أثار انتخاب دونالد ترمب في 2016 جدالاً كبيراً حول طبيعة النظام الدولي الليبرالي ومصيره، وقد بدا فجأة محاصراً بين مطرقة المنافسة من قبل قوى كبرى غير ليبرالية وسندان رئيس أميركي عدائي. ربما يكون ترمب قد خسر الرئاسة في 2020، لكن النظام الليبرالي لا يزال تحت التهديد، بل أكدت الحوادث الأخيرة حجم التحديات التي يواجهها، والأهم من ذلك، أن تلك التحديات ليست سوى مظهر واحد لأزمة أوسع بكثير تعرض الليبرالية بحد ذاتها للخطر.
خلال عقود بعد الحرب العالمية الثانية، التزمت الفصائل المهيمنة في كل من الحزبين الديمقراطي والجمهوري بمشروع إنشاء نظام دولي ليبرالي بقيادة الولايات المتحدة، إذ رأت أن واشنطن تشكل المحور الأساسي في بناء عالم منظم بشكل جزئي على الأقل، حول تبادلات السوق والملكية الخاصة، وحماية الحقوق السياسية والمدنية وحقوق الإنسان، والتفوق القيمي للديمقراطية التمثيلية، ووجود الدول ذات السيادة المتساوية رسمياً التي تعمل غالباً من خلال مؤسسات دولية متعددة الأطراف. ومهما كانت عيوب ذلك النظام، فقد انتشل بظهوره في "الحرب الباردة"، الملايين من براثن الفقر، وأدى إلى عيش نسبة قياسية من البشر في ظل حكومات ديمقراطية. في المقابل، أزال [النظام الدولي الليبرالي] أيضاً الحواجز العازلة التي من شأنها أن تصعب انتشار الاضطرابات السياسية من مستوى إلى آخر، عن طريق القفز مثلاً من المستوى دون الوطني إلى الوطني ثم الإقليمي، وأخيراً المستوى العالمي.
واستطراداً، افترض اللاعبون الرئيسون في الديمقراطيات الراسخة، خصوصاً في أوروبا وأميركا الشمالية، أن تقليص الحواجز الدولية من شأنه أن يسهل انتشار الحركات والقيم الليبرالية. وفي الواقع، نجح الأمر لبعض الوقت، لكن النظام الدولي بات يُحابي الآن مجموعة متنوعة من القوى غير الليبرالية، بما في ذلك الدول الاستبدادية كالصين، التي ترفض الديمقراطية الليبرالية بالجملة، وترفض كذلك الشعبويين الرجعيين والمستبدين المحافظين الذين يقدمون أنفسهم على أنهم حُماة لما يسمى القيم التقليدية والثقافة الوطنية فيما يدمرون تدريجياً المؤسسات الديمقراطية وسيادة القانون. في نظر عدد من الأميركيين اليمينيين ونظرائهم في الخارج، تبدو اللاليبرالية الغربية ديمقراطية تماماً.
بعد فترة وجيزة من تنصيب الرئيس الأميركي جو بايدن، بدأ يتحدث عن "معركة بين منفعة الديمقراطيات في القرن الحادي والعشرين والأنظمة الاستبدادية". وبذلك، ردد وجهة نظر واسعة الانتشار مفادها أن الليبرالية الديمقراطية تواجه تهديدات من الداخل والخارج، إذ تسعى القوى الاستبدادية والديمقراطيات غير الليبرالية إلى تقويض الجوانب الرئيسة في النظام الدولي الليبرالي. كذلك صارت الركائز المفترضة لهذا النظام، خصوصاً الولايات المتحدة، معرضة لخطر الاستسلام لـ"اللاليبرالية" في الداخل.
وفي سياق متصل، يبدو أن كل محلل أميركي، سواء أكان يريد "إعادة البناء بشكل أفضل"، أو "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، يوافق على أن الولايات المتحدة بحاجة إلى تنظيم نفسها أولاً كي تتنافس بفاعلية مع القوى العظمى الاستبدادية وتعزز قضية الديمقراطية على المسرح العالمي. في المقابل، يفهم الحزبان السياسيان الرئيسان مستلزمات مشروع التجديد هذا بشكل يختلف تماماً لدى أحدهما بالمقارنة مع الآخر. وكذلك فإن ذلك الانقسام صار أكبر بكثير من الخلافات حول التنظيم الاقتصادي والاستثمار العام. في الواقع، يرى الحزبيون أن الجانب الآخر يمثل تهديداً وجودياً لبقاء الولايات المتحدة كجمهورية ديمقراطية.
وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة إحدى أكثر الديمقراطيات الغربية قطبية وانقساماً، لكن صراعاتها وتوتراتها السياسية تمثل تجليات لعمليات دولية أوسع. ومثلاً، يرتبط اليمين الرجعي في الولايات المتحدة بمجموعة متنوعة من الشبكات العالمية التي تشمل حركات سياسية معارضة وأنظمة حاكمة. والجدير بالذكر أن الجهود المبذولة من أجل دعم الديمقراطية الليبرالية في الولايات المتحدة ستخلف آثاراً متتالية، وأحياناً غير متوقعة، على النظام الليبرالي الأوسع في آنٍ معاً، ولا يمكن لصانعي السياسات ترتيب شؤون البلاد من دون معالجة التحديات الدولية والعابرة للحدود.
واستطراداً، إن ذلك كله يتعدى إضفاء طبقة طلاء جديدة على الديمقراطية الأميركية وإعادة تصميم مطبخها. لا يمكن معالجة الأزمة بمجرد إعادة التزام الولايات المتحدة بالمؤسسات والمعاهدات والتحالفات المتعددة الأطراف. ويرجع السبب في ذلك إلى أن جذورها [الأزمة] بنيوية. كذلك تؤدي طبيعة النظام الدولي الليبرالي المعاصر إلى جعل الديمقراطيات عرضة بشكل خاص للضغوط غير الليبرالية الداخلية والخارجية.
إذاً، لا تستطيع المؤسسات الليبرالية في شكلها الحالي أن توقف المد اللاليبرالي المتصاعد. في الواقع، لقد عانت حكومات كي تمنع انتشار الأيديولوجيات والتكتيكات المناهضة للديمقراطية، سواء أكانت محلية أم مستوردة. لذا، يجب أن تتكيف الديمقراطيات الليبرالية كي تصد التهديدات على مستويات متعددة. ولكنّ هناك جانباً سلبياً في ذلك، إذ إن أي محاولة للتعامل مع تلك الأزمة، ستتطلب قرارات سياسية غير ليبرالية بشكل واضح، أو ستستلزم نسخةً جديدة من النظام الليبرالي.
