هل يمكن اختصار المشهد التشكيلي العربي الذي توزع خلال العام 2021 بين عواصم ومدن عربية وأجنبية؟ وكيف يمكن التوفيق بين معارض هنا تختلف عن معارض هناك أو هنالك، في مدارسها وتوجهاتها الفنية وقضاياها؟
حل عام 2021 بعد أشهر طويلة من الإغلاق والتوقف شبه التام عن النشاط الفني والثقافي في أنحاء العالم، وخلال هذه الفترة العصيبة راح الناس يبحثون على نحو محموم ولافت عن وسائل أخرى للتواصل، وكسر حدة الإغلاق والتباعد الاجتماعي، وتبدت فجأة ملامح عبثية لعالم مختلف. دفعنا هذا التحدي إلى خوض خبرات جديدة واكتشاف وسائل بديلة للتواصل، لكننا في الوقت نفسه أدركنا قيمة التفاعل المباشر في ما بيننا، والتفتنا إلى افتقادنا للألفة والحميمية اللتين نشعر بهما حين نجتمع معاً ونتشارك المشاعر والأحاسيس نفسها.
حين حل عام 2021 كانت الحياة قد دبت من جديد في النشاط الثقافي والفني بعد أن تراجع الوباء، غير أن العالم لم يتخلص بعد من أدران هذه التجربة المريرة. كانت العودة قوية ومبهجة بقدر ما كانت حذرة ومتوجسة، عدنا لنجد أنفسنا مضطرين إلى التعايش مع أشياء لم نألفها من قبل. صارت الكمامات الطبية رفيقاً لنا، واعتدنا الإجراءات الاحترازية في أماكن التجمعات والأنشطة والمطارات ووسائل المواصلات وغيرها، غير أن لهفة العودة كانت كفيلة بتجاوز كل هذه المظاهر القلقة، والتغاضي عن بواعث التوتر التي تثيرها في نفوسنا.
معرض دبي ولوفر أبوظبي
جاء عام 2021 ليبث الحياة من جديد في أنشطة وأحداث فنية مهمة في أنحاء العالم العربي، وحظيت الإمارات العربية المتحدة بعدد وافر من هذه الأحداث والفعاليات الدولية التي لم تتوقف على مدى هذا العام، فبعد توقف استثنائي أقيم معرض دبي الدولي للفنون بداية هذا العام، وهو أحد أكثر الأحداث الفنية شهرة واستقطاباً لأعمال الفنانين في منطقة الشرق الأوسط، كما عاودت مؤسسة الشارقة للفنون نشاطها المعتاد، فانطلقت منصة الشارقة للأفلام التي تنظمها المؤسسة سنوياً، كما عادت قاعاتها ومساحاتها الفنية لاستقبال الجمهور.
في الإمارات أيضاً عاود متحف "لوفر أبوظبي" نشاطه بعدد من المعارض والفعاليات ذات الطابع الدولي، لعل من أهمها معرض "التنين والعنقاء" الذي سلط الضوء على قرون من التبادل الثقافي والمعرفي بين الصين والعالم الإسلامي، عبر مجموعة واسعة ومتنوعة من المعروضات التاريخية المستلهمة من الثقافتين، في ما يقارب الـ 200 عمل.
بين المعارض المهمة التي استضافها "لوفر أبوظبي" هذا العام أيضاً يأتي معرض "التجريد وفن الخط" الذي مثل فرصة نادرة لاكتشاف جانب مهم من أعمال فنانين غربيين كبار، أمثال هنري ماتيس وبول كلي وخوان ميرو وأندريه ماسون وجاكسون بولوك، إلى جانب فنانين عرب بارزين أمثال ضياء عزاوي وشاكر حسن آل سعيد ومنى حاطوم والزاوي، مع مقارنة تاريخية بين ما أنتجه هؤلاء وغيرهم، وما قدمته الحضارات القديمة من توظيف للصورة في التعبير والكتابة، وتأثير كل منهما على الآخر.
شهد هذا العام أيضاً عودة قوية لمهرجان رأس الخيمة للفنون التشكيلية والذي نُظم بمشاركة أكثر من 130 عملاً فنياً من لوحات ومنحوتات وفوتوغرافيا وأشرطة فيديو لفنانين من 50 دولة مختلفة.
