرة بحق فلسطينيي أراضي 48 الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية منذ سنوات طويلة."
ويضيف، "قرابة 700 مقدسي سنوياً يقدمون طلبات للحصول على الجنسية الإسرائيلية، يقبل منهم بين 150 إلى 200 طلب فقط، أي أن 80 في المئة من تلك الطلبات يتم رفضها، مما يعني أن هناك مبالغة كبيرة في أرقام وزارة الداخلية التي تتقصد إظهار صورة المقدسي الذي يقسم بالولاء لإسرائيل، ولـ "أسرلة" المجتمع المقدسي من خلال تسريع الحصول على الجنسية كشكل من أشكال إذابة الرفض الفلسطيني لوجود الاحتلال".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تأثير كبير
المتحدثة باسم وزارة الداخلية الإسرائيلية قالت لوكالة الأنباء الفرنسية في وقت سابق، "يتم التعامل مع طلبات التجنيس التي يقدمها فلسطينيو القدس الشرقية مثل طلبات كافة الأجانب المقيمين بشكل دائم في إسرائيل". وأضافت المتحدثة أنه "يتم التعامل مع كل قضية على حدة".
وتعمل الحكومة الإسرائيلية منذ سيطرتها على مدينة القدس عام 1967 على منح الفلسطينيين في الجزء الشرقي منها الإقامة الدائمة، مما سمح لهم بالتصويت في الانتخابات البلدية والحصول على التأمين الصحي ومزايا الضمان الاجتماعي، لكن ذلك لا يسمح لهم بالتصويت في انتخابات الكنيست (البرلمان) أو الحصول على جواز سفر إسرائيلي.
الباحثة بمركز مينيرفا لحقوق الإنسان بالجامعة العبرية في القدس ياعيل رونين أوضحت عبر مقالة أن "ثلث المقدسيين حاصلون على جوازات أردنية مؤقتة والثلثين الآخرين ليست لديهم جنسية، لكن مكانتهم في إسرائيل مصنفة على أنها دائمة، وقد يؤدي استخدام الإجراء الجديد لتطبيق قسم قديم في قانون المواطنة إلى تغيير في علاقة القوى السياسية داخل مجتمع القدس، وعلاقتهم بالسلطات الإسرائيلية، مع العلم أن الوضع في هذه المدينة فريد من نوعه.
القسم (4-أ) في القانون الإسرائيلي يوفر فرصة للحصول على الجنسية لـ 20 ألفاً من المقدسيين، وسبعة آلاف مقيم إضافي كل عام في المستقبل، للحصول على الجنسية الإسرائيلية، وسيكون لهذا تأثير كبير في هوية ومكانة المجتمع الفلسطيني شرق القدس".
ترحيل هادئ
يقول خبراء "إن سبب الزيادة الملحوظة في الطلبات للحصول على الجنسية من قبل سكان القدس الشرقية، جاء بالأساس لحماية قدرتهم على السكن والعمل في المدينة وخوفاً من سحب إقامتهم من قبل وزارة الداخلية، على عكس الجنسية التي يمكن سحبها فقط في حالات نادرة جداً . ومنذ العام 1995 بدأت إسرائيل سياسة لسحب الإقامة من سكان القدس الشرقية لمجرد انتقالهم للدراسة أو العمل أو الزواج خارج حدودها خمس سنوات متواصلة، ووصلت هذه السياسة ذروتها عام 2008، تم خلالها سحب الإقامة من عدد غير مسبوق من سكان القدس الشرقية وصل إلى 4577 شخصاً. وبحسب منظمة "هموكيد" الحقوقية الإسرائيلية فإن أكثر من 14500 من سكان القدس الشرقية تم سحب إقامتهم منذ عام 1995".
وفي بيان، قالت سلطة السكان والهجرة "إن مركز حياة المتقدمين يعد جزءاً مهماً من المعايير التي تحدد ما إذا كان قد تم إنشاء إقامة دائمة"، مشيرة إلى "أنها أيضاً ممارسة في العديد من البلدان الأخرى".
شبح الإقامة
الائتلاف الأهلي للدفاع عن حقوق الفلسطينيين بالقدس يرى "أن الأعداد التي تطالب بالحصول على الجنسية الإسرائيلية مثيرة للقلق". زكريا عودة مدير الائتلاف يقول إنه "باتت الإقامة مرتبطة بالقلق المستمر والتهديد الدائم لإمكان الوجود والعيش في القدس، وهناك فئة شبابية تجد أن كلف الحياة في مدينة القدس تفوق طاقتها، فسعر الشقة السكنية التي لا تتعدى مساحتها 100 متر مربع في القدس يصل إلى ما يقارب 350 ألف دولار، كما أن السلطات الإسرائيلية تفرض قيوداً مشددة على رخص البناء للمقدسيين، وبات الحصول عليها يستغرق من خمس إلى 10 سنوات، كما أن رسوم الحصول على رخصة بناء قد يصل إلى نحو 50 ألف دولار، وبالتالي يضطر مقدسيّون إلى العيش في مناطق الضفة الغربية، وهو ما يهدد بسحب إقامتهم."