انفتاح على عدم الاستقرار
يسلط منتقدو فكرة الحرب الباردة الجديدة بين الصين والولايات المتحدة الضوء على الاختلافات الجوهرية بين عالم اليوم وعالم العقود الأولى من "الحرب الباردة" [التي دارت بعد الحرب العالمية الثانية، بين المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، والمعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق، وانتهت لمصلحة المعسكر الأول في تسعينيات القرن العشرين]. وفي ذلك الإطار، شكل الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة مركزين لتكتلات جيوسياسية منفصلة. على النقيض من ذلك، تعمل بكين وواشنطن في مساحات جيوسياسية متداخلة ومترابطة. وعلى مدر سنوات، ناقش السياسيون في واشنطن عدد القيود التي يجب وضعها على الاستثمار الصيني في الولايات المتحدة. في المقابل، لم يكن هناك مثل هذا القلق، ولم يكن هناك شيء يستدعي وجوده، حينما تعلق الأمر بالاتحاد السوفياتي، إذ لم تعمل الشركات الأميركية على تعهيد إنتاجها إلى المصانع السوفياتية [في عملية التعهيد Outsourcing، يسند مصنع ينتج سيارة، مثلاً، عمليات صنع أجزاء منها كالأبواب أو المقابض أو الكراسي أو غيرها، إلى مصنع آخر، قد يكون في بلد آخر]، ولم يكن الاتحاد السوفياتي قط مورداً مهماً للسلع التامة الصنع إلى الولايات المتحدة أو حلفائها الرئيسين الذين تربطهم معها معاهدات.
واستطراداً، حدثت مجموعة واسعة من التطورات التي تسارعت جميعها خلال العقود الثلاثة الماضية، جعلت العالم أكثر اكتظاظاً بتدفقات المعرفة والتجارة، بما في ذلك توسع الأسواق، وإلغاء القيود الاقتصادية، وسهولة حركة رأس المال، والاتصالات عبر الأقمار الصناعية، والوسائط الرقمية. كذلك، أصبح الناس أكثر إدراكاً لما يحدث في أجزاء مختلفة من العالم. وزاد انتشار وأهمية الشبكات السياسية العابرة للأوطان، سواء الرسمية أو غير الرسمية، فيما كانت محدودة خلال "الحرب الباردة" بسبب الحدود الجيوسياسية الصعبة، وقلة عدد الاتصالات البعيدة المدى وارتفاع تكلفتها.
واستكمالاً، أدت تلك التغييرات المتكشفة إلى تشويش المشهد الجيوسياسي الذي ظهر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. في الحقيقة، لم يحل أي نظام دولي موحد محل النظام الأكثر تشعباً الذي ساد أثناء "الحرب الباردة"، وعلى الرغم من آمال السياسيين النيوليبراليين، لم يصبح العالم "مسطحاً" على الإطلاق. وبدلاً من ذلك، جاء النظام الدولي الذي تبلور مع حلول مطلع القرن الحادي والعشرين، شديد التنوع. وتذكيراً، فإن عدداً من الأنظمة الديمقراطية الجديدة التي ظهرت في تسعينيات القرن العشرين [عقب نهاية "الحرب الباردة"] لم تكن ديمقراطية إلا بشكل ضعيف. وفي ذلك الإطار، رفض المتفائلون خطأً المؤشرات المبكرة على ضعف المؤسسات الديمقراطية الليبرالية، فاعتبروها مجرد عقبات على طريق التحول الديمقراطي الكامل. في المقابل، أصبح النظام الليبرالي شرقاً عبر أوراسيا، خليطاً مرقعاً بشكل متزايد، إذ تمكنت بعض الدول كالصين، من الوصول بشكل فاعل إلى مزايا النظام الاقتصادي الليبرالي من دون قبول متطلبات الليبرالية السياسية.
وفي تلك السنوات، وعد عدد من المحللين بأن التوسع في السوق سيولد طبقات وسطى قوية تطالب بالتحرر السياسي. وكذلك جادلوا بأن تطوير مجتمع مدني عالمي، مدعوم بحقوق الإنسان، وسيادة القانون، والمنظمات البيئية غير الحكومية، من شأنه أن يساعد في تنمية القوى المؤيدة للديمقراطية وتعبئتها، خصوصاً في منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي. والجدير بالذكر أن الإنترنت الذي يصور على نطاق واسع كقوة لا تقهر داعمة للحرية، قد أدى دوره في نشر جاذبية لا تقاوم للمبادئ الاقتصادية الليبرالية والحريات السياسية الليبرالية.
وبالاسترجاع، بقي من الممكن تبرير الشعور بالتفاؤل حتى بعد الـ2005، وهي السنة الأخيرة التي شهدت زيادة صافية في الديمقراطية العالمية، وفقاً لمجموعة "فريدوم هاوس" المؤيدة للديمقراطية، لكن في نظرة استرجاعية، يبدو الأمر ساذجاً بشكل ميؤوس منه.
في 2001، قبل مجرد بضعة أشهر من انضمام الصين رسمياً إلى "منظمة التجارة العالمية"، دفعت هجمات 11 سبتمبر (أيلول) الولايات المتحدة إلى الشروع في الحرب العالمية على الإرهاب. وهكذا، تبنت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش مجموعة من الممارسات غير الليبرالية أو توسعت فيها، بما في ذلك تعذيب "المقاتلين غير الشرعيين" من خلال أساليب "الاستجواب المعزز"، وعبر "عمليات التسليم الاستثنائي" لحكومات الأطراف الثالثة. وكذلك اعتمدت نسخة عسكرية من الترويج للديمقراطية، ثم أدى غزو العراق في 2003 وما رافقه من عقيدة الضربات الاستباقية، إلى مزيد من التوتر في العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفاء أوروبيين كفرنسا وألمانيا. كذلك سلطت انتفاضات "الثورات الملونة"، أي الانتفاضات الليبرالية في دول ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي (في جورجيا 2003 وأوكرانيا 2004)، و"الربيع العربي" الذي اندلع في 2010، سلطت الضوء على التهديد الذي يشكله عناصر النظام الليبرالي، على غرار المؤسسات الدولية، والمنظمات الغربية غير الحكومية، ووسائل الإعلام العام الاجتماعي [سوشيال ميديا]. وبشكل متزايد، اتبعت الأنظمة الاستبدادية وغير الليبرالية استراتيجيات في تحصين نفسها من تلك التهديدات الليبرالية العابرة للحدود.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا، جاءت النتيجة التراكمية للابتكارات التكنولوجية، وخيارات السياسة التي اتخذتها القوى الليبرالية، والممارسات الاستبدادية المتطورة، على هيئة "انفتاح غير متكافئ" يمثله الواقع الغريب القائل بأن النظام الليبرالي المعاصر يعمل بشكل أفضل لمصلحة الأنظمة الاستبدادية بالمقارنة مع ما يفعله مع الديمقراطيات الليبرالية. في الحقيقة، يمكن للدول الاستبدادية أن تحد من تأثير المجتمع المدني الدولي والشركات المتعددة الجنسيات والتدفقات الاقتصادية، وحتى الإنترنت، على سكانها، بشكل أكثر فاعلية بالمقارنة مع ما تفعله الديمقراطيات الليبرالية في ذلك الصدد. كذلك يمكن للسلطويين استخدام حرية التدفقات العالمية، على النحو الذي توفره السياسات الليبرالية، سواء أكانت اقتصادية أو سياسية، من أجل تعزيز نفوذهم غير الليبرالي. إنهم يفعلون ذلك فيما يمنعون في الوقت نفسه ويستبعدون ويسيطرون على التدفقات العابرة للأوطان، للأفكار والمنظمات والمعلومات والأموال التي قد تهدد إمساكهم بالسلطة.
