إنها تلك الفترة من العام، عندما ينشر الأرشيف الوطني دفعة جديدة من الأوراق الحكومية السرية. هذه السنة تغير التقليد بعض الشيء: وكان مثالاً على ما وصفه جون بريسكوت، نائب رئيس الوزراء البريطاني بين 1997-2007، بأنه ما يظهر أهمية القيم التقليدية في قالب حديث. تداعيات "كوفيد-19" وعصر الرقمنة عاملان سمحا بنشر كثير من هذه الوثائق على شبكة الإنترنت، مما وفر على الصحافيين والمؤرخين عناء الرحلة إلى منطقة "كيو" (مقر الأرشيف البريطاني غرب لندن) لقراءة النسخة الورقية من تلك الوثائق.
وبدلاً من النشر المعتاد لوثائق تعود لعام كامل حصلنا على وثائق تعود لفترة تغطي ثلاثة أعوام دفعة واحدة، وهي السنوات الثلاث الأولى من عهد رئيس الحكومة توني بلير بين 1997-2000. ويعكس ذلك المحاولات لتطبيق التغييرات التي أدخلها غوردن براون عندما كان رئيساً للوزراء والذي عدل إجراءات الحفاظ على سرية الوثائق وخفضها من ثلاثين عاماً إلى عشرين عاماً. واليوم قلص الأرشيف الوطني تلك الفترة إلى 21 عاماً.
لكن هناك وجه اختلاف ثالثاً، وهو أكثر أهمية، ويعود تحديداً إلى أن السرية الحكومية لم تعد كما كانت عليه في الماضي. فالجزء الأعظم من هذه الوثائق التي تم نشرها ــ كان قد سمح للصحافيين والباحثين بالاطلاع عليها قبل أسبوعين من موعد نشرها إفساحاً للمجال أمامهم من أجل الاطلاع عليها كاملة ــ وتتضمن وبشكل مفاجئ عدداً قليلاً من المواضيع عما كان يدور في كواليس الأروقة الحكومية.
يأتي ذلك بعد أن أصبحت الحكومة أكثر انفتاحاً إلى حد كبير في ظل حكومة العمال الجدد New Labour. قانون الحق في الحصول على المعلومات The Freedom of Information Act، لم يدخل حيز التنفيذ قبل 2005، لكن تداعيات هذا القانون غيّرت منحى السلوك. فالإنترنت والهاتف الخليوي والرسائل الإلكترونية كلها غيرت طريقة احتفاظنا بالملفات والسجلات.
الكثير من المعلومات الحساسة حول العلاقات الدولية كان قد كشف عنها من خلال مراجعات حكومية في تقارير "تحقيق هاتون" و"تحقيق باتلر" و"تحقيق تشيلكوت" التي بحثت في ظروف وجوانب الحرب العراقية. أغلب المواد السرية الحساسة حول العلاقات الشخصية بين الوزراء الأساسيين في الحكومة كشف عنها عدد كبير من المذكرات والسير الذاتية وكثير منها تم نشره فيما كان بلير وبراون على رأس عملهما في الحكم. كل من قرأ "تحقيق تشيلكوت" من شأنه أن يعلم أيضاً، أن كتاب مذكرات أليستر كامبل (كبير المستشارين الإعلاميين في عهد توني بلير) احتوت على سجل أفضل وأكثر عمقاً من مواد المناقشات السرية مقارنة بالمحاضر الرسمية لرئاسة الوزراء.
إذاً هناك مواد خبرية جديدة. هناك قصة مثلاً عن قلق (توني) بلير عن جواب "مبالغ فيه" أعطاه إلى اللجنة التي تعد تقرير ماكفرسون Macpherson report الخاص في التحقيق عن عنصرية الشرطة البريطانية ونشر في فبراير (شباط) 1999. قلق بلير كان مصدره أن من شأن قانون مقترح جديد يفرض على كل الدوائر الحكومية منح الأولوية للمساواة العرقية (في الوظائف) أن يؤدي إلى كابوس تنظيمي لمراجعة القواعد (الناظمة لعمليات التوظيف). وعثرنا على مذكرات رسمية مثيرة عن مشكلة "الفساد" sleaze التي أنزلتها الحكومة الجديدة بنفسها، بخصوص عملية تجديد شقة ديري إيرفاين Derry Irvine رئيس مجلس اللوردات، ومبلغ المليون جنيه استرليني (نحو 1.4 مليون دولار أميركي) التي تبرع بها قطب رياضة السيارات "فورمولا 1"، بيرني إكلستون (لحزب العمال).
والنقاشات المختلفة التي رافقت عملية ترتيب جنازة ديانا، أميرة ويلز، تشكل مادة مثيرة تستحق القراءة. ففي لحظة من اللحظات قلل جوناثان باول، رئيس الموظفين في إدارة بلير، من قلق قطاع الخدمة المدنية من ارتفاع فاتورة الجنازة حين قالوا إنها ستصل إلى نحو 5 ملايين جنيه استرليني (نحو 7 ملايين دولار أميركي) واصفا ذلك بأنه مبلغ لا يساوي "تكلفة صيانة وتشغيل طابق واحد من اليخت الملكي".
بالطبع، فإن القيمة الرئيسة لهذه الأوراق تكمن في منحها القارئ نظرة من الداخل عن طرق عمل فرق الموظفين الحكوميين في الدائرة المحيطة مباشرة برئيس الوزراء إلى درجة أنه يمكن حصرها في مذكرات رسمية والتعليقات المكتوبة عليها بخط اليد أو تلك التي تضم أوراقاً صغيرة ملصوقة صفراء تستخدم أيضاً بغرض التعليق على مضمون تلك المذكرات. روح الفكاهة المشككة لباول، كانت من التصرفات البارزة المتكررة التي ربما خففت من ثقل تلك الأوراق الرسمية التي كان يقدمها إلى بلير. في إحدى تلك الملاحظات الموجهة لرئيس الوزراء في يوليو (تموز) 1998 المتعلقة باجتماع مع بادي آشداون، زعيم حزب الليبراليين الديمقراطيين، المتوقع في اليوم التالي علق باول قائلاً: "أنا لا يمكنني تصديق أنه اقترح إقامة مجلس للعموم يضم نصف العالم hemispherical. فهل فعلاً تودون المضي قدماً في هذا المشروع؟" (بالطبع يبدو أن بلير قد قام بذلك: في محاولاته الحفاظ على دعم حزب الليبراليين الديمقراطيين له مخصصاً شطراً أكبر من الوقت لهذه المساعي مما اعتبره باول مجدياً لتلك الغاية). وعلى ورقة برنامج عمل الحكومة في دعوة وزعت حول يوم عمل بعيد عن المكاتب في مارس (آذار) 2000، أضاف باول اسم "العم توم كوبلي" Uncle Tom Cobley إلى لائحة أسماء الأطراف الذين وجهت إليهم تلك المذكرة (والعبارة الإنجليزية هذه هي إشارة ساخرة إلى دعوة كل الأطراف وبقية العالم للمشاركة في تلك المناسبة).
باول بالإضافة إلى ديفيد ميليباند الذي كان يشغل منصب رئيس الدائرة السياسية في مجلس الوزراء، كانا يعرضان المشاكل بشكل صريح ومباشر على بلير. ميليباند كان قد كتب رسالة في سبتمبر 1997 يحذر فيها بلير من وجود عقبات أمامه قائلاً "إن هذه بعض قشور الموز التي قد تعترض مسارنا". ثم فصلها في 13 نقطة تضمنت أيضاً:" هل أنت مقتنع برأيك أن فكرة إنشاء غرفة برلمانية منتخبة ثانية يجب دفنها والتخلي عنها تماماً" (وكان ذلك موقف بلير).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في اليوم نفسه، فصل باول لائحة من سبع نقاط تضمنت الإشارة إلى أوروبا على مذكرة بعنوان: "أولوياتكم في أفكار استباقية". وقال فيها: "إننا لم نبدأ بعد في التعامل مع القضية الكبيرة حول كيفية الفوز بدعم الرأي العام البريطاني حول الموقف من أوروبا فيما نحن لا نرغب في الانضمام إلى الوحدة الاقتصادية والمالية EMU [أي نظام العملة الأوروبية الموحدة]".
الكثير من هذه الوثائق فصلت محاولات بلير المتكررة للإجابة عن هذه الأسئلة (المتعلقة بموقف بريطانيا من أوروبا): من خلال سعيه إلى لعب دور قيادي في الاتحاد الأوروبي، على الرغم من عدم اعتماد بريطانيا لعملة "اليورو"، مع مواصلة التحضير لاعتمادها لاحقا (في أحد الهوامش المكتوبة بخط اليد قال فيها بلير إن على بريطانيا أن تؤمن التزاماً بأنه يمكنها تعيين ممثل عنها في مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي "عندما تعتمد عملة اليورو").
