لم تكن مهمة تشكيل حكومة عراقية جديدة بالأمر الهين هذه المرة، بعد شق الصدر عصا التوافقية الشيعية، التي تنادي بأخذ الأمور كلها في سلة واحدة عند توزيع المناصب والوزارات والإدارات، كما حدث في الدورات الأربع الماضية، التي تعني عملية استرضاء للأطراف المشاركة في العملية السياسية، التي بدأت منذ غزو العراق واحتلاله عام 2003.
التيار الصدري 75 برلمانياً هم الكتلة الأكبر
فالصدر وتياره الجماهيري الواسع، انتزع فوزاً قيصرياً من خصومه الشيعة الولائيين الذين كونوا إطاراً تنسيقياً للتحالف ضده وضد توجهه بتشكيل حكومة أغلبية وطنية، ترفض التوافق الذي ينادي به الآخرون من الشيعة الفائزين في مقاعد أدنى في الانتخابات تصل إلى النصف بينهم وبين التيار الصدري الحاصل على 75 مقعداً برلمانياً. بينما حصل نده السياسي نوري كامل المالكي رئيس الوزراء السابق على 34 مقعداً، وخسرت الكتلة الشيعية الموالية لإيران حظوتها في الانتخابات السابقة في عام 2018، المزورة على رؤوس الأشهاد باعتراف أغلب السياسيين العراقيين ورؤساء الكتل بمن فيهم نوري كامل نفسه، باعتراف متلفز ، إذ فقدت هذه الكتلة (48) مقعداً، في الانتخابات الحالية، لتدخل في مأزق سياسي حشرها فيه السيد مقتدى الصدر بإعلان حكومة الأغلبية الوطنية، رافضاً حكومة التوافقية التي اعتادوا عليها للملمة ما يسمونه بـ "البيت السياسي الشيعي"، الذي بات يتصدع بفعل مواقف الصدر الصلبة، الذي ينادي بحكومة عراقية لا شرقية ولاغربية، و كتب خطاباً عشية عقد الجلسة الأولى للبرلمان التي عقدت بمظاهر صدرية لافته بلبس الأكفان (اليوم لامكان للطائفية ولامكان للعرقية، بل حكومة أغلبية وطنية يدافع الشيعي فيها عن حقوق الأقليات والسنة والكرد، وسيدافع الكردي عن حقوق الأقليات والسنة والشيعة، وسيدافع السني عن حقوق الأقليات والشيعة والكرد، واليوم لامكان للفساد فستكون الطوائف أجمع مناصرة للإصلاح، واليوم لامكان للميليشيات، فالكل سيدعم الجيش والشرطة والقوات الأمنية، وسيعلو القانون بقضاء عراقي نزيه" .
بهذه الرؤية العامة يسعى الصدر وتياره السياسي تغيير معادلة السلطة، المقبلة في اختيار حكومة تعيد للعراق ثوابته الوطنية كما يعلن، بردم هوة الدولة واللادولة التي أسستها حقبة حكم الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني، اللذين كانا يميلان لاختزان القوة واحتكارها بتأسيس ميليشيات وأجنحة عسكرية بعد فقدان الدولة لجيشها الوطني وجهازها الأمني وشرطتها، منذ عام 2003، وتأسيس قوات دمج يتسيد فيها أفراد الميليشيات، أضعفت مصداقية الحكومات وأضعفت مركزية الدولة في السيطرة على جهازها التنفيذي.
هل يتمكن الصدريون من تأسيس حكومة أغلبية؟
السؤال الذي يطرحه كثيرون، هل يتمكن "التيار الصدر ي" من فرض واقع سياسي مغاير لما درجت عليه عملية سياسية، أنتجها الاحتلال وأطرها بثلاثية المكونات التمثيلية (شيعة، وسنة، وكرد ، زائد تمثيل شكلي للأقليات) المتناقضة في توجهاتها وتطلعاتها، وحشود ذاكرتها المقترنة بالتواريخ المفجعة، تمثلت في حروب طويلة واغتيالات وتفجيرات وتهجير واغتيال الخصوم، لم يسبق لها مثيل في الشرق الأوسط؟ في ظل سيادة الانشطار العرضي للمجتمع الذي فرض إبان حقبة الحصار في التسعينيات بفرض خطوط العرض 32و 36 لحماية المكونين الشيعي في الوسط والجنوب، والكردي في الشمال، ومحاصرة السنة الذين كانوا يملكون قرار الحكم، بدعوى خشية بطش السلطة، واُنزل على الأرض بعد 2003، ليجد له مسرحاً، بل مرتعاً للاقتصاص والقصاص في السلطة الجديد، وتحويل الأدوار بين الضحايا والجلاد، واستبدال السلاح الروسي الذي اعتادت السلطة عليه بعد ثورة يوليو (تموز) 1958، حين غيرت سلاحها الملكي البريطاني، ليغير بعد 2003 بسلاح أميركي أكثر كثافة عند الإطلاق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يأتي الصدر ليقول كلا لنوقف هذه اللعبة المؤذية ونؤسس حكومة أغلبية وطنية، ترفض هيمنة الفاسدين من أي الجهات هم، ونحاكم سارقي أموال الدولة ونصفي ملفات الفساد في 45 يوماً، ونفك الميليشيات ومسوغ وجودها، إنها نمط من المقاومة المدججة بالسلاح والذرائع، التي لامبرر أو شرعية لها بعد الخروج الكلي للجيش الأميركي من العراق، ليظل بضعة خبراء يعلمون العراقيين كيفية استخدام الأسلحة وصيانتها.
