بينما استقبل معظم دول العالم العام الجديد 2022 بأجواء احتفالية مبهجة، على رغم مخاوف انتشار متحورة فيروس كورونا الجديدة "أوميكرون"، ظل السودانيون يترقبون طيلة ليلة رأس السنة الجديدة برنامج مسيرات (مليونيات) شهر يناير (كانون الثاني) من قِبل تنسيقيات لجان المقاومة وتجمع المهنيين السودانيين اللذين يقودان الحراك الثوري في الشارع، منذ إعلان قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي حالة الطوارئ، وفض الشراكة مع المدنيين، وتعطيل العمل بالوثيقة الدستورية التي تحكم البلاد.
ومع بداية العام الجديد، أعلن المكتب الميداني لتنسيقيات لجان مقاومة ولاية الخرطوم الجدول التصعيدي لمليونيات (مسيرات) يناير، التي تشمل أيام 6، و12، و17، و24، و30 من هذا الشهر، تحت شعار "لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية مع العسكر". مؤكداً، في بيان، أن التصعيد سيتواصل، ولن يتوقف إلا برحيل المكون العسكري عن المشهد السياسي، وتسليم السلطة للمدنيين، وأن يناير لن يكون سدرة منتهى.
إلغاء الحفلات
واختفت في العاصمة الخرطوم مظاهر الفرح والأجواء الاحتفالية بالعام الجديد، إذ خيّم الحزن على جميع أفراد المجتمع السوداني، ما دفع عديداً من المطربين إلى إلغاء حفلاتهم، وأغلق معظم الأندية الترفيهية والمسارح وصالات الأفراح أبوابها تضامناً مع الثورة السودانية، واستنكاراً لما حدث من عنف مفرط ضد المتظاهرين في مليونية 30 ديسمبر، التي راح ضحيتها خمسة قتلى وعشرات الجرحى، نتيجة استخدام الرصاص الحي والقنابل الصوتية وقنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين وتخويفهم، منعاً للمشاركة في أي تظاهرات مقبلة.
وأعلنت الطائفة المسيحية في السودان بقرار من نيافة الأنبا صرابامون، التي درجت سنوياً على تنظيم احتفالات العام الجديد يشهده المئات من السودانيين، إلغاء احتفال رأس السنة الميلادية لهذا العام، مراعاة لمشاعر أسر المتوفين والمصابين في التظاهرات السابقة من أبناء السودان.
واعتاد السودانيون في ليلة رأس السنة الميلادية من كل عام تزيين أسطح البنايات في وقت مبكر لاستقبال العام الجديد، واكتظاظ محال الحلوى بالزبائن، ومتاجر الألعاب النارية بالأطفال، إذ تشهد الشوارع والطرقات ازدحاماً بالمارة والسيارات يحملون الأعلام الوطنية احتفالاً بهذا اليوم (الأول من يناير) الذي يصادف ذكرى استقلال السودان في 1956.
كما كانت الأندية وصالات الأفراح تعلن قبل وقت كاف حجز المقاعد في حفلات العام الجديد سواء للأسر أو الأفراد، غير أن هذه المشاهد اختفت تماماً ليلتي (الخميس، والجمعة)، وكأن البلاد تعيش حالة حداد شعبي كامل غير معلن رسمياً.
احتفاء بالمواقف
وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي نقاشات واسعة للمواقف حيال المشاركة في الحفلات الخاصة برأس السنة، واتفقت معظمها على ضرورة المقاطعة تعاطفاً مع أسر القتلى، الذين لقوا حتفهم في التظاهرات التي عمّت البلاد لأكثر من شهرين، في حين احتفت بمواقف المطربين السودانيين الذين أعلنوا اعتذارهم عن عدم المشاركة في تلك الحفلات، احتجاجاً على العنف الذي مُورس ضد المتظاهرين، وتضامناً مع أسر القتلى والمصابين.
