في العادة، ترسم الانتخابات النيابية في دول العالم المسار الذي ستكون عليه السلطة، والنهج الذي ستسلكه على مستويات الداخل والخارج. أما في لبنان، فإن الأمور أكثر تعقيداً، إذ تتداخل التركيبة الطائفية للبلاد في ظل وجود سلاح خارج المؤسسات الرسمية. ما أضاف على المشهد تعقيداً فوز تحالف "حزب الله"، في انتخابات عام 2018، إذ أعلن حينها قائد "فيلق القدس"، قاسم سليماني، أن حلفاء إيران فازوا بأكثرية 73 نائباً في البرلمان اللبناني.
ومنذ انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الثاني) 2019، يُعوّل جزء كبير من اللبنانيين على الانتخابات النيابية المقررة في 15 مايو (أيار) 2022، لتغيير المنظومة السياسية الحاكمة التي تتهمها فئات واسعة بأنها تسببت في الانهيار التاريخي الذي وصلت إليه البلاد. وأنتجت تلك الانتفاضة تيارات ومجموعات جديدة تطرح نفسها بديلاً من الأحزاب التقليدية التي تناوب معظمها على الحكم في ظروف مختلفة منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990.
إلا أنه مع اقتراب موعد الانتخابات، لم تستطع تلك المجموعات بلورة تحالفات لخوض الاستحقاق، نتيجة تجاذبات وصراعات فيما بينها، الأمر الذي صعب مهمة اتحادها على خطابات جامعة، إذ إن أولويات تلك المجموعات تتباين بين من يطالب بسيادة لبنان على رأس أولوياته، ومن ضمنها مجموعات لا تعارض التحالف أو التنسيق مع أحزاب تلتقي معها على ما بات يعرف "الخط السيادي"، في حين يغرد جزء آخر من تلك المجموعات بعيداً، ويعتبر أن الأولوية محاربة الفساد وإصلاح النظام الاقتصادي بعيداً من رفع أي مطالب سياسية. وعلى رأس هذا التيار الحزب الشيوعي اللبناني، الذي يلتقي وفق بيانات عديدة له مع "حزب الله" على قاعدة "مقاومة" إسرائيل.
خريطة أولية
تشير التقديرات الأولية إلى أن تيارات المجتمع المدني الناشئة حديثاً ستتموضع انتخابياً، وفق طروحاتها، إذ تحالف أكثر من ثلاثين مجموعة مدنية مع "حزب الوطنيين الأحرار" تحت اسم "المجموعات السيادية". ولا يخفي أعضاؤها وجود مفاوضات للتحالف مع "حزب القوات اللبنانية"، في حين يفاوض "حزب الكتائب" مجموعات وشخصيات سياسية قريبة من المجتمع المدني للتحالف معها.
إلا أن اللافت هو إعلان نائب الأمين العام لـ"حزب الله"، نعيم قاسم، أن حزبه سيتحالف، إضافة إلى الأحزاب التقليدية، مع مجموعات من الحراك المدني من دون تحديد هويتها.
"الشيوعي" و"حزب الله"
وفي شأن التحالفات الانتخابية، يكشف مصدر قيادي في "الحزب الشيوعي اللبناني" عن أنها "لم تُحسم حتى الساعة"، مضيفاً، "هناك مفاوضات مع مجموعات منضوية في ثورة 17 تشرين، والتحالف المثالي الذي يسعى إليه الحزب هو ذلك الشبيه بتحالف انتخابات نقابة المهندسين الذي جمع أوسع مروحة من المجموعات الثورية إلى جانب حزب الكتائب والكتلة الوطنية"، إلا أنه يستبعد انسحاب هذا التحالف على مستوى الانتخابات النيابية.
أما في ما يتعلق بإمكانية التحالف مع "حزب الله"، فيلفت إلى أن "الشيوعيين يلتقون مع الحزب استراتيجياً في قضية مقاومة إسرائيل والتدخل الأميركي في لبنان، إلا أن هناك خلافات في شأن المقاربات الداخلية"، مشيراً إلى أن "بعض المجموعات تزايد لناحية اعتبار (حزب الله) احتلالاً إيرانياً"، معتبراً أنها "تطرح شعار الاحتلال والسيادة لإخفاء دور بعض الأحزاب في الفساد والانهيار الاقتصادي، في حين أن بعض تلك المجموعات وجه مدني لمنظومة الفساد والمصارف".
ضعف وشرذمة
وفي هذا السياق، يؤكد رئيس المكتب السياسي لـ"منتدى الأرز"، محسن مكاري، أن "حالة الضياع والتضعضع تسيطر على مجموعات المجتمع المدني التي تحاول التحضير للانتخابات النيابية المقبلة، بسبب سوء تنظيم صفوفها وعدم قدرتها على تكوين تحالف مستقل وصلب"، كاشفاً عن أن "هناك أحزاباً تقوم بحنكتها وخبرتها باستقطاب أو محاولة التحالف مع بعض مجموعات المجتمع المدني، فتفقدها حيويتها وصدقيتها، بالتالي استقلاليتها".
ويلفت مكاري إلى أنه "يتم الترويج إعلامياً بأن توافقاً بين مجموعات المجتمع المدني على لائحة واحدة سيبصر النور، وهذا الترويج لم تتم ترجمته عملياً وواقعياً"، مستبعداً حصوله لأسباب عدة أهمها الاختلاف على الأولويات الوطنية ولغياب برنامج عمل موحد وجامع.
وفي رأيه، "لا يعول كثيراً على الانتخابات النيابية المقبلة في إمكانية تحقيق تغيير حقيقي وجذري، بسبب تمرس المنظومة وقدرتها على خلق الأجواء الملائمة لفوزها وتأكيد سيطرتها بمواجهة مجموعات مشرذمة لم تتمكن حتى اللحظة من تشكيل قوة وازنة. وهذا ما نعاينه في التباين القائم والظاهر وفي كل أبعاد الحياة السياسية وعناوينها الأساسية من سياسية واقتصادية واجتماعية"، مشدداً على أهمية الاتفاق على أجندة وطنية حقيقية تظهر من خلالها الهوية الوطنية التي تعيد للبنان دوره الإقليمي والدولي ومشروعيته الداخلية".
توحيد عناوين عامة
إلا أن رئيس مجلس قضاء كسروان في "حزب الكتلة الوطنية"، وجدي تابت، يؤكد أن "هناك محاولات حثيثة نقوم بها لتشكيل أوسع جبهة ممكنة لخوض الانتخابات النيابية ضمن لوائح موحدة"، وأن "(الكتلة الوطنية) يستعد للمعركة الانتخابية عبر تجهيز ماكينته الانتخابية وإجراء إحصاءات في المناطق وإعداد مرشحيه وغيرها من الأمور اللوجيستية".
ويشدد تابت على ضرورة "وحدة المعارضة"، الأمر الذي "يوجب ويسهل اتخاذ القرار الصائب"، موضحاً أن "وحدة المعارضة في انتخابات نقابة المهندسين في بيروت كانت علامة فارقة أدت إلى اكتساحها في مواجهة أحزاب السلطة كلها، وعلى نقيض ذلك رأينا ما حصل في انتخابات نقابة المحامين في بيروت". ويضيف أن "المسؤولية الوطنية للأحزاب والمجموعات المنضوية في انتفاضة 17 أكتوبر تجاه شعبها تتمثل في تظهير وحدتها في مواجهة المنظومة الحاكمة".
وفي شأن التوقعات ونتائج الانتخابات، يرى أن "دخول عدد من النواب إلى البرلمان تكون هويتهم لبنان، وليس طائفتهم، ويكونون فعلاً نواباً يمثلون الأمة، ويطمحون إلى إعادة بناء الدولة على أساس خدمة المجتمع، وليس تأمين مصالح زعماء أحزاب الطوائف، سيدعمهم الرأي العام، وسيفرضون الإصلاحات الضرورية".
أما في ما يتعلق بقدرة تلك المجموعات على توحيد برنامجها السياسي ورؤيتها الاقتصادية، يكشف تابت أن "السعي يقتصر على توحيد العناوين العامة في البرامج الانتخابية".
معارضة المنظومة
ويؤكد الأمين العام لـ"جبهة المعارضة اللبنانية"، زياد عبدالصمد، أن "المجموعات المنبثقة من انتفاضة 17 أكتوبر تسعى إلى الانتقال من حالة الاعتراض في الشارع إلى حالة معارضة سياسية حقيقية"، مشيراً إلى أن "هذا الجهد الذي عمل عليه المجتمع خلال السنتين الماضيتين، هو جزء من الاستعدادات للانتخابات النيابية المقبلة".
