منذ 2 يناير (كانون الثاني) تصدّرت التطورات في كازاخستان الأخبار الدولية، وتُوبعت عن كثب.
ولا يبدو من قبيل المصادفة أن تتزامن الاحتجاجات مع الذكرى الثلاثين لانهيار الاتحاد السوفياتي.
هذه الاحتجاجات ليست الأولى، وربما لن تكون الأخيرة.
عندما انهار الاتحاد السوفياتي، في ديسمبر (كانون الأول) 1991، تطورت الأوضاع بسرعة كبيرة، ما أدّى إلى العجلة في هيكلة ما تم إنشاؤه بعد ذلك، وتُرك البتّ في كثير من المشكلات والشبكات الجديدة التي ستتم إقامتها لفترات لاحقة.
وتنطبق هذه العجلة أو الهيكلة غير المكتملة على الدول التركية التي حصلت على استقلالها في التسعينيات.
وقد أدّى هذا الوضع المتسارع إلى نشوء فجوات في السلطة والبيروقراطية، أتاحت الفرصة لعناصر المافيا المحلية والأوليغارشية التي شوهدت في كل جمهورية تقريباً لتعيش في مناصب معينة، على الرغم من تناقصها.
وفي الفترة الجديدة التي تلت عام 1991، حُرص على الحفاظ على وجود أفراد وجماعات مُوالية لروسيا تنتمي إلى الحزب الشيوعي السوفياتي، الذي يمكن أن نسميه "نيومنكلاتورا" (Nomenklatura) لما بعد الاتحاد السوفياتي. وبالفعل، تولوا امتيازات في المناصب الرئيسة في الفترة الجديدة بعد عام 1991. من يدري، ربما كان هناك ضغط من روسيا في هذا الصدد؟
ولا تزال مضاعفات هذه الكيانات تبرز من حين إلى آخر في تلك الدول، ومنها كازاخستان.
ومن الممكن سرد العديد من العوامل الأخرى وراء هذه الفوضى في البلاد، من عدم المساواة الاقتصادية إلى نفوذ حركة "طالبان"، ومن الطاقة إلى مخاوف الصين.
لكنني، في هذا المقال، أريد أن أسلط الضوء على ثلاثة عناوين رئيسة تبدو الأهم، مع الإشارة إلى البعد الذي يتعلق بكازاخستان وروسيا وتركيا.
ما بعد الاحتجاجات العمالية
1- لماذا نزل شعب كازاخستان إلى الشوارع؟
في عام 2019، أي بعد 30 عاماً من تولي الزعيم المؤسِّس للبلاد نور سلطان نزارباييف مسؤولية البلاد، سلم كرسي الرئاسة إلى قاسم جومرت توكاييف، وترأس هو نفسُه مجلس الأمن، ما يعني أنه كان ما زال يدير دفة الحكم من وراء الستار.
وبالفعل، كانت القرارات لا تزال - حتى الاحتجاجات - خاضعة لموافقة نزارباييف.
بدأت الاحتجاجات بشكل سلمي، واستجاب الرئيس توكاييف لمطالب المحتجين بتفهم، وأقال الحكومة. وتم خفض أسعار الغاز إلى مستواه السابق ليتم تجميد رفع أسعار الطاقة لمدة ستة أشهر.
في اليومين الأولين تقريباً، كانت الاحتجاجات تسير بشكل غير متوقع في إطار ديمقراطي وسلمي. كان الرد من الإرادة السياسية إيجابياً، لأن العامل الرئيس الذي أثار هذه التظاهرات هو عدم المساواة الاقتصادية بين المناطق داخل البلاد، ولكنها تطورت لاحقاً إلى أعمال شغب ونهب. وتم استخدام السلاح من أطراف مجهولة الهوية.
يذكر أن كازاخستان غنية بالطاقة والموارد الطبيعية والمناجم والمعادن، ويبلغ نصيب الفرد من الدخل القومي نحو 11 ألف دولار، وهو أكثر من تركيا. لكن، كانت هناك مشاكل خطيرة في توزيع الدخل.
بدأت الاحتجاجات في غرب كازاخستان، حيث تم تسريح أبناء المنطقة العاملين في قطاع الطاقة، ليتم استبدالهم بوافدين.
لطالما كان غرب كازاخستان المنطقة الأكثر اضطراباً ومعارضة للحكومة في البلاد.
وسبب ذلك هو أنه على الرغم من أن المنطقة تحتوي على جزء كبير من ثروة كازاخستان (النفط والغاز)، فإن أبناءها، على العكس من ذلك، يعانون من ظروف معيشية أقل من المتوسط.
لذا، حاول المتظاهرون التساؤل عن سبب عدم عودة ثروة المنطقة إلى المنطقة.
وتعود المشاكل في الواقع إلى الحقبة السوفياتية، عندما كان إنتاج النفط في أعلى مستوياته.
ومن أجل الاستفادة القصوى من نفط هذه المنطقة، تم التغاضي عن السكان المحليين ليتم استبدالهم بعمال وخبراء من الخارج، ومعظمهم من الروس والقوقازيين.
لذلك، شعر أهالي المنطقة أنهم قد تُركوا فقراء ومهمشين في وطنهم. وهذا ما جعل سكان المنطقة مستائين جداً تجاه الدولة.
من ناحية أخرى، علمت بالتفصيل من كل من سفير كازاخستان لدى تركيا (Abzal Saperbakuly) خلال اتصالي معه، ومن أصدقائي الكازاخيين في المنطقة أن التظاهرات، التي انطلقت في البداية لأسباب اقتصادية وبطريقة سلمية، بدأت تتطور – للأسف - إلى بُعد مختلف، ولم يعد من الممكن اعتبار جميع المتظاهرين حركة عمالية، بل تسللت إليهم جماعات من المافيا والمشاغبين وعصابات من المنظمات الإرهابية على غرار تنظيم "داعش" والجواسيس ذوي الطموحات.
بعد صعوبة السيطرة على الأحداث، طلب الرئيس توكاييف التدخل من منظمة معاهدة الأمن الجماعي.
قبلت المنظمة هذا الطلب، وبدأت القوات العسكرية المكونة من جنود كل من روسيا وأرمينيا وطاجكستان وقيرغيزستان وبيلاروسيا العمل في كازاخستان.
ويمكن القول إن فترة نزارباييف، الذي غادر البلاد مع عائلته، قد انتهت.
نفوذ موسكو
2- تأثير موسكو على كازاخستان:
إن منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) التي دعاها رئيس كازاخستان للسيطرة على الأحداث، تخضع بالكامل لسيطرة موسكو.
نحن نعلم أنه بفضل هذه المنظمة التي يهيمن عليها الكرملين، اتخذت روسيا خطوات في السنوات الماضية لتعيد إلى حضنها البلدان التي كانت ضمن حدودها خلال فترة الاتحاد السوفياتي، والتي أصبحت مستقلة.
مع ذلك، فإن كازاخستان، على وجه التحديد، تحظى بالنسبة إلى موسكو بأهمية كبرى تميزها عن الدول الأخرى.
أولاً، إن ستة ملايين أي ثُلُث سكانها البالغ عددهم نحو 18 مليوناً هم من الروس.
وعلى المستوى الديني، فإن ثلث السكان هم من غير المسلمين. وهذا الوضع يزيد بطبيعة الحال من نفوذ موسكو في البلاد. وتوجد في هذا البلد مواقع روسية لإطلاق الصواريخ (إلى الفضاء أيضاً) ورادار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتلعب روسيا دوراً رئيساً في نقل الطاقة والغاز الطبيعي والنفط الكازاخي إلى الأسواق الدولية، وهناك اتفاقيات لا يمكن تغييرها في هذا الصدد.
من ناحية أخرى، تركت الولايات المتحدة أفغانستان لحركة "طالبان"، وكأنها تركت وراءها قنبلة موقوتة في آسيا الوسطى.
وكانت هذه خطوة استراتيجية أميركية ضد روسيا، إذ إنها وفّرت مناخاً ملائماً لنشوء كيانات شبيهة بـ"طالبان" في البلدان الواقعة تحت تأثير موسكو، ما أدى بموسكو إلى إعداد استراتيجية تجاه هذ الوضع منذ شهور.
من جانب آخر، لم يكن التقارب الاستراتيجي بين كازاخستان وتركيا ممتعاً للكرملين.
بالنظر إلى هذه الأمور كلها، يمكنني القول إن الكرملين سيضطر إلى بذل مزيد من الجهد لحماية كل من أمنه ونطاق نفوذه.
وبما أن موسكو تخشى اندلاع تظاهرات أخرى في المنطقة، فإنها تريد فتح صفحة جديدة في العلاقات مع كازاخستان.
تأثير الحكومة التركية
3- بالنسبة إلى أنقرة، فقد التزمت الصمت في البداية، وظل الرئيس رجب طيب أردوغان ساكتاً طوال اليومين الأولين، تجاه ما يجري ضد صديقه السابق الزعيم المؤسس لكازاخستان الذي كان يناديه بـ"أخي"، إلى أن أرسلت روسيا قواتها.
من ناحية أخرى، ذكّرت وسائل الإعلام التابعة لحكومة "حزب العدالة والتنمية" بـ"الربيع العربي"، وهتفت بـ"الربيع التركي"، وأصبحت كعادتها تتلاعب بعقول جماهيرها بعبارة "سيذهب الطغاة، وسينهارون".
ولكن، بعد دخول الجنود الروس إلى كازاخستان، سرعان ما غيرت تلك الوسائل الإعلامية المقربة من أردوغان لهجتها مرة أخرى، وأزالت عبارة "الربيع التركي".
في الواقع، كان من الممكن إرسال وفد، على الأقل، إلى ذلك البلد الشقيق كازاخستان، منذ اليوم الأول بهدف التهدئة. وكان في إمكان منظمة "اتحاد الجاليات التركية" أن تتدخل في الحدث. ولكن، يبدو أن ليس لها مهمة من هذا النوع.
وهل للحكومة التركية تأثير مباشر في الأحداث؟
فقد طرح العديد من الصحافيين الأجانب عليَّ هذا السؤال، وسأحاول الإجابة عنه هنا.
إنني بعد تأكيد المعلومات عن كازاخستان من الأصدقاء الكازاخيين، هناك والموظفين الذين أعرفهم، وصلت إلى طرف خيط مهم سأحيل التعليق عليه إلى القراء الأعزاء.
فقد شارك ديمتري ديكي، الملقب بـ"ديمتري المتوحش"، أكبر زعماء المافيا في كازاخستان، في التظاهرات مع فريقه الخاص وشارك أحد الفيديوهات.
المثير للاهتمام أن زعيم المافيا هذا كان قد جاء إلى أنقرة قبل الأحداث والتقى في تركيا أكبر زعماء المافيا الذين يدعمون أردوغان وقادة التنظيم الإرهابي التابع لتنظيم "داعش" الذين دعموا أردوغان.
بعد ذلك، التقى وزير الخارجية مولود تشاويش أوغلو، وقد نشرت الصور التي جمعت الوزير، وهذا الرجل على مواقع التواصل الاجتماعي. وحاول تشاويش أوغلو حذفها، إلا أن التسجيلات انتشرت، وهي متاحة الآن للجميع.
وعلينا أن نتساءل: لماذا يجتمع وزير خارجية دولة ما مع زعيم مافيا في بلد آخر، ثم يشارك هذا في تظاهرات عارمة؟
كذلك، وفقًا لآخر الأخبار التي وصلت إليَّ، تم القبض أخيراً على زعيم المافيا هذا خلال التظاهرات.
لسوء الحظ، حاول حزب أردوغان أن يدعم الكيانات من نوع "داعش" في آسيا الوسطى على غرار الدعم الذي قدمه لهياكل من نوع "داعش" في "الربيع العربي". وعندما لم تنجح محاولاته هذه المرة غيّر لهجة خطابه.
من الآن فصاعداً، سيتم فتح صفحة جديدة بالتأكيد في العلاقات بين تركيا وكازاخستان.
أجل، لا يزال الحدث ساخناً، ولا يزال المشهد داخل البلاد ضبابياً.
وفي الأيام المقبلة، سأتطرق إلى تحليل القضايا الثلاث التي ذكرتها أعلاه مرة أخرى، وبمزيد من التفصيل.