وسارع عدد من المطربين السودانيين إلى إعلان مواقفهم من المشاركة في حفلات رأس السنة على حساباتهم في مواقع التواصل، بسبب الأحداث الدامية التي تزامنت مع هذه الاحتفالات، إذ قالت المطربة السودانية ندى القلعة، على حسابها في "فيسبوك"، "اعتذر عن عدم إقامة حفل رأس السنة ودمتم سالمين، وربنا يشفي الجرحى والمصابين".
وذكرت الفنانة ميادة قمر الدين، على حسابها في "فيسبوك"، "كنا نأمل بأن يكون عام 2022 نهاية لمعاناتنا وأوجاعنا وحسرتنا على البلاد والعباد، وتقديراً لإحباط الشارع العام في كل بقاع السودان المنكوب وانحيازاً للمواطن الموبوء بالهموم والحيرة والقلق وتضامناً مع أمهات القتلى والجرحى والمفقودين، أعلن اعتذاري عن حفلات رأس السنة لهذا العام، فلا مجال للاحتفالات الجماهيرية العامة في هذه الظروف ما بين شظف العيش والدماء المهدرة والحقوق الضائعة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
53 قتيلاً
وتتبعاً لتطورات الأحداث، أعلنت لجنة أطباء السودان المركزية، الجمعة، وفاة أحد المصابين خلال تظاهرات 30 ديسمبر. موضحة، في بيان، "ارتقت روح أحد المصابين في التظاهرات الأخيرة في العاصمة الخرطوم، إثر إصابته بعبوة غاز مسيل للدموع مباشرة في الصدر من قِبل القوات الأمنية، ليرتفع عدد القتلى المؤكدين لدينا إلى خمسة أشخاص".
وأضاف البيان، "وبذلك، ارتفع عدد القتلى الذين سقطوا منذ قرارات قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر، إلى 53 قتيلاً، بينهم 11 منذ اتفاق البرهان ورئيس الوزراء عبدالله حمدوك في 21 نوفمبر (تشرين الثاني)".
استنكار واستقالة
وفي سياق آخر، استنكر مجلس السيادة الانتقالي في السودان، الأحداث التي صاحبت التظاهرات التي خرجت الخميس، التي أدت إلى سقوط قتلى وجرحى.
ووجّه المجلس السلطات المختصة في الدولة إلى أخذ الإجراءات القانونية والعسكرية، لتدارك مثل هذه الأحداث، وعدم تكرارها، وأن لا يفلت أي معتد من العقاب، مجدداً تأكيد حق التظاهر السلمي الذي يكفله القانون السوداني.
وتقدم عضو مجلس السيادة عبد الباقي عبد القادر، باستقالته من منصبه، احتجاجاً على الإفراط في استخدام القوة في التعامل مع المتظاهرين.
وقال في رسالة بعث بها إلى مدير مكتب رئيس المجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، إن "سبب الاستقالة هو استمرار التعامل العنيف وغير المبرر مع المتظاهرين". مؤكداً أن طلب استقالته جاء بقرار شخصي، عقب سقوط قتلى وجرحى في أثناء التعامل مع المتظاهرين السلميين والعزل.
أزمات ومهددات
في غضون ذلك، حذّر عبد الفتاح البرهان من وجود أزمات تحيط بالوطن، بمثابة مهددات وجودية لا يمكن التغافل عنها.
وقال البرهان، في خطاب بمناسبة الذكرى الـ 66 لاستقلال السودان، "التنازع حول السلطة والانفراد بها، وما ترتب عليه من إزهاق للأرواح وإتلاف للممتلكات وتعطيل لحياة الناس، يُوجب علينا جميعاً تحكيم صوت العقل".
واعتبر أن السبيل الوحيد للحكم هو "التفويض الشعبي عن طريق الانتخابات"، وجدد تأكيده حماية البلاد من الانزلاق نحو الفوضى والخراب.
وأشار إلى ضرورة العمل الجاد من أجل المحافظة علـى الفترة الانتقالية، ونجاحها واستكمال مهامها، ومواصلة مسيرة السلام. مشدداً على ضرورة بناء كل مؤسسات الحكم الانتقالي وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة وشفافة في وقتها المُحدد، يفوض فيها الشعب السوداني من يختاره لحكم البلاد.