ميزة النظام الاستبدادي
أصبح انفتاح البلدان الليبرالية، وهو أحد المبادئ الأساسية لمثل تلك المجتمعات، يمثل عبئاً، إذ يواجه صانعو السياسة الأميركيون مشكلة أساسية متمثلة في المهارة التي تستغل بها الدول والحركات السياسية غير الليبرالية نظاماً عالمياً مفتوحاً ومتداخلاً، بل تمثل تلك المشكلة تحدياً خاصاً بالنسبة إلى أولئك الذين تشكلت افتراضاتهم عبر توليهم الحكم خلال تسعينيات القرن العشرين والسنوات الأولى من القرن الـ21، حينما كانت الولايات المتحدة مهيمنة.
وتجدر الإشارة إلى أن الانفتاح لا ينتج بيئة إعلامية ومعلومات عالمية أكثر ليبرالية، إذ يبني المستبدون الحواجز أمام وسائل الإعلام الغربية في بلدانهم، فيما يستخدمون قدرة الدخول إلى المنصات الغربية للمضي قدماً في أجنداتهم الخاصة. ومثلاً، تتمتع الدول الاستبدادية الآن بقدرة وصول إعلامي واسع النطاق إلى العالم الديمقراطي. واستطراداً، تتلقى وسائل الإعلام العالمية التي تديرها الدولة كـ"سي جي تي أن" الصينية و"آر تي" الروسية، مليارات الدولارات في شكل دعم حكومي وتحافظ على عدد كبير من المكاتب والمراسلين الأجانب، بما في ذلك داخل الديمقراطيات الغربية، حتى مع استبعاد الأنظمة الاستبدادية وسائل الإعلام الغربية بشكل متزايد. في الواقع، طردت الصين مراسلي "بي بي سي" ومنعت الشبكة البريطانية من البث في البلاد سنة 2021 بسبب تغطيتها الانتهاكات في مقاطعة "شينجيانغ" [تتعلق بالإويغور].
وعلى نحو مماثل، تواصل المنظمات وجماعات الضغط التي ترعاها الأنظمة الاستبدادية أنشطتها داخل المجتمعات المفتوحة حتى في الوقت الذي تحظر فيه دول كالصين وروسيا، المسؤولين والأكاديميين ومؤسسات الفكر الغربيين. والجدير بالذكر أن المستبدين المعاصرين مدركون للواقع. ويستخدمون التقنيات الجديدة ومنصات الوسائط الاجتماعية، لتشكيل ملفاتهم العالمية ورفع مكانتهم لدى الجماهير المحلية والدولية. وكذلك يستعينون بشكل روتيني بخدمات شركات العلاقات العامة في الغرب التي تصور زبائنها بوصفهم يتمتعون بشعبية في بلدهم، وتؤكد على أهميتهم الجيواستراتيجية، وتخفي تاريخ القمع والفساد. ويحاول الأوتوقراطيون أيضاً التأثير على صانعي السياسات في الديمقراطيات الليبرالية من خلال تمويل مراكز الفكر ورعاية "الجولات الدراسية" وغيرها من الرحلات على حساب الحكومة. وبطريقة موازية، تعمل شركات إدارة السمعة التي تحتفظ بها الحكومات غير الليبرالية والأوليغارشيون من ماضي الأنظمة الاستبدادية، تعمل على فحص وسائل الإعلام العالمية بعناية وتهدد برفع الدعاوى، كي تردع التغطية السلبية وتعوق التحقيقات.
وفي مقلب مغاير، تتيح التقنيات الرقمية أدوات جديدة للقمع المحلي والعابر للحدود الوطنية. واستكمالاً، سمحت تلك الأدوات للأجهزة الأمنية في دول قوية (كالصين وروسيا وتركيا) ودول أضعف منها (كبيلاروسيا ورواندا وطاجكستان) بتكثيف حملات مراقبة المعارضين السياسيين في المنفى والنشطاء في جاليات المغتربين وترهيبهم وإسكاتهم، حتى أولئك الذين يقيمون في البلدان التي تعتبر عادةً ملاذات آمنة، على غرار كندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. وبحسب ما تبين من تحقيق حديث بشأن شركة التكنولوجيا الإسرائيلية "أن أس أو غروب" NSO Group وبرنامج التجسس "بيغاسوس" الذي تنتجه، فإن الحكومات الاستبدادية منخرطة في مراقبة رقمية واسعة النطاق للمعارضين والصحافيين من دول أخرى، غالباً بمساعدة الشركات الموجودة في دول ديمقراطية.
في الماضي، اعتبرت شركات التكنولوجيا الغربية نفسها من أبطال الانفتاح. حاضراً، يستسلم الكثير منها لضغوط البلدان المضيفة لها بشأن إزالة المحتوى والأدوات التي يمكن استخدامها في تسهيل التعبئة ضد النظام. قبل الانتخابات البرلمانية في روسيا في سبتمبر (أيلول) 2021، أقنع الكرملين شركتي "أبل" و"غوغل" بإزالة تطبيق طوره أنصار زعيم المعارضة المسجون أليكسي نافالني، وقد صمم للمساعدة في تنسيق تصويت المعارضة. واتهم نافالني عمالقة التكنولوجيا بالتصرف بصفتهم "متواطئين" مع الكرملين.
وعلى نحو مشابه، تنحني المؤسسات الدولية لإرادة السلطويين. في ذلك المجال، سعت الصين بقيادة الرئيس شي جينبينغ بقوة إلى الحد من الانتقادات الموجهة للبلاد في منتديات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. وبحسب منظمة "هيومن رايتس ووتش" المدافعة عن حقوق الإنسان، سعت بكين إلى "تحييد قدرة ذلك النظام [منتديات حقوق الإنسان في الأمم المتحدة] على محاسبة أي حكومة على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان". وبطريقة موازية، تجمعت الدول الاستبدادية معاً في تحالفات كـ"مجموعة التفكير المتماثل" Like-Minded Group لمعارضة انتقاد ممارسات الدول في ما يخص حقوق الإنسان، وإعطاء امتياز لسيادة الدولة، وعرقلة اعتماد المنظمات غير الحكومية وتقليل دورها في عمليات الأمم المتحدة المصرح بها، على غرار "المراجعة الدورية الشاملة". في سياق متصل، تقود الصين الآن أربع وكالات تابعة للأمم المتحدة وتضغط لمصلحة إيصال مرشحيها المفضلين إلى القيادة في وكالات أخرى، بما في ذلك "منظمة الصحة العالمية". في سبتمبر 2021، ألغت مجموعة "البنك الدولي" دراستها السنوية المؤثرة حول "ممارسة الأعمال" بعد أن وجد تقرير استقصائي خارجي أن قادة [تلك الدراسة]، مارسوا "ضغطاً لا داعي له" على موظفيهم، لأسباب سياسية، لتحسين مرتبة الصين في تصنيف 2018.
في الواقع، لا تنحصر قدرة الدول الاستبدادية على العمل بحرية في المؤسسات العالمية التابعة للنظام الدولي الليبرالي فحسب، بل إنها تبني أيضاً نظاماً مترابطاً قوامه مؤسسات قيادة بديلة، تمنع عبرها تأثير الديمقراطيات الليبرالية أو تحده بشكل كبير. من خلال تأسيس منظمات اقتصادية وأمنية إقليمية جديدة، يمكن للصين وروسيا التشديد على أجندتهما الإقليمية عن طريق المؤسسات التي ترفض على الملأ نشر الأعراف والقيم الليبرالية السياسية، واستخدام تلك المؤسسات للمساعدة في تنظيم الكتل غير الليبرالية داخل المنظمات الدولية الأكثر وقاراً، والحفاظ على خيارات الخروج إذا صارت مؤسسات القيادة الليبرالية أقل ترحيباً بالسلطويين.
الفساد في الداخل
يأتي التهديد للديمقراطيات الليبرالية من الداخل أيضاً. في الواقع، يرتكز النظام الليبرالي على اتحادين كبيرين هما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ويشكل كلاهما أيضاً موطناً لبعض أقوى قوى اللاليبرالية، وأكثرها تأثيراً. في المقابل، تتخذ تلك القوى شكلين عموماً، أولهما الإجراءات غير الليبرالية التي تتخذها الحكومات الديمقراطية الليبرالية بحد ذاتها في محاولة لمواجهة التهديدات المتصورة، وثانيهما القوى المناهضة للديمقراطية التي تظهر لدى الحركات والأحزاب والسياسيين غير الليبراليين.
لطالما تصارعت الحكومات الديمقراطية مع المفاضلات بين الحرية والأمن، وكذلك واجهت الليبرالية دائماً معضلات حول مدى التسامح مع الفاعلين غير الليبراليين. في ذلك السياق، تغاضت حكومة الولايات المتحدة عن الاستبداد العرقي المحلي في [قوانين] "جيم كرو" التي كرّست الفصل العنصري [في ولايات الجنوب الأميركي، بما في ذلك تلك التي تغطي قسماً من الساحل الشرقي. واستمرت منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى إلغائها في 1965] ضد غالبية السكان طيلة القرن العشرين، مع عواقب مروعة. وفي مقلب مغاير، ساهمت سياسة الأمن القومي التي انتهجتها الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر في أزمة النظام الليبرالي الحالية من خلال إصدار عقيدة الحرب الاستباقية وعسكرة الترويج للديمقراطية، من بين أمور أخرى. في الواقع، أسهم احتضان الولايات المتحدة للرأسمالية المستندة على المضاربة الوهمية المترافقة التي موّلت بشكل مفرط اقتصادياً، في جعلها بؤرة الأزمة المالية سنة 2008. وفي الآونة الأخيرة، أدى الوباء العالمي إلى تطبيع فرض ضوابط أكثر صرامة على الحدود وسياسات هجرة أكثر تقييداً وقوض شرعية حماية اللاجئين.
من أجل التصدي للقوى غير الليبرالية، خصوصاً الصين، تبنت الحكومات الديمقراطية سياسات تتعارض مع الانفتاح الذي يميز النظام الليبرالي المعاصر، إذ استخدمت واشنطن أدوات قسرية للتدخل في الأسواق العالمية في محاولة للحفاظ على وصول الولايات المتحدة إلى التقنيات المهمة استراتيجياً، واستمرارية تفوقها فيها. وفي منحى مقابل، أدت المخاوف الأمنية المتعلقة باحتمال أن تجري الصين مراقبة واسعة النطاق لحركة الاتصالات السلكية واللاسلكية الغربية مثلاً، إلى ممارسة إدارة ترمب ضغوطاً كبيرة على حلفائها لرفض تكنولوجيا "الجيل الخامس للخليوي" الصينية، حتى إن عديداً من السياسيين الأميركيين ومسؤولي السياسة الخارجية من يلتزمون بليبرالية السوق، خلافاً لترمب، يعتبرون تلك السياسة ناجحة عموماً.
واستطراداً، لا يزال الدعم الحقيقي للانفصال الاقتصادي واسع النطاق عن الصين محدوداً، لكن التنافس المتزايد بين بكين وواشنطن أدى إلى الابتعاد، وإن جزئياً، عن ليبرالية السوق باسم التنافسية والاستقلال الاستراتيجي. والجدير بالذكر أن "قانون المنافسة والابتكار" الأميركي العالق في عملية الممصلحةة [بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي] وقت كتابة هذا التقرير، يشكل أول تشريع مهم مشترك بين الحزبين يتبنى السياسة الصناعية الوطنية. في ذلك الصدد، يمثل ذلك القانون تغييراً محدوداً جداً، لكنه معاكس لليبرالية المفتوحة، أو الليبرالية الجديدة [نيوليبرالية، وهي صيغة الليبرالية التي صعدت في ثمانينيات القرن العشرين، خصوصاً مع رونالد ريغان ومارغريت تاتشر]، في فترة ما بعد "الحرب الباردة".
واستكمالاً، أدى المتحور النيوليبرالي المشتق من ليبرالية السوق (وقد تمثل ذلك المتحور في نزعة بدأت مع سبعينيات القرن العشرين، للدفع نحو مزيد من إلغاء القيود والخصخصة وحرية حركة رأس المال) إلى تآكل الحماية الاجتماعية وزيادة عدم المساواة، بما في ذلك عن طريق إعادة صياغة قانون الضرائب بشكل كبير من أجل إفادة أصحاب الدخل المرتفع والشركات الأميركية، لكن بدلاً من العمل على قلب مسار تلك السياسات، يفضل عديد من السياسيين الأميركيين إلقاء اللوم على الممارسات التجارية الصينية. في ذلك الصدد، إن الإبقاء على الرسوم الجمركية على البضائع الصينية يجذب المشاعر الشعبوية ويفيد عدداً محدوداً من العمال في الصناعات التي تنافس الواردات الصينية كالفولاذ. وفي المقابل، يعتبر الضرر الذي يلحقه بصناعات التصدير والمستهلكين أكبر [من فائدته]. حتى الآن، لا يبدو أن تلك التعرفات الجمركية قد أنتجت ترتيباً تجارياً جديداً أفضل مع الصين.
وبطريقة موازية، تهدد الجهود المبذولة من أجل التصدي للقوى المحلية المعادية للديمقراطية بتقويض الأعراف والقيم الليبرالية. في الولايات المتحدة، دعا الليبراليون والتقدميون إلى تغييرات في القواعد الإجرائية الرامية إلى منع التراجع الديمقراطي. في الحقيقة، إنهم يدافعون عن اتخاذ موقف تدخلي ضد الميليشيات اليمينية والمنظمات شبه العسكرية، وتكديس قضاة ليبراليين في المحكمة العليا، والتخلي عن الممارسات التشريعية القديمة على غرار التعطيل بالمماطلة. وحينما تتخذ الأنظمة غير الليبرالية صراحة تلك الإجراءات نفسها، يتهمها المراقبون بتقويض الديمقراطية.