بينالي الدرعية العالمي
ومن بين الأحداث الفنية الكبيرة التي شهدتها منطقة الخليج هذا العام يأتي "بينالي الدرعية الدولي للفن المعاصر"، وهو أول "بينالي" دولي تستضيفه السعودية، واتسمت الانطلاقة الأولى له بالقوة على مستوى التنظيم اللافت وعدد الفنانين المشاركين، خلافاً لفريق العمل الذي ضم نخبة دولية من القيمين الفنيين البارزين، على رأسهم المدير العام والرئيس التنفيذي لمركز الفن المعاصر في الصين فيليب تيناري، وقد ضم الـ "بينالي" نحو 64 فناناً محلياً وعالمياً.
"الأبد هو الآن"
ومن الدرعية إلى مدينة القاهرة التي استضافت الدورة الثانية لمعرض مصر الدولي للفنون (إيجبت آرت فير) بمشاركة أكثر من 120 من الفنانين المصريين والعرب. ومن المهرجانات الدولية التي استضافتها القاهرة أيضاً يأتي معرض "الأبد هو الآن" الذي أقيم عند سفح أهرامات الجيزة بمشاركة فنانين مصريين وعرب وأجانب بارزين، وهو أول معرض فن معاصر يقام بجوار أهرامات الجيزة، كما عاد من جديد مهرجان القاهرة الدولي للفيديو في دورته الـ 10 بمشاركة 78 عملاً من 27 دولة.
ومن المهرجانات الدولية التي شهدتها القاهرة كذلك يأتي مهرجان "دي كاف" للفنون المعاصرة في دورته التاسعة الذي تم تنظيمه هذا العام بعد عامين من الإلغاء بسبب وباء كورونا، فعاد المهرجان ليشعل الحماسة من جديد في ساحات القاهرة ومسارحها ومبانيها التاريخية.
ومن القاهرة إلى مدينة الإسكندرية الساحلية التي شهدت تنظيم معرض "فن البقاء في المنزل" الذي نظمته مكتبة الإسكندرية وضم أكثر من 60 فناناً وفنانة من دول مختلفة بمشاركة نحو 180 عملاً فنياً في مجالات التصوير والرسم والفوتوغرافيا والتصميم الغرافيكي.
حضور القاهرة
خلافاً لهذا النشاط اللافت من المهرجانات والأنشطة الدولية، اتسم نشاط الـ "غاليريهات" والمساحات الفنية في العالم العربي بقدر معقول من النشاط، فقد نظمت عشرات العروض لفنانين كبار وقدمت تجارب جديدة لفنانين واعدين. لم يقتصر نشاط الفنانين العرب على العروض داخل العالم العربي فقط، بل كان هناك نشاط فني عربي لافت خارج حدود العالم العربي، ومن بين أبرز هذه الأنشطة الخارجية يأتي المعرض الذي استضافه المتحف البريطاني تحت عنوان "تأملات في الفن المعاصر لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، وضم أعمالاً فنية لـ 170 فناناً وفنانة من المنطقة العربية وما حولها، في مجالات الرسم والتصوير والفوتوغرافيا، وعكست أعمال هؤلاء الفنانين طبيعة الممارسات الفنية والقضايا المرتبطة بثقافة كل منهم، وتفاعلهم مع الأحداث الفارقة في منطقة تموج بالتحولات والصراعات.
ومن المشاركات العربية البارزة كذلك في الساحة الأوروبية جاءت المشاركة العربية في مهرجان "آرل" الدولي للتصوير الفوتوغرافي، وهو المهرجان الأبرز في العالم، ويحتل مكانة مرموقة في عالم التصوير الفوتوغرافي منذ تدشينه بداية سبعينيات القرن الماضي.
وعلى الرغم من أن المشاركات العربية في هذا المهرجان قد اقتصرت على مشروعين اثنين، إلا أنهما كانا في غاية الأهمية، وأحد هذين المشروعين كان مشروعاً مشتركاً لمجموعة من المصورين السودانيين الشباب وحمل عنوان "ثورة"، أما المشروع الآخر فكان للمصورة الإماراتية فرح القاسمي، وحمل عنوان "محاكاة الحياة"، ومثّل جانباً من سلسلة ممتدة تعمل عليها القاسمي تحت العنوان نفسه.
فن مغربي
ومن العروض العربية المهمة أيضاً التي أقيمت خارج العالم العربي معرض الفنان المغربي البارز حسن حجاج الذي استضافه غاليري "يوسي ميلو" في مدينة نيويورك، إذ جمع حجاج في هذا المعرض بين خمس مجموعات من أعماله التي قدمها خلال العقود الثلاثة الماضية، ليوضح من خلالها مسار عمله وتطور تجربته الفنية.
