ليست المرة الأولى التي يجد فيها من تبقى من اليسار التونسي نفسه جنباً إلى جنب مع "حركة النهضة الإسلامية"، من أجل خوض معاركه. فاليوم تخوض قيادات يسارية إضراباً عن الطعام مع قيادات إسلامية ضد إجراءات الرئيس قيس سعيد، ما جعل اليسار في مرمى الاتهامات بأنه قد يخطئ في تقديراته، ويجعل نفسه الذراع التي يصارع بها الإسلاميون ضد النظام الحالي بعد أن خسر السلطة ثم رماها جانباً.
ما يحدث اليوم يرجعنا إلى تاريخ 18 أكتوبر (تشرين الأول) 2005، حين شهدت البلاد أشهر إضراب جوع في تاريخ المعارضة التونسية ضد نظام الراحل زين العابدين بن علي، وهو إضراب نفذه ثمانية معارضين من جهات سياسية وأيديولوجية مختلفة، ضمت اليسار واليمين الإسلامي وبعض الحقوقيين.
بالرصاص إذا لزم الأمر
وفي هذا السياق، يعتقد المحلل والكاتب السياسي محمد بوعود أن "تركيبة اليسار التونسي والضعف الهيكلي جعلاه تابعاً لسياسات وليس صانع قرار مستقل، وهي أزمة لم تفارقه منذ بداية التسعينيات، حين اصطف في معركة بين طرفي اليمين الديني والسياسي ولم يقف على الحياد، ولم يستطع بلورة طريق ثالث يتميز فيها عن اليمين والبرجوازية التي تقودها مطامحها ولا تقودها مصلحة الوطن".
ويواصل في تصريح خاص "وبعد 18 أكتوبر 2005 عندما التحم اليسار بالإسلام السياسي، وُجد ذلك الخيط الرابط بين اليسار أو بالأحرى ما تبقى منه، والإسلاميين والمنظمات الحقوقية وبعض الجمعيات التي يتفق معها اليسار في معاداة النظام، من دون أن يكون له برنامج وأهداف واضحة من هذه المواجهة، التي عادة ما يدفع فيها ثمناً يقتنصه غيره، وفرصة يكسبها الإسلاميون على حسابهم لإظهار المعركة أنها ليست معركتهم فقط بل معركة عموم الطيف السياسي التونسي ومعركة كل الحقوقيين والديمقراطيين".
وتابع في السياق ذاته، "ويجني الإسلاميون مغانم بمفردهم وإقصاء اليسار حتى بالرصاص إذا لزم الأمر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما في المعركة الحالية وفيما يخص إضراب الجوع الذي ينفذه بعض الأطراف ضد قيس سعيد والإيقافات التي تطال قيادات إسلامية، يرى محمد بوعود أنه "من خلال موقف اليسار فهو يعيد المنهج نفسه ويخطئ مرة أخرى المرمى، ولا يذهب إلى معركته مستقلاً بل يخوضها تحت غطاء النهضة وحلفائها المتضررين من حراك 25 يوليو (تموز)، الذين يطلبون ثأراً لدى خصمهم وسلطة ضاعت منهم، في الوقت الذي يدفع فيه اليسار من جهده وسلامته من أجل شعارات عامة لا تعنيه بشكل خاص، ولن يجني منها شيئاً بل هي إهدار فرص لصالح خصومه".
وإن زاد التباين في المواقف في اليسار التونسي تجاه إجراءات قيس سعيد الاستثنائية من حدة الانقسامات داخله، فإن اصطفافه وراء الإسلاميين قد ينهيه تماماً.
إما أن تكون معي وإما أنك ضد
ودفاعاً عن موقفهم، يجدون أنفسهم كل مرة جنباً إلى جنب مع "حركة النهضة الإسلامية" العدو التاريخي لهم. يقول الأمين العام لـ"حزب العمال" التونسي حمة الهمامي، إن "عقلية الاستبداد في تونس هي التي زرعت فكرة إما أن تكون معي وإما أنك ضدي، وكأنه لا يوجد خط مستقل". ويضيف "هم في حزب العمال مستقلون عن النهضة وعن قيس سعيد"، معللاً "نحن عارضنا حركة النهضة وطالبنا بإسقاطها، ولكن هذا لا يعني أن نرتمي في أحضان قيس سعيد الشعبوي ونعتبره جزءاً من المنظومة، وهو لا علاقة له بالثورة"، حسب تعبيره. وتابع "نحن خط مستقل عن هذا وذاك، والشعار الذي رفعناه في الأيام الأخيرة كان واضحاً، وهو النضال من أجل إسقاط المشروع الشعبوي الاستبدادي مع سد الباب أمام اليمين الإخواني والدستوري".
وعن التباينات في المواقف بين أبناء اليسار في تونس، يرى حمة الهمامي أن "التباينات في القوى السياسية في تونس تشق كل التيارات ولا تخص اليسار فحسب"، معتقداً أن "التقديرات مختلفة بخصوص حزب العمال"، مفسراً "ما حصل منذ 25 يوليو يؤكد وجهة نظرنا ويدعمها، فقد ظهر أن قيس سعيد قام بانقلاب واستولى على الحكم وليس تصحيح مسار الانتفاضة وإخراج تونس من أزمتها". مواصلاً "وليس أدل على ذلك إلا نهج الحكم الفردي الذي ينتهجه سعيد ومواصلة الخيارات الاقتصادية والاجتماعية اللا شعبية واللا وطنية نفسها التي مارستها المنظومات السابقة قبل وبعد الانتفاضة"، حسب تعبيره.
وينفي سعيد الاستئثار بالحكم، ويؤكد أن موقفه مرده الحرص على تجنيب البلاد المزيد من الاحتقان، في وقت تحتاج فيه تونس إلى التكاتف للخروج من أزماتها.
وقال إن ما قام به ليس انقلاباً وإنما إجراءات وفق الدستور "بعدما وصلت البلاد إلى حد غير مقبول"، على حد تعبيره.
والجدير ذكره أنه بين اليسار التونسي واليمين الإسلامي عداء تاريخي وأيديولوجي وصل ذروته بعد انتفاضة يناير (كانون الثاني) إثر الاغتيالات السياسية التي طالت قيادات من اليسار، واتهم فيها الجهاز السري في "النهضة الإسلامية".