ويردف، "تصعيد سياسات الهدم ومصادرة الأراضي وسحب الهويات وترافقها مع حال الإحباط العام لدى المقدسيين وفقدانهم الأمل بوجود دعم فلسطيني رسمي، دفعت بعضهم إلى الاعتقاد أن الجنسية الإسرائيلية هي الحل والمنقذ".
تحريم التجنيس
وفي وقت سابق أطلقت الهيئة الإسلامية العليا في القدس نداء للمقدسيين بعدم الوقوع في "شرك" الحصول على الجنسية الاسرائيلية، لما تحمله من أخطار مستقبلية على عائلات المقدسيين المتجنسين، تتمثل بإرغامهم على التجنيد في صفوف الجيش الإسرائيلي وأذرعه الأمنية والشرطية المختلفة.
عكرمة صبري رئيس الهيئة يقول، "أصدرنا قبل سنوات فتوى تحرم وتجرم الحصول على هذه الجنسية، فهي لا تعطي حاملها أي حصانة من إجراءات الاحتلال، وهناك خطر كبير على المقدسيين وهويتهم الوطنية وانتمائهم الفلسطيني وحتى على عقيدتهم، ومن هنا نجدد تأكيد فتوانا بتحريم الحصول على الجنسية لأن أضرارها أكثر من منافعها".
تحول جذري
ونشر معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى دراسة في أغسطس (آب) عام 2019، أظهرت "أن ربع فلسطينيي القدس الشرقية يعربون عن تفضيلهم الجنسية الإسرائيلية إذا ما خيروا، وأن نصف فلسطينيي القدس الشرقية (47 في المئة) قالوا إنهم سيبقون حتماً في فلسطين إذا كان بإمكانهم الانتقال إلى إسرائيل".
وفي تناقض صارخ مع استطلاعات سابقة أجراها المعهد، أظهرت نتائج استطلاعات للرأي بين عامي 2018 و2020 أن 85 في المئة من سكان القدس الشرقية العرب يفضلون الجنسية الفلسطينية على الإسرائيلية، بيد أن نتائج الاستطلاعات نفسها في النصف الأول من العقد الماضي (2010 - 2015) كشفت عن أن 52 في المئة من عرب القدس الشرقية كانوا مستعدين للعيش تحت حكم إسرائيل والتخلي عن الجنسية الفلسطينية لأسباب عملية، من دون الالتزام بالهوية الذاتية أو الأيديولوجية".
الباحث في منظمة "عير عميم" المتخصصة في شؤون القدس أفيف تتارسكي يقول إن "هذا ليس سوى جزء من الصورة، لأن في شرق القدس هناك من ينكر شرعية الحكومة الإسرائيلية ويعارضون جنسيتها، وعلى الرغم من كل هذه السياسات الإسرائيلية في القدس فقد زاد تمسك المقدسيين بمدينتهم، واستمرارهم العيش فيها على الرغم من هدم المنازل وعنف الشرطة والجدار العازل وإجراءات أخرى لطردهم منها، والحديث يدور عن مئات الآلاف من المقدسيين الضعفاء والمضطهدين، لكن لديهم العزم الكافي الذي يمكنهم أحياناً من إجبار السلطات الإسرائيلية على منحهم حقوقهم".
وأوضح أن "وعود منح التجنيس للمقدسيين التي لم تلح في الأفق على الإطلاق، لن تضمن تغيير السياسة اليمينية الإسرائيلية القائمة على عدم المساواة الحقيقية في القدس، وبالتالي فإن هذا التجنيس الحالي لا يهدد الاحتلال الإسرائيلي."
يذكر أن دائرة تسجيل السكان تخطط للاعتماد على موقع إنترنت مخصص لاستيعاب طلبات التجنيس، ووفقاً لتقديرات كثيرين في القدس الشرقية فإنه إذا تم تقصير فترة الانتظار بشكل كبير، فإن هذا سيؤدي إلى زيادة حادة في عدد الفلسطينيين الذين يسعون إلى الحصول على الجنسية الإسرائيلية.