الإطار التنسيقي يرفض حكومة الأغلبية
شكل هذا التصور والمشروع صدمة لدى طرف واحد هو الشريك الشيعي الموصوف بالإطار التنسيقي، الذي يحتوي ويرعى الميليشيات الولائية التي تتخندق في عمق مصالح عريضة ومتغلغلة في دول إقليمية تمتد من إيران ولبنان وسوريا واليمن، درجت على تفعيلها ورفع شعار المقاومة، التي لا أحد يجابهها لأنها ترفض وجود قوات الاحتلال، التي أعلنت انسحابها، فما عاد لوجودها مسوغ، يأمرها الصدر الأكثر عدداً وقوة، واتباع أن تسلم أسلحتها لمؤسسة الحشد الشعبي تحت إمرة رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة كمرحلة أولى ليعود البلد إلى نظامية القانونية والتقليدية.
من جهتها فإن قوى الإطار التنسيقي تسعى للضغط على الصدر لنيل استحقاقها في الحكومة المقبلة، والأفضل لها تحالف ضمن البيت الشيعي دون إدراكها أن هذا البيت لم يعد موحداً وغير مسوغ لدى الفصيل الأقوى والأكثر أصواتاً في الحكومة المقبلة، وهو التيار الصدري الذي أعلن عن مشروع وطني يحب الطائفية والمكونات.
جلسة البرلمان الأولى بأكفان الصدريين ورمزيتها
في جلسة البرلمان الأولى التي عقدت في التاسع من يناير (كانون الثاني)، فوجئ الشركاء في الدورة البرلمانية الجديدة بمشهد الأكفان التي ارتداها النواب الصدريون وهم يهتفون باسم زعيمهم الذي طلب منهم موقفاً موحداً للدفاع عن فكرة حكومة الأغلبية الوطنية، قبيل ترديد القسم، وفسر ذلك بمنحيين، الأول التزام الصدريين موقفهم من الصمود في وجه مبغضيهم من حلفاء الأمس الذين فشلوا في إقناعهم بوحدة الصف و بكتلة شيعية تمثل دكتاتورية القرار الشيعي لدى التصويت، وبأنه نوع من التخويف المخالف للقواعد الديمقراطية كما قال الكاتب السياسي الكردي كاميران قره داغي، الذي يرى (أن البرلمان ليس مكاناً للموت في سبيل إيصال رسالة، البرلمان مكان لتمثيل الشعب وفقاً لأصول وقواعد متحضرة من أجل مساءلة السلطات ووضع قوانين لمصلحة الناس وحمايتهم من الموت)، وقد أثار ذلك جدلاً واسعاً حول التوجه الجديد للبرلمان الحالي الذي وضعت فيه القوى السياسية جميعها موضع "الرطبة بين سلتين" كما يقول المثل العراقي، فالصدر وأتباعه الموحدون حد لبس الكفن في مواجهة خصومهم، أصحاب الرأي الواحد الذين يقفون عند أغلبيه شبه مريحة، مصرون على تغيير و نزع حكومة التوافق، والسلة الواحدة التي يطالب بها الولائيون الرافضون لحل الميليشيات وإبقاء الوضع على ماهو عليه، كي يستمر نفوذهم ومصالحهم، ويتجنبون المحاكمات المقبلة المرجحة حين يشكل الصدر حكومته التي ستقلب الطاولة على الخصوم وتفتح كثيراً من الملفات، وهي لن تنسى (صولة الفرسان) التي شنتها حكومة المالكي الثانية عليهم في البصرة، واعتقلت حينها المئات من أتباع جيش المهدي والتيار الصدري، وهذه قضية تجلس في الخفاء بعيداً، في موروث الصدريين الذين لايجدون بداً إلا بتغيير معادلة الحكم والحكومة، يستذكرون أنهم من ساندوا المالكي وحزب الدعوة وأعطوهم الدعم الكامل في اختيار الحكومات الثلاث السابقة التي تولاها حزب الدعوة زمن المالكي وحيدر العبادي، نكاية بخصومهم التاريخيين (المجلس الأعلى الإسلامي).
كل المؤشرات التي نقرأها من معطيات جلسة اليوم الأول التي أعلنت عن ما يسميه رئيس السن، الذي يتولى إدارة الجلسة بأنها لاتتوقف إلا باضطراب في مقابلة شهيرة له، وحدث ذلك الاضطراب، لكن الصدريين فاجأوا خصومهم باستمرار الجلسة وانتخاب رئيس البرلمان، كما تقره المفوضية المستقلة، ليحبطوا أول محاولة إفشال للبرلمان الجديد، باستمرار وقائعه النظامية والشرعية، وتخطي أساليب المراوغة التي تكشفت أمام الشعب.