كما استضافت العاصمة الإسبانية كذلك معرضاً كبيراً لعدد من الفنانين المغاربة أقيم في غاليري "رينا صوفيا"، ضم العشرات من أعمال الفنانين المغاربة من مختلف الأجيال تحت عنوان "الثلاثية المغربية"، ووثق هذا المعرض الكبير للحراك الفني المغربي منذ منتصف القرن الماضي وحتى اليوم، ويعد أحد العروض المهمة التي نظمت خلال الفترة الأخيرة، كونه يغطي نحو 70 عاماً من الحراك الفني المغربي.
وعلى مستوى العروض الفردية يبرز معرض الفنانة اللبنانية سيمون فتال الذي أقيم في غاليري "وايتشابل" في لندن، وهو معرض كبير ضم نماذج عدة من تجاربها السابقة في التشكيل بالخامات المختلفة.
وعلى هذا القدر نفسه من الأهمية، جاء معرض الرسامة اللبنانية هوغيت الخوري كالان الذي أقيم في مركز الرسم في مدينة نبويورك، وهو معرض استثنائي جمع عدداً كبيراً من أعمال الفنانة اللبنانية الراحلة، وسلط الضوء على تجربتها الإبداعية كواحدة من الفنانات اللبنانيات البارزات اللاتي استطعن حفر أسمائهن في تاريخ الفن العالمي الحديث.
ومن الولايات المتحدة إلى هولندا، حيث أقام الفنان العراقي البارز صادق الفراجي معرضه الفردي الشامل "البحث عن بغداد الضائعة"، واستضافه أحد أهم المراكز الثقافية هناك، وهو مركز "كونستهال" للفنون المعاصرة.
كارثة مرفأ بيروت
مثلت كارثة مرفأ بيروت وجعاً لدى أغلب اللبنانيين، وكان انعكاسها قوياً ومباشراً وعنيفاً على الحياة الثقافية والفنية في لبنان، وكانت هذه المحنة محوراً لعدد من الأحداث والعروض الفنية التي أقيمت هذا العام، فقد استضافت فيلا عودة في بيروت مطلع هذا العام معرضاً جماعياً تحت عنوان "الفن الجريح"، ضم أكثر من 60 عملاً فنياً ما بين التصوير والنحت والتجهيز، وشارك فيه فنانون لبنانيون وأجانب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأعمال المشاركة في هذا المعرض سلطت الضوء على المحنة التي مر بها لبنان مع كارثة مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) 2020 وتأثيرها الفاجع على اللبنانين كافة، وكانت أعمال كثيرة من الأعمال التي شاركت في هذا المعرض متضررة جراء الانفجار، وبعضها جُمعت أجزاؤها الممزق بعضها إلى جوار بعض، وعُرضت أخرى كما هي بعد أن تعذر لملمة قطعها وشظاياها، كما عولجت كذلك بعض الأعمال من طريق الغرافيك أو توظيف الضوء النافذ عبر التشققات وأماكن التمزق فيها.
هذه القطع الفنية جميعها تحولت إلى شاهد على ما حدث، ودليل حي على فداحة هذه المحنة التي تعرضت لها المدينة وقسوتها.
بعيداً من بيروت طالعنا معرض آخر لفنانتين من لبنان تم تنظيمه في العاصمة البريطانية لندن تحت عنوان "وصلنا على الهاوية"، ويمثل استلهاماً بصرياً من الكارثة نفسها. المعرض الذي استضافه غاليري "بي 21" للفنانتين دانييل كريكوريان وعائشة ستاركي، قدم عرضاً تفاعلياً ضم مواد صوتية وبصرية ونصوصاً سردية باللغتين الإنجليزية والعربية. في هذه الأعمال سعت الفنانتان إلى التعبير عن مشاعرهما الخاصة حول حادثة المرفأ، إلى جانب عدد من الأحداث الأخرى التي مرت بلبنان خلال الفترة الأخيرة، بداية من ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019. استلهم المعرض عنوانه من الشعور الجارف عند كثير من اللبنانيين بأن الأمور وصلت إلى حد الخطر، ولم يعكس العرض تفاصيل الأزمة اللبنانية بتعقيداتها وتشابكاتها، بقدر ما مثل تعبيراً عن الحنين والمشاعر المتضاربة التي تكتنف الفنانتين وعلاقتهما المعقدة بوطنهما وفهمهما للفن كوسيلة للتعبير.
ولا يسعنا ونحن نستقبل عاماً جديداً إلا الرجاء بأن يكون هذا العام أخف وطأة من سابقه، آملين بأن تعود الحياة إلى طبيعتها، وأن يستمر النشاط الفني على القدر نفسه من الحماسة والفاعلية، على الرغم من التحديات والإجراءات الاحترازية التي باتت واقعاً يسم حياتنا ونشاطنا إلى أجل غير معلوم.