لسنوات خلت كان يخيل للمرء حين يصادفه لمناسبة أو لأخرى اسم لين أولمان أن ثمة في الأمر خطأ مطبعياً، وأن السيدة المعنية ليست سوى الممثلة النرويجية الكبيرة ليف أولمان، التي تربعت خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين على شاشات وحياة المخرج السويدي الكبير إنغمار برغمان. وهذا التصور خامر كثراً بالفعل في عام 2011 حين جرى الإعلان عن تشكيل لجنة تحكيم المسابقة الرسمية لمهرجان "كان" السينمائي الدولي فإذا باسم لين أولمان يرد بين الأسماء. يومها دهش كثر بالنظر إلى أن ليف أولمان لا يمكن أن تكون مجرد عضو في لجنة سبق لها أن تولت رئاستها. لكن كثراً في المقابل تقبلوا الأمر كما هو ليدركوا لاحقاً أن المقصودة كانت لين أولمان وليست ليف أولمان. أما بقية الخبر فبدت أكثر حميمية حين تبين أن الأولى ليست سوى ابنة الثانية، لكن الأمر ازداد أهمية حين تبين أيضاً أن لين أولمان هي في الوقت نفسه ابنة إنغمار برغمان وليف أولمان معاً، أنجباها من علاقة غرام بينهما في عام 1966، لكنها ترعرعت في حضن والدتها في أوسلو لا في حمى والدها في السويد. ومن هنا كان من الطبيعي أن تحمل اسم الأم لا اسم الأب، الذي كان متزوجاً من أخرى في ذلك الحين ولديه عدد لا بأس به من الأولاد.
والدان محلقان في الريح
إذاً، في اختصار، ثمة اليوم في الحياة الثقافية العالمية نجمة مبدعة جديدة هي لين أولمان، لا تخفي فخرها بأنها ابنة المخرج المبدع الكبير والنجمة التي تعتبر من أفضل الممثلات في العالم، ناهيك بدنوها هي الأخرى من لعبة الإخراج السينمائي فأبدعت فيها بدورها، مكونة لنفسها على أية حال مكانة تسمو بها بعض الشيء عن تلك المكانة التي احتلتها ممثلات – نجمات كبيرات لعبن أدواراً لا تنسى في أفلام برغمان الكبير كما في حياته، من أنغريد ثولين إلى بيبي أندرسون إلى غونيل ليندبلوم واللائحة تطول بعض الشيء. علماً بأن المخرج الكبير المزواج لم يتوانَ في بعض الأحيان عن جمع البعض منهن اثنتين اثنتين في بعض أفلامه. وهن كنَّ يوافقن على ذلك لتسامحهن معه وإدراكهن أن ذلك يشكل جزءاً أساسياً من دروبه الإبداعية. ولعل في مقدورنا أن نقول إن ليف أولمان تبقى الأكثر تهاوناً معه، تشهد على ذلك تربيتها ابنتها منه تربية أنيقة اتسمت دائماً بحثها على احترام ذلك الأب، على الرغم من إحساس البنت المبكر بأن أمها كانت دائماً أقرب إليها منه. أو هذا ما تخبرنا به لين نفسها في كتاب خامس أصدرته قبل أعوام قليلة بعنوان "القلقون" روت فيه بلغة بالغة الدفء والحميمية والتسامح، حكاية والديها وحكايتها هي معهما.
روايات ونجاح وجوائز
ونقول هنا "كتابها الخامس" بالنظر إلى أن لين أولمان الابنة، أصدرت قبله وتحديداً منذ سنوات الثمانينيات وكانت بالكاد خرجت من سن المراهقة، عدداً من روايات تمكنت من أن تفرض عبرها مكانة جيدة لها في عالم الكتابة الروائية الأوروبية، من دون أن تتكل في ذلك على تلك القرابة المغرية التي كان يمكن أن تسهل لها دربها في عالم الشهرة. ولنشر هنا فقط إلى أن كل واحدة من روايات لين تمكنت منذ صدورها في النرويجية أولاً ومن بعد ذلك في الإنجليزية كما مترجمة إلى عدة لغات أخرى، أن تخوض وبقوة شتى ضروب التنافس على جوائز أدبية نالتها أحياناً وكادت تنالها في أحيان أخرى، حتى من دون أن يتنبه أحد إلى بنوتها لإنغمار وليف. كانت تلك الحال مع روايتها الأولى "قبل أن تنام" كما مع "بارك الله الطفل" وغيرهما. ومن هنا الشعور بأن هذه الكاتبة التي درست الإنجليزية والأدب الإنجليزي في نيويورك كما درست هناك التمثيل في معهد جوليار الشهير بعد أن طردتها أكاديمية نيويورك من صفوف رقص كانت تريد تلقيها، انتظرت أن ترسخ مكانتها وتتجاوز الخمسين من عمرها قبل أن تترك المجال لقلمها نفسه أن يتحدث عن والديها، أو بالأحرى عنها من خلال والديها وعن هذين الأخيرين من خلالها. فكيف أتت الصورة من داخل تلك البيئة العائلية التي لا يمكن لنا تصورها إلا مفككة، بالنظر إلى أن علاقة "الثنائي" داخلها لم تكن علاقة شرعية، وأن لين بالكاد عايشت إخوتها من أبيها من الذين كانت لهم حياة عائلية مختلفة تماماً، كما أنها بالكاد عايشت حياة أمها التي كانت لها حميميتها الخاصة هي الأخرى مع زوج طبيب...؟