تبقى الحقيقة أن الديمقراطيات الليبرالية تواجه بالفعل تهديدات حقيقية من صعود الشعبوية الرجعية، والسلطوية المحافظة، وغيرها من الحركات المناهضة للديمقراطية. في الولايات المتحدة، لا يزال أحد الحزبين السياسيين الرئيسين خاضعاً لزعيم غوغائي استبدادي. وفي ذلك السياق، يعمل الحزب الجمهوري على طرد المسؤولين الذين وقفوا في طريق جهود إلغاء الانتخابات الرئاسية لسنة 2020، مدفوعاً بـ"الكذبة الكبيرة" (الادعاء الخاطئ موضوعياً بأن الديمقراطيين سرقوا الانتخابات من ترمب من خلال تزوير منهجي للانتخابات). وكذلك تتسارع جهود الجمهوريين الهادفة إلى قمع الناخبين. وفي ذلك الإطار، أدى التلاعب الشديد في تقسيم الدوائر الانتخابية بالفعل إلى جعل ولايات كـ"ماريلاند" و"نورث كارولينا" و"ويسكونسن"، بحكم الأمر الواقع، "أنوقراطيات" تشريعية بمعنى أنها صارت أنظمة حكم تمزج بين السمات الديمقراطية والاستبدادية [في الولايات المتحدة، تعتبر كل ولاية نوعاً من جمهورية تعمل ضمن النظام الفيدرالي الأميركي]. إذا استمرت تلك النزعات، فقد تكون التغييرات الإجرائية هي الطريقة الوحيدة لمنع تفكك الديمقراطية في الولايات المتحدة.
حروب الثقافة وسياسات القوة
على نطاق أوسع، تخاطر الليبرالية بتقويض نفسها، إذ يكمن في قلب الليبرالية السياسية المعاصرة الاعتقاد أن بعض الحقوق والقيم عالمية، وأنها موجودة بغض النظر عن الاختلافات بين البلدان أو الثقافات أو الخلفيات التاريخية. ويتبنى نظام معاهدات حقوق الإنسان ذلك المفهوم. وهكذا، تلتزم الدول الموقعة بحماية حقوق معينة على غرار أن تكون الإجراءات القانونية ملائمة، وكذلك الامتناع عن انتهاكات معينة لحقوق الإنسان كالتعذيب.
على الرغم من ذلك، أدى توسع الحقوق الليبرالية في العقود الأخيرة إلى ردود فعل متزايدة. وفي ذلك الإطار، أدت جهود إدارة أوباما الهادفة إلى الترويج لحقوق "مجتمع الميم" [المثليين وأصحاب الهويات الجنسية المزدوجة والملتبسة] خارج الولايات المتحدة، عادةً من خلال وزارة الخارجية، إلى إثارة الغضب بين المحافظين في دول مختلفة كجمهورية التشيك وأوغندا. والجدير بالذكر أن توسع القيم الليبرالية المعاصرة، من حقوق "مجتمع الميم" إلى المساواة بين الجنسين، وصولاً إلى حقوق المهاجرين، يدعو إلى ظهور اعتراضات في الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية، وكذلك يوفر للسياسيين غير الليبراليين فرصاً في عزل قيم ليبرالية محددة، واستخدامها كقضايا مثيرة للجدال ضد خصومهم.
وفي سياق متصل، نجحت موسكو، ربما عن غير قصد، في تصوير نفسها على أنها منارة للقيم التقليدية من خلال حملة لتشويه صورة حقوق "مجتمع الميم" باعتبارها قناعاً للاعتداء الجنسي على الأطفال. لا يوجد شيء جديد بشكل خاص حول هذا النوع من الاستراتيجية، لكن تجدر ملاحظة أنه أصبح عابراً للحدود، وبذلك يكون بمثابة أساس للسياسات غير الليبرالية في البلدان الأخرى. كذلك، تستخدم تلك الاستراتيجيات التقسيمية في تقويض دعم المجتمع الدولي للإصلاحيين من خلال ربطهم بالقيم غير الليبرالية. ومثلاً، جردت "منظمة العفو الدولية" لفترة وجيزة، المعارض الروسي نافالني من صفة "سجين الرأي" في أعقاب حملة إعلامية يدعمها الكرملين سلطت الضوء على التعليقات المعادية للأجانب التي أدلى بها في الماضي بشأن المهاجرين من آسيا الوسطى.
واستطراداً، ليس المغزى من ذلك أن الولايات المتحدة يجب أن تتراجع عن جعل حقوق "مجتمع الميم" جزءاً من سياستها الخارجية أو أن آراء نافالني المقلقة بشأن المهاجرين من آسيا الوسطى لن يكون لها أي عواقب. بالأحرى، يتجسد المغزى في أن تعزيز الحقوق الليبرالية يفرض على صانعي السياسات التعامل مع بحر من المفاضلات والتناقضات والخلافات. بالتالي، يتجاوز ذلك الأمر مسائل تعزيز الديمقراطية والحقوق المدنية. لقد أعلنت إدارة بايدن بشكل صحيح أن الفساد يمثل خطراً على الأمن القومي. في المقابل، إن إجراءات مكافحة الفساد ستؤدي إلى ردود فعل سلبية تشكل أيضاً مصدر قلق للأمن القومي. كذلك، ستشكل الإجراءات التدخلية تهديداً للأوليغارشية المرتبطة بالسياسة في أوروبا وأماكن أخرى.
ومن المرجح أن يرى الأوتوقراطيون الفاسدون عدداً من الجهود المناهضة للحكم الكليبتوقراطي [النظام المستند إلى السرقة من الأموال العامة واختلاسها]، على غرار توسيع متطلبات التحفظ بشأن مقدمي الخدمات، ومنع المسؤولين الأجانب من قبول الرِّشى، [يرونها] بمثابة تهديد خطير لأنظمتهم وسيحشدون جماهيرهم ضد تلك الأشكال الجديدة من "التدخل في الشأن المحلي". تجدر الإشارة إلى أن الخطوات المهمة للمحافظة على الليبرالية، حتى الدفاعية منها، ستولد دفعاً مضاداً في وجه النظام الليبرالي، لا يأتي من الخارج فحسب، إذ تهدد تدابير مكافحة الفساد مجموعة واسعة من السياسيين ورجال الأعمال والمستشارين الأميركيين. في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد انتخابات 2016، أصبحت تلك الإجراءات مصدراً آخر للانقسام الحزبي.
رجعية بلا حدود
لا يشكل ذلك الاستقطاب المشار إليه آنفاً، مجرد ظاهرة وطنية منفردة. في الواقع، تعتبر الشعبوية الرجعية الأميركية تجلياً محدداً لنزعة عالمية. وفي ذلك الإطار، تسلط الشعبية الدولية لرئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بين المعلقين اليمينيين والقادة العرقيين القوميين ومشاهير المحافظين (خصوصاً الأميركيين) الضوء على الطابع العابر للحدود الذي تتصف به الشبكات غير الليبرالية. وفي منحى مقابل، ظهر أوربان الذي لوحظ أنه لم يتلقَّ دعوة من إدارة بايدن إلى القمة من أجل الديمقراطية في ديسمبر (كانون الأول) 2021، كمحبوب وسائل إعلام اليمين الأميركي، ذلك أنه رئيس دولة يندد بسلطة الملياردير الأميركي المحسن جورج سوروس، ويروج سياسات مناهضة للهجرة، ويناصر القيم التقليدية.