أمر طوارئ
وشهدت أحداث مليونية 30 ديسمبر استنكاراً واسعاً من المجتمع المحلي والدولي، وكان أن استبقتها تحذيرات من سياسيين وقانونيين سودانيين للسلطات الأمنية في البلاد من مغبة الإفراط في استخدام العنف ضد المتظاهرين في أعقاب إصدار رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان أمر طوارئ يمنح جهاز الاستخبارات سلطات وصلاحيات وحصانات، فضلاً عن اعتقال الأشخاص والتفتيش والرقابة على الممتلكات والمنشآت والحجز على الأموال وغيره، إلى جانب حظر أو تنظيم حركة الأشخاص.
واشتمل أمر الطوارئ على عدم اتخاذ أي إجراءات في مواجهة أفراد القوات النظامية، التي تتولى تنفيذ قانون الطوارئ وحماية السلامة العامة لسنة 1997 المعلن في أكتوبر 2021 وفق المرسوم الدستوري رقم 18، على أن تنتهي مدة صلاحية هذا الأمر بانتهاء حالة الطوارئ المعلنة في البلاد حالياً.
وتأتي إعادة هذا الأمر من جديد بعد أن جرى إلغاؤه عقب سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل (نيسان) 2019، حيث جرى آنذاك تجريد جهاز الاستخبارات العامة من سلطات الاعتقال والتوقيف، وتم النص في الوثيقة الدستورية التي وقعت بين المكونين العسكري والمدني في 17 أغسطس (آب) 2019 لإدارة شؤون الحكم في البلاد، على حصر صلاحياته في جمع المعلومات وتحليلها وتقديمها لجهات الاختصاص لتقوم باللازم.
احتجاجات واسعة
ويشهد السودان منذ 25 أكتوبر احتجاجات واسعة في الخرطوم ومدن البلاد الرئيسة، بلغت 12 مسيرة احتجاجية، سقط خلالها 53 قتيلاً، بحسب اللجنة المركزية لنقابة أطباء السودان، رداً على إعلان عبد الفتاح البرهان، في ذلك اليوم حالة الطوارئ وحل مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين، عقب اعتقال قيادات حزبية ومسؤولين، وهو ما اعتبرته قوى سياسية ومدنية انقلاباً عسكرياً، مقابل نفي من الجيش.
وفي 21 نوفمبر، وقع البرهان ورئيس الحكومة عبدالله حمدوك اتفاقاً سياسياً، يتضمن عودة الأخير إلى منصبه، وتشكيل حكومة كفاءات، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتعهد الطرفان بالعمل سوياً لاستكمال المسار الديمقراطي.
ورحبت دول ومنظمات إقليمية ودولية، بينها الأمم المتحدة، بهذا الاتفاق، بينما رفضته قوى سياسية ومدنية سودانية، معتبرة إياه "محاولة لشرعنة الانقلاب".
وتأثراً بتداعيات المشهد السياسي وتعقيداته ترددت أنباء عن اعتزام رئيس الوزراء عبدالله حمدوك تقديم استقالته، في ظل رفض القوى السياسية، بخاصة المنضوية تحت مظلة قوى الحرية والتغيير (الحاضنة السابقة للحكومة الانتقالية) التعاون معه، فضلاً عما وجده من صعوبات لتشكيل حكومته الجديدة، بالنظر إلى تواصل موجة الاحتجاجات الشعبية الداعية إلى إبعاد العسكر من الحياة السياسية وتسليم السلطة كاملة للمدنيين.
لكن، جرت مساع محلية ودولية لإثنائه عن الاستقالة، حيث تلقى حمدوك اتصالات هاتفية من عدد من الشخصيات الدولية والإقليمية، تتمحور في هذه الجهود، منها اتصال من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، والمبعوث الأميركي الخاص للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان، ووزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود.