في واحدة من رواياته الأخيرة، "ابن رشد أو كاتب الشيطان"، التي أصدرها بعد ثلاثين عاماً من صدور روايته الكبرى الأولى "ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان" (1989) ويعود فيها إلى سيرة فيلسوف قرطبة عبر نص يفترضه سيرة ذاتية كتبها هذا الأخير على شكل رسالة موجهة إلى ابن له أسماه (جهاد)، يرد مشهد يجتمع فيه ابن رشد وهو بعد طالب شاب يتوق إلى دراسة الفلسفة على يد أبي بكر ابن طفيل بهذا الأخير، ويتجاذبان فيه أطراف الحديث بصورة ودية. وخلال ذلك الحديث الذي أتى تمهيداً لسلسلة لقاءات بينهما، يذكرنا الكاتب بأننا لا نعرف اليوم من تراث ابن طفيل سوى روايته الفلسفية "حي بن يقظان" التي صدرت قبل قرون من إصدار الكاتب الإنجليزي دانيال ديفو روايته "روبنسون كروزو" التي تتطابق مع موضوعها إلى حد كبير، ناهيك عن عديد من تفاصيلها، إنما ناقصة البعد الفلسفي التقني الذي صاغ الكاتب الأندلسي كتابه انطلاقاً من رغبته في الغوص فيه. ويلمح لنا ابن رشد فيما يفترض الكاتب الفرنسي المعاصر (وهو من أصول شامية/ مصرية على أي حال) أنه سيرة ذاتية لصاحب "فصل المقال" و"تهافت التهافت" أن ابن طفيل ما لجأ إلى توضيح أفكاره الفلسفية التي كانت تسير حينها، في عهد الموحدين الأندلسيين ناشري فكر ابن تومرت الرجعي، عكس التيار السلفي. بالتالي، لم تكن غايته كتابة رواية أو نشرها، بل نشر أفكاره التنويرية بصورة مواربة خوفاً من القمع الذي كان مستشرياً حينها، بعدما عاشت الأندلس قروناً من التسامح الحضاري والتعايش بين الأديان والمذاهب، كان ابن عربي قد عبر عنها في قصيدته الشهيرة التي يفتتح بها سينوحي روايته على لسان ابن رشد.
دور أساسي في ولادة فن الرواية
مهما يكن من الأمر هنا، وسواء كان القصد من "حي بن يقظان" أن تكون كتاباً فلسفياً أو رواية فكرية، سيكون مفيداً أن نتذكرها بين الحين والآخر، ليس كنص بديع جزل القراءة أو كتلخيص لفلسفة إنسانية حان الوقت للعودة إليها فحسب، بل حتى كمدماك أسهم في تأسيس فن الرواية في العالم، ولو من خلال التأثير الذي كان لها في كتابة دانيال ديفو روايته "روبنسون كروزو"، التي تعتبر، إلى جانب "دون كيشوت" للإسباني تسربانتيس وبضع روايات أوروبية أخرى، وملحمة من الهند من هنا أو رواية يابانية من هناك، ودائماً في مقدمتها جميعاً تلك "الليالي العربية"، "ألف ليلة وليلة" التي يجمع كبار روائيي العالم من ماركيز وبورخيس إلى همنغواي وعشرات غيرهم، أنها لعبت دوراً أساسياً في تكوينهم ككتاب رواية، تعتبر الأساس الذي بني عليها هذا الفن العظيم. والحقيقة أن "روبنسون كروزو" مارست هذا التأثير الكبير، ولكن دائماً تقريباً بما يشبه "الواسطة"، هي التي كانت قد صدرت للمرة الأولى في عام 1719 ومؤلفها يقترب حثيثاً من عامه الستين، وراحت تصول وتجول وحدها في ميدان النشر طوال ما يزيد على مئة سنة إلى جانب نحو عشر روايات أخرى لكاتبها، وعدد من إبداعات إنجليزية أخرى حذت حذوها في اتباع نمط روائي جديد لدزينة وأكثر من كتاب إنجليز آخرين، ولكن في مواضيع مختلفة تماماً، حتى تنبه كتاب جدد منذ بدايات القرن التاسع عشر إلى أريحية الموضوع الذي بنى عليه ديفو روايته "المؤسسة" تلك.
تقارب ليس عفو الخاطر
وعلى هذا النحو، ومن خلال محاكاتهم ما اعتبروه "ابتكارات" ديفو في مجال بناء الأجواء والحبكات والعلاقات، ومن دون أن يدروا أنهم بذلك إنما راحوا يسيرون، كما فعل ديفو من قبلهم من دون أدنى ريب، على الخطوط والأثلام التي شقها صاحب "حي بن يقظان"، ولكن في سياق كتابات فلسفية كان رائده فيها على أي حال ابن سينا نفسه، وأصحاب تقاليد عريقة آخرون في عالم الرواية الفلسفية. ولسوف تكون البداية الجديدة في عام 1812، مع جوهان ديفيد فايس في روايته "عائلة روبنسون السويسرية"، ومن بعده جيمس فينيمور كوبر (صاحب "آخر الموهيكان") في روايته التي أصدرها عام 1835 بعنوان "روبنسون الباسيفيك"، وحتى السير آرثر كونان دويل (مبدع شخصية شيرلوك هولمز ومغامراته البوليسية الرائعة) في روايته "العالم الضائع" الصادرة عام 1912، لكي لا نذكر سوى هذه النصوص الكبيرة التي حتى وإن كانت قد راحت تبتعد شيئاً فشيئاً عن السياق الأصلي والتوأم الذي بنى عليه ابن طفيل ومن بعده دانيال ديفو روايتيهما، لتغوص في نوع من التعبير عن تأقلم البشر حين يجدون أنفسهم وقد ولدوا من جديد وسط مناخ حضاري مختلف عن المناخ الذي كانوا قد اعتادوا عليه. وهو كما نعرف، الموضوع الأساس الجامع بين كل هذه الأعمال التي نذكرها وينطلق أساساً كما لا بد أن نعترف، من تلك "التقية الفلسفية" التي أجبرت ابن طفيل وكما يقول بنفسه لمحدثه ابن رشد على الأقل خلال ذلك اللقاء الذي جمعه بابن رشد جمع الأستاذ بتلميذه، وهو لقاء متخيل بالطبع يتوسط "الأحداث" المتخيلة التي يرويها لنا جيلبير سينوحي على لسان فيلسوف قرطبة في "كاتب الشيطان".
سلالة متواصلة ومتفرعة
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن "السلالة" التي انطلقت مما اضطر ابن طفيل إلى ممارسته كفعل "تقية" لخوفه من موحدي ابن تومرت جاعلاً نفسه كاتباً روائياً بدلاً من أن يتابع مساره كفيلسوف مهتم بالقضايا الفلسفية الشائكة والتعبير عنها في زمن حظر فيه الخوض في تلك القضايا تحت طائلة القتل حرقاً، كما يروي لنا سينوحي نفسه في فصول متقاطعة من تلك الرواية التي لن يكون من الصعب على قارئها مقارنة ما ترويه بما يجري في هذه الأزمنة. وقد نعني هنا تحديداً القارئ العربي والمسلم (علماً بأن الرواية صدرت مترجمة إلى العربية كما معظم روايات وكتب جيلبير سينوحي الأخرى البالغة الثلاثين عدداً حتى اليوم)، تلك السلالة عادت وأسلمت الدفة إلى روايات أخرى تنتمي في معظمها إلى أدب الخيال العلمي، وتبتعد أكثر وأكثر حتى عن الأساس الفلسفي الذي انطلق منه ابن طفيل بالطبع لتخوض من منطلقات قد تكون فلسفية، لكنها بدت دائماً مكبلة بهموم أخرى ومن دون أن تفارق كلية ثنايا تلك الأسس الفكرية التي غاص فيها معظم مقلدي "حي بن يقظان"، ولكن مروراً بـ"روبنسون كروزو" وغالباً من دون أن يعرفوا كثيراً عن ابن طفيل وبطله. وربما يكون في مقدورنا هنا أن نذكر عملين أدبيين كبيرين من نتاجات القرن العشرين ينطبق عليهما التوصيف السابق، وهما بالطبع "ملك الذباب" (1954) للإنجليزي ويليام غولدن صاحب جائزة نوبل الأدبية ورواية "ملفيل" (1972) للفرنسي روبر ميرل.
فارق أساسي
ولعل ما يمكننا أن نختم به هذا الحديث هو أن الفارق الأساسي بين المكانة التي احتلها نص ابن طفيل الأندلسي، وهي مكانة متواضعة تاريخياً بالنسبة إلى الأدب الروائي، وتلك التي يحتلها كتاب "ألف ليلة وليلة" كمكانة متقدمة معترف بها، يكمن تحديداً في أن "الليالي" كتبت في الأصل خلال مراحل زمنية متفرقة ومن طريق إضافات عديدة التحقت بها آتية من شتى اللغات والبلدان، بهدف حكائي أدبي حتى وإن تم ذلك ضمن إطار الأدب الشفاهي، بينما ولدت "حي بن يقظان" أصلاً من خلال غايات فلسفية نادراً ما قدمت أو أعيدت صياغتها لتتخذ شكل رواية بالمعنى التقني للكلمة. مع ذلك، لعل في إمكاننا على سبيل الرغبة في إثارة نقاش مفيد هنا أن نشير إلى أن اجتماع كتاب ابن طفيل و"ألف ليلة وليلة" يبدو لنا وكأنه يقف محركاً فاعلاً في ولادة جانب كبير من جوانب أدب الخيال العلمي طوال القرن العشرين إسوة بما كان من شأن اجتماع حكايات يوليسيس الهومرية وحكايات الجان والصراع بين الخير والشر في مجال ولادة جانب آخر من ذلك الأدب نفسه.