والجدير بالذكر أن مؤتمر العمل السياسي المحافظ، وهو منتدى مهم يعقده اليمين الأميركي، يخطط لعقد اجتماعه السنوي لسنة 2022 في المجر. كذلك أمضى المقدم التلفزيوني لقناة "فوكس نيوز" تاكر كارلسون، الذي يمكن القول إنه الشخصية الإعلامية المحافظة الأكثر نفوذاً في الولايات المتحدة، أسبوعاً في المجر صيف 2021 لإجراء مقابلة مع أوربان، والثناء على حكومته، وإخبار جمهوره أن المجر نموذج ديمقراطي. لقد ردد كارلسون رؤية أوربان عن عالم يمر بأزمة ثقافية عميقة، مع افتراض أن مصير الحضارة الغربية سيكون متزعزعاً. في الحقيقة، يعتبر ذلك الخطر المفهومي هو الغراء الذي يوحد اليمين العابر للحدود.
واستطراداً، عزز أوربان سلطته من خلال التكتيكات التي جاءت قانونية من الناحية الإجرائية، لكنها في جوهرها، قوّضت سيادة القانون. وهكذا، كدّس الحزبيين في المحاكم، وضغط على وسائل الإعلام المستقلة أو أسرها أو أغلقها. وكذلك فإن هجوم أوربان الصريح على الحرية الأكاديمية، بما في ذلك حظر دراسات الجندر وطرد "جامعة أوروبا الوسطى" من المجر، يجد أوجه شبه مع الجهود اليمينية الحالية في الولايات الأميركية التي يسيطر عليها أنصار الحزب الجمهوري، الرامية إلى حظر تدريس النظرية العرقية النقدية، واستهداف الأكاديميين الليبراليين واليساريين.
وفي سياق متصل، فشلت الحواجز المصممة لدرء اللاليبرالية. ومثلاً، يشير عالم السياسة ر. دانييل كيلمان إلى أن الاتحاد الأوروبي، وهو النموذج المفترض للمعايير الديمقراطية الليبرالية، لم يفعل شيئاً جوهرياً لمنع السلطات في المجر وبولندا من إضعاف ديمقراطية البلدين بشكل متزايد. في الواقع، ينشئ "البرلمان الأوروبي" مجموعة حزبية على مستوى مناطقي، تؤدي فعلياً إلى حماية الأحزاب المناهضة للاتحاد الأوروبي من العقوبات، كحزب "فيدس" الهنغاري وحزب "القانون والعدالة" البولندي. في المقابل، يسمح سوق العمل الأوروبي المشترك للمعارضين السياسيين والمواطنين الساخطين بالمغادرة، إذ يستطيعون ببساطة الانتقال إلى بلدان أوروبية أخرى، ما يضعف المعركة ضد السياسات غير الليبرالية في الداخل.
واستكمالاً، لا تختلف تلك الديناميكيات كثيراً عن تلك الموجودة في النظام الفيدرالي الأميركي، إذ تحمي المحاكم الممارسات المناهضة للديمقراطية كالتلاعب المتطرف في حدود الدوائر الانتخابية والقمع الموجه انتقائياً للناخبين، وكذلك سنّت بعض الولايات التي يسيطر عليها الجمهوريون قوانين مصممة من أجل إتاحة تدخل الهيئات التشريعية في الإشراف على الانتخابات المحلية بذريعة منع التزوير. وتجدر الإشارة إلى أن عدداً كبيراً من أولئك المسؤولين الجمهوريين الذين انزعجوا من التحول الاستبدادي الحاد في الحزب، لم يفعلوا سوى القليل أو لم يفعلوا شيئاً على الإطلاق، رداً على ذلك، خوفاً من التداعيات السياسية الشخصية أو الإضرار بالآفاق الانتخابية للحزب.
وفي ذلك المجال، يعتبر رفع المثقفين اليمينيين الأميركيين ومقدمي البرامج التلفزيونية من شأن أوربان، مثلاً بارزاً عن كيفية مساهمة التشابكات الكثيفة التي تشكل جوهر النظام الليبرالي، في تسهيل صعود الحركات المناهضة للديمقراطية. يأتي مثل آخر من عضوية إدواردو بولسونارو، أحد أبناء الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو، في مجموعة قومية أسسها الشعبوي الرجعي الأميركي ستيف بانون. كذلك تسهم "الأموال المظلمة" [الإنفاق السياسي للمنظمات غير الربحية التي لا يطلب منها الإفصاح عن الجهات المانحة لها] القادمة من الولايات المتحدة، في تمويل الأحزاب والحركات غير الليبرالية في الخارج. في الوقت نفسه، يعمد الكليبتوقراطيون إلى غسل الأموال واستخدامها في الحسابات المصرفية والعقارات وحتى في السياسة الأميركية. ويلاحظ أن ذلك يؤجج الشعبوية في الولايات المتحدة من خلال تأثيره المفسد. وبطريقة موازية، يرى عديد من الأوليغارشيين والكليبتوقراطيين أن أسلوب الحكم الوراثي للشعبويين الرجعيين كترمب يعزز ممصلحةهم، لذا، فإنهم سعداء بدعمهم بأي طريقة ممكنة. في المقابل، يسهم التمويل الروسي، الذي يجري تحويله غالباً من خلال أوليغارشيات تابعة للكرملين، في دعم المنظمات اليمينية والمحافظة ثقافياً في أوروبا وأميركا الشمالية بهدف تقويض النظام الليبرالي.
ليس هناك شك في أن رئيساً أميركياً يتماشى بشكل أكثر صراحة وجوهرية مع أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط والليبرالية في الخارج، سيخاطر بمزيد من تسييس العلاقات الخارجية الأميركية، خصوصاً في ما يتعلق بالأجندة الواسعة التي تشمل ضفتي الأطلسي، التي لا تزال تحظى بدعم من أصحاب النفوذ الجمهوريين. ولكن، على غرار الحال مع عدد من المعضلات التي خلقتها اللاليبرالية المتزايدة، تعني محاولة تجنب التسييس والقطبية السياسية، من الناحية العملية، منح ميزة كبيرة للقوى غير الليبرالية.
ومع اتساع الشقوق في عدد من الديمقراطيات الليبرالية في الظاهر، فإن السياسة الخارجية للولايات المتحدة التي تهدف إلى الدفاع عن الديمقراطية الليبرالية ستتطلب من إدارة بايدن، أو أي إدارة ديمقراطية مستقبلية، أن تنحاز إلى جهة معينة في السياسات المحلية التي تنتهجها الدول الحليفة والديمقراطية وشبه الديمقراطية. وحينما جربت إدارة أوباما ذلك النهج، جاءت جهودها عشوائية وغير فاعلة. وفي المقابل، امتنعت إدارة بايدن بشكل ملحوظ، علناً في الأقل، عن الاستفادة من الالتزامات الأمنية التي أعطيت لبولندا في عهد ترمب من أجل الضغط على حزب "القانون والعدالة" الحاكم بشأن التراجع الديمقراطي في البلاد.