ويقول عبدالصمد، "عندما نتحدث عن مشروع معارضة سياسية يعني أن المشروع أبعد من الانتخابات، فهو مشروع معارضة للسلطة القائمة على تحالف السلاح مع المافيا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشير إلى أنه "في إطار الجهود القائمة للانتقال من حالة الاعتراض الثوري العفوي إلى المعارضة السياسية التي لديها مشروع بديل، هناك جهد لجمع القوى الاعتراضية كافة، والمعارضة التي ترغب في خوض الانتخابات ضمن لوائح مشتركة في الدوائر"، لافتاً إلى "صعوبة الجهد، لكون الأشخاص قادمين من مواقع مختلفة وثقافات وتجارب سياسية واجتماعية متعددة"، مشدداً على أن "الهدف النهائي هو بلورة مشروع المعارضة البديل في مواجهة السلطة، وتحقيق نتائج إيجابية في الانتخابات".
أما بالنسبة إلى التوقعات المتعلقة بنجاح "جبهة المعارضة" من عدمه، فيقول عبدالصمد، "المؤشرات تؤكد أن مزاج الناس تغير تجاه السلطة التي تتحمل مسؤولية الانهيارات الحاصلة، خصوصاً في السنوات العشر الماضية، وتحديداً منذ اتفاق الدوحة الذي أدى إلى سيطرة (حزب الله) تدريجياً على البلاد إلى حين إتمام التسوية الرئاسية التي أعطت هيمنة مطلقة للحزب مع شريكه في الحكم التيار الوطني الحر".
ويرى عبدالصمد أنه "لتحقيق هذه النتائج يجب أن يكون هناك مشهد سياسي مختلف يبني ثقة عند الموطنين ويحفزهم على المشاركة الفاعلة"، كاشفاً عن أن "أحد التحديات الأساسية هو نجاح المعارضة في تشكيل لوائح موحدة في كل الدوائر، ولكنّ هناك تحدياً لبلورة خطاب سياسي بديل مقنع، واقتراح مرشحين قادرين على بناء الثقة مع الناس". وعلى مستوى القوى المعارضة والتباينات في مواقفها، يشدد عبدالصمد على أن "المواقف السياسية والاقتصادية بدأت تضيق، ما يعني أن المساحة المشتركة زادت، خصوصاً بعد أن اقتنع الجميع بأن الموضوع السيادي هو الأولوية".
السيادة أولاً
بدوره، يشير رئيس "جبهة السيادة اللبنانية"، بهجت سلامة، إلى أن "لبنان دخل بشكل رسمي مرحلة الانتخابات النيابية، متخطياً حاجز الأزمات والمصائب التي يعانيها على الصعد كلها"، مؤكداً أن "الشعب اللبناني المنتفض يعول على هذا الاستحقاق لتحرير البلاد من الاحتلال الفارسي، الذي بات متغلغلاً في مؤسسات الدولة وإداراتها".
ويلفت إلى أن "جبهة السيادة اللبنانية" تعتبر أن "الانتخابات النيابية محطة، وليست الوسيلة الوحيدة للتغيير". ويقول، "نريد أن ندعم جميع الرفاق السياديين على قاعدتي الاحترام والسيادة، وليس على قاعدة المرحلة الانتخابية"، لافتاً إلى أن "(حزب الله) الذي يشكل ذراع الاحتلال الإيرانية، قادر على الالتفاف على نتائج الانتخابات، بالتالي الهدف الأول إثبات الوجود والعمل لدعم كتل نيابية مقاومة للاحتلال".
وفي معرض رده على بعض تيارات المجتمع المدني التي تغلب طروحات الفساد على سيادة البلاد، يؤكد سلامة أن "استئصال الاحتلال سيؤدي حكماً إلى إصلاح اقتصادي، لأن منظومة الفساد محمية من منظومة الاحتلال"، داعياً "مكونات المجتمع المدني إلى الاتحاد في لوائح انتخابية موحدة على قاعدة السيادة لأن شرذمة اللوائح تربح المنظومة أو التقليديين الفاسدين أو العملاء". ويشير إلى أن "بعض المجموعات التي تحاول تحييد الأولوية السيادية ليست سوى مجموعات عميلة للسلطة بوجه مدني".