السعادة خلال الإجازات
في الحقيقة أن ليس ثمة ما هو مؤسٍ حقاً في الحياة التي عاشتها لين أولمان، وليس ثمة ما من شأنه أن يبدو محزناً أو مثيراً للغضب، في علاقتها مع كل من والديها، وهي التي كان كثيراً ما يحدث لها وفي مناسبات محددة أن تعيش معهما سواء كان ذلك خلال اشتغالهما في فيلم واحد، أو خلال إجازات يمضيها إنغمار في جزيرته المفضلة فارو في منزله الكبير هناك، حيث كان من المنطقي أن يدعو ليف وابنتها منه إلى ملاقاته هناك. والحقيقة أن لين تصف لنا الحياة "المشتركة" تحديداً من خلال ما تبقى في ذاكرتها من تلك اللقاءات العرضية. ولكن كذلك من خلال انطلاقها مع أبيها ذات مرحلة لاحقة في مشروع يقوم على تسجيل ساعات طويلة من حوارات معه، كانت تبتغي تحويلها إلى كتاب يتحرى حياته وأفكاره من الداخل. ولسوف تقول لين في ثنايا "القلقون" إن تلك الحوارات التي لا تفصح لنا عما إذا كانت لا تزال في حوزتها بكاملها أو عما إذا كانت تريد العودة إلى الاشتغال عليها يوماً، أفادتها كثيراً في مجال التعمق في "فهم حقيقي لموقف برغمان من المرأة عموماً، ومن نسائه بشكل خاص، ما يمكنه الإضاءة بشكل أفضل على نساء أفلامه في الأدوار التي رسمها لهن، ناهيك بخلفيات اختياره هذه النجمة لهذا الدور أو غيرها لدور آخر". ومن الواضح هنا أننا أمام ما يمكننا اعتباره كشفاً جديداً ومن الداخل، ولكن بنظرة موضوعية بالتأكيد، إلى فن برغمان الذي دائماً ما اعتبر فناً نسائياً من دون مواربة، فناً من إبداع واحد من أكثر مخرجي القرن العشرين تعمقاً في روح المرأة وقلبها. وهو تأكيد تقول لين اليوم إن حواراتها المذكورة مع والدها تغوص فيه حتى الأعماق.
بقايا طفولة محايدة
لكن ما تغوص فيه الابنة/ الكاتبة بشكل أعمق وأكثر حميمية إنما هي الصورة التي خلفتها الطفولة لديها عن لقاءاتها مع أبيها خلال الإجازات العارضة، أو فترات العمل التي تجمع بين ليف وإنغمار. ومن هنا جاء "القلقون" كنوع من "بورتريه ثلاثي" لمبدعين وابنتهما، حيث كما تروي لين لم تكن في الصورة الإجمالية لطفولتها وصباها كما تقدمها في "القلقون" مكانة واضحة للمبدعة الثالثة التي ستكونها هي لاحقاً. فهنا يشغل المكانة الأساسية أب فنان كان عند الطفولة المبكرة لابنته هذه تجاوز الخمسين من عمره، ويمضي وقته في الجزيرة منكباً على الكتابة طوال ساعات يحظر على الطفلة أن تزعجه خلالها، إلى جانب أم صبية وجميلة تمضي جل وقتها في القراءة ومشاهدة الأفلام السينمائية في الصالة المنزلية المخصصة لذلك، مفضلة دائماً أفلام الحب، وهي التي تروي لين أنها كانت "عاشقة أبدية لكنها نادراً ما كانت تكتفي في حياتها بحب واحد حتى وإن كانت تكتفي بعلاقة واحدة". لكنها في الوقت نفسه أم تعنى بأطفالها، مصرة على الرغم من أنوفهم ألا يتوقفوا عن ارتشاف الحليب ودائماً تحت أشجار الحديقة مهما كان البرد قاسياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من الطفلة إلى المرأة
من خلال تصويرها والديها هذين لا تتوقف لين في نصها عن العودة إلى طفولتها ولكن في طريقها لوصف المرأة التي صارتها. وبخاصة سنواتها الطويلة في نيويورك، حيث عاشت معظم الوقت بعيدة عنهما ما مكنها -كما سيقول المعلقون على كتابها- من أن تتدرب على كيفية النظر إليهما بصورة موضوعية وربما بحد أدنى من حنين، يرشح في العدد الأقل من صفحات تلك السيرة العائلية التي أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها سيرة على النمط البرغماني، تنضح بعاطفة على نمط تلك التي دائماً ما أرادت أولمان نفسها أن تعبر عنها في أفلام فضل مخرجوها بمن فيهم إنغمار نفسه أن يصوروها فيها امرأة قوية تعرف دائماً ما تريد... أو تزعم ذلك في الأقل.