من ناحية أخرى، أيّدت إدارة ترمب علناً الحكومات اليمينية غير الليبرالية في المجر وبولندا، ومن المحتمل أن جهود ترمب لدعم أندريه دودا في الانتخابات الرئاسية البولندية عام 2020، قد ساعدته في تحقيق فوز على عمدة وارسو، رفال ترزاسكوفسكي الأكثر ليبرالية. وبطريقة موازية، لم تمارس إدارة ترمب ولا السفير الذي عينه ترمب في المجر أي ضغوط على أوربان كي يتراجع عن قراره في 2018 بطرد "جامعة أوروبا الوسطى" التي تأسست بأموال من جورج سوروس، على الرغم من أن الجامعة تمثل أكبر استثمار أميركي منفرد في مجال التعليم العالي في أوروبا بعد "الحرب الباردة".
أصداء التاريخ
بالنسبة إلى كثيرين، تنذر تلك اللحظة غير الاعتيادية في النظام الدولي بقدوم حرب باردة جديدة، مدفوعة بتنافس شديد بين بكين وواشنطن. وفي المقابل، يمكن العثور على تشابه تاريخي أفضل، حتى لو إنه ضعيف، في "أزمة العشرين عاماً"، أي تلك الفترة المشحونة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية حينما واجهت الديمقراطيات ضغوطاً متعددة، بما في ذلك "الكساد الكبير"، والمحافظة الرجعية، والاشتراكية الثورية، وتنامي التوترات الدولية.
واستكمالاً، بدت الديمقراطيات الليبرالية آنذاك، بلا دفّة قيادة ومنقسمة داخلياً وغير قادرة بشكل عام على مواجهة التحدي. كذلك ناضلت للتكيف مع عولمة القوى التكنولوجية بما في ذلك وسائل اتصال جماهيري جديدة تمكنت القوى غير الليبرالية من استخدامها ببراعة لمصلحتها. وفي مقلب مغاير، أدت الهجرة الدولية إلى تأجيج النزعة القومية. كذلك، كانت السياسات والأفكار غير الليبرالية في موقع الهجوم عالمياً، ومنتشرة عبر الديمقراطيات القديمة والجديدة على حد سواء. وفي أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، لم تبذل القوى الديمقراطية، فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، جهوداً لعرقلة صعود الفاشية في الخارج أو منع انزلاق الديمقراطيات الجديدة نحو السلطوية المحافظة.
واليوم، تجد الولايات المتحدة نفسها في وضع لا يختلف تماماً [عن تلك الحقبة]. في الحقيقة، أمضى الجمهوريون حملة الانتخابات الرئاسية 2020 في وصف الحزب الديمقراطي بـ"الشيوعي"، وربطوا خصومهم بالصين الرأسمالية الاستبدادية، وتزعم وسائل الإعلام اليمينية أن بكين متورطة في عدد من الشناعات المدانة، بما في ذلك النظرية العرقية النقدية. في منحى مقابل، عمد الديمقراطيون إلى ربط الجمهوريين، خصوصاً ترمب، بالأيديولوجية اليمينية المتطرفة المتمثلة في "القومية البيضاء"، واستدعوا شبح الميليشيات المتطرفة وغيرها من الجماعات المسلحة المحلية. في الواقع، يعاني صانعو السياسة في الولايات المتحدة صعوبة في اتباع سياسة خارجية متماسكة وفعالة تدافع عن النظام الليبرالي، لسبب بسيط قوامه أن الجمهور الأميركي منقسم بشكل أساسي.
والجدير بالذكر أن هذا التشابه التاريخي [بين الحاضر وحقبة العشرينيات من القرن العشرين] يقدم بعض الأسس المحدودة للتفاؤل. وتشير القصة المعروفة إلى أن برنامج الإنفاق الهائل في "العقد الجديد" جعل الديمقراطية الليبرالية جذابة مرة أخرى. كذلك، حول الرئيس فرانكلين روزفلت الولايات المتحدة إلى "ترسانة من الديمقراطية"... [أطلقت تسمية "العقد الجديد" على مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي أعيد فيها التشديد على دولة الرعاية الاجتماعية، وتقديم ضمانات لأوسع الشرائح الاجتماعية، ومكافحة البطالة وغيرها، في أميركا والدول الديمقراطية الغربية. واعتبر ذلك تجديداً في مفهوم "العقد الاجتماعي" في الديمقراطية. انتهت تلك المرحلة تدريجياً، منذ حقبة السبعينيات من القرن العشرين]. كذلك هزمت الولايات المتحدة وحلفاؤها، ألمانيا وإيطاليا واليابان في البر والبحر والجو. وتجدر الإشارة إلى أن تلك الهزيمة الشاملة، فضلاً عن الدعاية الوافرة التي حظيت بها الفظائع المرتكبة على يد قوى "المحور" [تحالف في الحرب العالمية الثانية كان أساسه إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية]، تركت الفاشية موصومة بالعار وفاقدة لمصداقيتها.
ويبدو أن بايدن يفضل هذا التشبيه. في سياسته المحلية، حاول إصدار نسخته الخاصة من "العقد الجديد" من خلال مزيج من مشاريع قوانين الإنفاق الكبيرة، بما في ذلك "خطة الإنقاذ الأميركية،" و"قانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف"، وقانون آخر للبنية التحتية كان عالقاً في التنازع السياسي عند كتابة هذا التقرير. وفي سياسته الخارجية، يريد بايدن بناء تحالف من الديمقراطيات تحت قيادة الولايات المتحدة من أجل مواجهة التحدي المتمثل في تزايد اللاليبرالية، خصوصاً من أجل معارضة الجهود الصينية والروسية الهادفة إلى إعادة بناء النظام الدولي على أسس أكثر استبدادية. وفي ذلك السياق، يأمل البيت الأبيض أن يؤدي اجتماع القادة في منتديات مثل "قمة الديمقراطية" إلى تعزيز تلك المبادرة.
من سيفرض شروطه؟
على الرغم من ذلك، فإن الاحتمالات ليست في مصلحة الإدارة. لا تزال الولايات المتحدة أغنى وأقوى دولة في العالم، لكن الصين تتحدى تأثير واشنطن على النظام الدولي، وستواصل ذلك حتى لو تحول صعودها الدراماتيكي ركوداً واضحاً. في الواقع، تحصد واشنطن تكاليف عقدين من الإخفاقات في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وحري بالذكر أن الولايات المتحدة أنفقت مبالغ طائلة حقاً على تلك التورطات الخارجية الفاشلة، ما أدى في النهاية إلى انهيار الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط والانهيار التام لمشروع بناء الدولة في أفغانستان.
وفي المقابل، يجب أن تكون الجبهة الداخلية أكثر إثارة للقلق بالنسبة إلى الولايات المتحدة. قد يتدبر الحزبان أمرهما ويتجنبان إفشال الديمقراطية الليبرالية الأميركية، وذلك إنجاز ليس بالقليل بالنظر إلى إجراءات الحزب الجمهوري في أعقاب الانتخابات الرئاسية 2020. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال هناك الوطأة الساحقة للقطبية السياسية الشديدة، وتكتيكات الأرض المحروقة التي تعكس تشدداً حزبياً، والجمود التشريعي. واستطراداً، ولدت تلك العلل مجموعة من المشكلات الأخرى، إذ يدرك تماماً حلفاء الولايات المتحدة وخصومها أن أي اتفاق يبرموه مع الولايات المتحدة قد لا يدوم أكثر من فترة الإدارة الحالية. وفي ذلك المجال، لا يستطيع مجلس الشيوخ الأميركي التصديق على المعاهدات في المستقبل المنظور، ما يحد من قدرة واشنطن على محاولة إجراء إصلاحات مهمة في النظام الدولي، بما في ذلك ممارسة القيادة المتماسكة في مسائل كتغير المناخ.