المسألة الأوروبية كانت مترابطة بالعلاقة مع حزب الليبراليين الديمقراطيين على مدى تلك السنوات الثلاث (التي غطتها الوثائق السرية)، [بادي] آشداون Ashdown وروي جنكينز Roy Jenkins، كبيراً المتبجحين بالليبرالية، كانا يدفعان بلير نحو الانضمام للعملة الأوروبية الموحدة واعتماد النسبية في نظام انتخابي معدل. المسألتان كانتا مهمتين أيضاً في المساعي للإبقاء على انقسام حزب المحافظين. إحدى أكثر الملاحظات المكتوبة المثيرة للجدل وصلت إلى رئيس الوزراء من روجر ليدل، مستشار بلير للشؤون الأوروبية في 15 سبتمبر (أيلول) 1998، ونصها: "النائب (عن حزب المحافظين) كينيث كلارك حريص جداً على ضرورة أن نمضي قدماً في فكرة اعتماد النسبية في النظام الانتخابي، لكنه لن يعترف أبداً بذلك علانية (ك. ك، في إشارة إلى كينيث كلارك Ken Clarke، قال لي ذلك بشكل مباشر). فذلك يمنحهم (المحافظين المؤيدين لأوروبا) ملجأً بعيداً من سردية حزب المحافظين التي لا تحتمل. وذلك من شأنه تشجيعهم على الحديث علانية عن تأييدهم للقضايا الأوروبية، ونحن سنكون في حاجة لضجيج تأييدهم. وعلى غوردن (براون) أن يرى الفرصة السانحة في هذا المجال، لو كنا في طريقنا للفوز في استفتاء العملة الموحدة".
لكن، كل ما كان يراه بلير هو عدم إمكانية الفوز بمثل هذا الاستفتاء، والذي كان حزب العمال قد اعتمده من ضمن وعوده الانتخابية في برنامجه الحزبي manifesto لو كان الحزب سيسعى لطلب الانضمام إلى العملة الأوروبية الموحدة "اليورو". بلير كان قد طلب من مستشاره ليدل Liddle، في اليوم السابق وعبر تعليق هامشي "كي يواصل التفاوض" مع حزب الليبراليين الديمقراطيين. ولكنه أضاف، "فيما يمكننا ربما تلافي ضرورة عدم إلغاء فكرة إجراء الاستفتاء في هذا البرلمان، عليهم أن يعترفوا بحقيقة أننا في هذه الظروف من المستبعد أن نفوز به [الاستفتاء] لو أجريناه".
بلير كان لديه أيضاً تحفظات كبيرة على مبدأ تغيير القانون الانتخابي. وكان بلير قد طلب من جنكينز أن يعد نظاماً انتخابياً يعتمد على النسبية يمكن طرحه في استفتاء وطني آخر (فتوني بلير كان قد وعد بعدد من الاستفتاءات دون أن يلجأ إلى إجرائها)، لكن عندما طرح جنكينز مثالاً يشبه ذلك المعتمد في البرلمان المحلي الاسكتلندي، حيث تتم زيادة عدد من النواب لعكس نسبية الأطراف بتعيين نواب منتخبين في اللوائح المحلية، حاول بلير وفشل في إقناع جنكينز التخلي عن فكرة زيادة عدد النواب عبر آلية التعيين بنسبة 20 في المئة. كان من شأن ذلك أن يعني طرح فكرة التصويت البديل (أي وضع عدد من الاحتمالات على اللائحة الانتخابية بدلاً من مجرد علامة X للمرشح الوحيد الذي يمكن أن يختاره الناخب) للموافقة عليه في استفتاء، وهو ما حدث في النهاية في عام 2011.
بدلاُ من ذلك همش بلير اقتراحات جنكينز ووضعها جانباً، حيث ضمها إلى تخليه عن فكرة إنشاء غرفة برلمانية ثانية منتخبة، وعندما وصلت الأمور إلى قضية الاستفتاء في 2011، قام كينيث كلارك بحملات قوية ضد تغيير النظام الانتخابي مبرراً رفضه بأن من شأنها منح مساحة لأصوات الأحزاب المتطرفة.
كلارك لم يكن بحاجة إلى ذلك "الملجأ" bolt hole في النهاية. فلقد نجح بلير في إبقاء حزب المحافظين منقسماً على نفسه، لكنه أي كلارك وبقية الأصوات المؤيدة لفكرة أوروبا في حزب المحافظين فشلوا في النهاية في مسعاهم كما طرحه باول في البداية الجديدة التي أتاحتها حكومة حزب العمال من أجل إقناع الرأي العام البريطاني بدعم المشروع الأوروبي".
© The Independent