بعد 30 عاماً من القطبية السياسية المتفاقمة والخلل الوظيفي في البلاد، فشلت مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية في إدراك ذلك الواقع. وفي ذلك الإطار، ثمّة من يقر بأن تعزيز الديمقراطية الليبرالية بات الآن أولوية أقل أهمية من منع التراجع الديمقراطي، ولكن، إن هذا النوع من النقاشات السياسية لا يتناول إمكانية أن تعمل الإدارة القادمة على العكس من أي سياسة جديدة، سواء أكانت العواقب أفضل أو أسوأ من عدم سن سياسة جديدة في المقام الأول، أو كيف يمكن تعديل سياسة جديدة بما يجعل التراجع عنها أكثر صعوبة.
بدلاً من المواجهة العلنية لمشكلة الموثوقية تلك، يطرح محللو السياسة الخارجية، بشكل صريح أو ضمني، فكرة أن نهجاً محدداً في إدارة العلاقات الأميركية مع الصين مثلاً، أو التجارة الدولية، سيوفر بطريقة سحرية الأساس لـإجماع جديد من الحزبين، لكن ذلك يضع العربة أمام الحصان [أي إنه يخالف التسلسل المنطقي للحوادث]. إذا تمكن الأميركيون من صياغة فهم مشترك على نطاق واسع للتهديدات الدولية، والتوصل إلى اتفاق حول الغرض من السياسة الخارجية للولايات المتحدة، لن تنشأ أزمة سياسية داخلية خطيرة تتطلب حلاً في المقام الأول.
في الواقع، تكمن مجموعة صعبة من المشكلات داخل هيكل النظام الليبرالي نفسه. ويضاف إلى ذلك أن الترتيب الحالي مملوء بالتوترات، ومشتت للغاية داخلياً، وضعيف جداً بشكل غير متماثل. من أجل الصمود، يجب أن يتغير النظام الليبرالي.
سيحتاج المسؤولون الأميركيون الذين يرغبون بصدق في الدفاع عن النظام الليبرالي إلى اختيار الجانب الذي يقفون معه، محلياً وفي السياسة الخارجية الأميركية. وبذلك، سيطمسون التمييز بين الممارسات الليبرالية وغير الليبرالية. سيحتاجون إلى كسر الأعراف المحلية، على غرار عدم تعديل حجم السلطة القضائية الاتحادية واختصاصها بسبب تصرفاتها الأيديولوجية. كذلك سيحتاجون أيضاً إلى التراجع عن أعراف ما بعد "الحرب الباردة"، كالحد من الانحياز للفصائل السياسية في صفوف الحلفاء الديمقراطيين الرئيسين، علما بأنهم سيحتاجون إلى فعل ذلك مع إدراك واضح بأن تلك الإجراءات يمكن أن تأتي بنتائج عكسية وتوفر خطاباً يعطي تغطية للممارسات غير الليبرالية والمناهضة للديمقراطية في الداخل والخارج.
على الصعيد الاقتصادي، يبدو أن الديمقراطيين والجمهوريين مستعدون للتضحية بقدر من الانفتاح، لكن مع وضع أهداف مختلفة للغاية في عين الاعتبار. لحسن الحظ، معظم الخطوات المطلوبة من أجل الحفاظ على النظام الليبرالي، كالتضييق على تدفق الأموال الأجنبية الكليبتوقراطية إلى الولايات المتحدة، ستوجه ضربات كبيرة للقوى اللاليبرالية الخارجية، حتى لو جرى التفكير فيها باعتبارها سياسات محلية.
في مقلب مُغاير، لا تزال مواجهة التهديدات غير الليبرالية المحلية تشكل ممارسة شائكة. بالطبع، أنتج الدفاع عن الديمقراطية الليبرالية إفراطاً مروعاً في الماضي، بما في ذلك القمع البشع والعنف الشنيع، إذ تبنى المسؤولون الأميركيون سياسات غير ليبرالية بشكل قاطع عبر "الذعر الأحمر" [بمعنى ترويج الخوف من الشيوعية] الذي أعقب الحرب العالمية الأولى، حينما كان شبح البلشفية يلوح في الأفق بشكل كبير. وحاضراً، ضمن محاولة وقف المد اليميني المتطرف المتصاعد، تخاطر الولايات المتحدة بالعودة إلى تلك الأوقات المظلمة. في المقابل، إن البديل عن التقاعس، على غرار فشل الليبرالية الغربية في مقارعة الفاشية في ثلاثينيات القرن العشرين، يظل احتمالاً خطيراً.
وتجدر الإشارة إلى أن التاريخ يعتبر دليلاً غير كامل. لقد هزمت الفاشية، على الأقل لبعض الوقت، في ساحات المعارك في الحرب العالمية الثانية. لو كان هتلر أقل اهتماماً بالغزو العسكري، كان للدول الفاشية أن تكون جزءاً طبيعياً تماماً من المشهد العالمي الحالي. في المقابل، انهار الاتحاد السوفياتي بسبب مزيج من أوجه القصور في الاقتصاد المركزي والضغوط القومية وخيارات السياسة التي اتضح أنها سيئة للغاية.
لا يمكن للولايات المتحدة أن تفكر حقاً في هزيمة منافسيها الاستبداديين الحاليين في حرب شاملة، لأنه يحتمل أن ينتج عن ذلك تبادل نووي كارثي. وتعتبر الصين، أهم منافسيها الاستبداديين، نوعاً مختلفاً تماماً من النظام السياسي بالمقارنة مع كان عليه الاتحاد السوفياتي. في الحقيقة، تعتبر الصين غنية وديناميكية نسبياً، على الرغم من أنها تواجه نصيبها من المشكلات الهيكلية، إلا أنه ليس من الواضح تماماً أن عيوبها أسوأ من عيوب الولايات المتحدة.
باختصار، لا يبدو أن أياً من الطرق التاريخية المؤدية إلى انتصار الليبرالية الأيديولوجي محتمل. واستطراداً، يعني ذلك أن الديمقراطيات الليبرالية بحاجة فعلاً إلى افتراض أنها لن تستعيد مكانتها المتفوقة في النظام الدولي في أي وقت قريب، بالتالي يصبح السؤال المطروح ليس عن إمكانية تغيير النظام الليبرالي، بل من الذي سيحدد شروط ذلك التغيير.
* ألكسندر كولي، مدير "معهد هاريمان" بجامعة كولومبيا وأستاذ في "كلير تاو" في العلوم السياسية في "كلية بارنارد".
** دانييل نيكسون أستاذ في قسم "الشؤون الحكومية"، و"كلية والش للخدمة الخارجية" بجامعة جورجتاون.
فورين آفيرز
يناير (كانون الثاني)/ فبراير (شباط) 2022