في افتتاح الدورة الخامسة لمجلس النواب العراقي في 9 يناير (كانون الثاني) الحالي، التي تأخرت من الصباح حتى العصر، بطلب من "الإطار التنسيقي" للقوى الشيعية، بغية فسح المجال أمام الكتل البرلمانية لإجراء مزيد من المشاورات، وكأن هذه الساعات القليلة كافية لتغيير مجمل الحوارات والنقاشات التي جرت في الأشهر الثلاثة الماضية.
ويبدو أن تلك الساعات التي شهدتها أروقة البرلمان قبيل الجلسة الافتتاحية، والاجتماعات التي جرت، لم تفض إلى توافق لإنهاء الخلافات المستعصية بين الكتل السياسية بغية تمرير المرشحين لشغل المناصب العليا، وتحديد الكتلة الأكثر عدداً التي سيُعهد إليها تسمية رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة للسنوات الأربع المقبلة.
على أي حال، سرعان ما ترأس الجلسة، العضو الأكبر سناً محمود المشهداني، وطلب من النواب الحاضرين ترديد القسم، ثم فتح باب الترشح لمنصب رئيس البرلمان الجديد ونائبيه. وتجلت الخلافات الحادة بين "كتلة التيار" و"كتلة الإطار"، وتصاعدت المشادات الكلامية في ما بينهم بشأن هوية الكتلة الأكبر التي يحق لها تشكيل الحكومة الجديدة. وعلى إثر ذلك، قرر المشهداني رفع الجلسة لإنهاء حالة الفوضى والاشتباك.
وتعرض محمود المشهداني إلى اعتداء من نواب التيار الصدري، إذ ضربه أحدهم بالعصا على رأسه فأغمي عليه ونُقل إلى المستشفى لتلقي العلاج، حيث زاره أقطاب "الإطار التنسيقي" نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي، وبعد سويعات ظهر المشهداني على شبكة التواصل الاجتماعي، وهو يوضح سبب الهجوم عليه، إذ رفض الخروج عن السياق القانوني في إدارة الجلسة، وأنه الآن بصحة جيدة وسيعود إلى البرلمان. وهناك مَن يشكك بما حدث، ويعده عملاً فاشلاً من "الإطار" الخاسر في تخريب جلسة الافتتاح لمجلس النواب.
والحقيقة، إن أعضاء "الإطار التنسيقي" قدموا إلى المشهداني ورقةً تحمل توقيع 88 نائباً، وبذلك فإنهم يمثلون الكتلة الأكثر عدداً، ما أثار غضب أعضاء الكتلة الصدرية، الذين قدموا بدورهم ورقة تحمل تواقيع 76 نائباً بأسمائهم مباشرةً، وليس بالنيابة عنهم كما في ورقة الإطار التنسيقي، وبذلك فإنهم هم مَن يمثلون الكتلة الأكبر.
ومن المظاهر الصادمة في اليوم الأول أيضاً، قبيل الدخول تحت قبة البرلمان، فإن 73 نائباً صدرياً عقدوا اجتماعاً داخل مجلس النواب، وكانوا يرتدون أكفاناً! ورددوا هتافات ذات طابع طائفي، ثم الهتاف باسم مقتدى وليس باسم العراق. وخارج البرلمان، كانت سيارات وأعلام "سرايا السلام" المسلحة تجوب شوارع بغداد، خصوصاً في مدينة الصدر، في حين أن مقتدى الصدر دعا إلى تغليب الهوية الوطنية، وإنهاء الميليشيات المسلحة. وقبل 24 ساعة من انعقاد جلسة البرلمان، كتب الصدر في تغريدة على "تويتر" استهلها "اليوم لا مكان للطائفية، ولا مكان للعرقية، بل حكومة أغلبية وطنية".
فهل في الأمر تقية أم ماذا؟
وبالنسبة إلى نواب "ائتلاف دولة القانون" بزعامة نوري المالكي، فكان اجتماعهم داخل مبنى البرلمان، برئاسة النائب عطوان العطواني. أما نواب الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، فعقدوا اجتماعهم في فندق الرشيد برئاسة هوشيار زيباري.
وقبل أيام، أعلن تحالف "تقدم" بزعامة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي (37 مقعداً)، وتحالف "عزم" بزعامة خميس الخنجر (14 مقعداً)، الاندماج وتشكيل تحالف لكتلة العرب السُّنة يضم 64 نائباً، بترشيح الحلبوسي لرئاسة البرلمان، على أن يترأس الخنجر التحالف الجديد.
وفي الجلسة الثانية لمجلس النواب العراقي، التي غاب عنها المشهداني وترأسها خالد الدراجي، جرى تصويت سري تم فيه انتخاب الحلبوسي رئيساً للبرلمان بـ 200 صوت، مقابل منافسه المشهداني عن "الإطار التنسيقي"، الذي حصل على 14 صوتاً، فيما أُهمل 14 صوتاً مكرراً. كذلك جرى انتخاب نائبين للرئيس، الأول، حاكم الزاملي عن الكتلة الصدرية، والثاني، شاخوان عبدالله عن الحزب الديمقراطي الكردستاني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلا أن نواب "الإطار التنسيقي" أعلنوا رفضهم لهذه النتائج، وغادروا القاعة غاضبين واصفين الجلسة النيابية بغير القانونية بعد تكليف خالد الدراجي رئاستها، متوعدين باتخاذ الإجراءات اللازمة. وفي اليوم التالي، توجهوا إلى المحكمة الاتحادية للطعن بالجلسة النيابية في يومها الأول. كما أصدروا بياناً جاء فيه "نحمل التيار الصدري المسؤولية الكاملة لكل ما سيحدث من تداعيات على هذا التفرد اللامسؤول في القرار السياسي، واستخدام العنف الذي سيجر البلاد إلى المجهول".
وبحسب الدستور، يتعين على البرلمان اختيار رئيس له بأغلبية 165 صوتاً من مجموع 329 نائباً، ويكون الرئيس عربياً سُنّياً ونائبا الرئيس أحدهما كردي والآخر شيعي، وفق المحاصصة الطائفية والعرقية التي وضع أُسسها المحتل الأميركي منذ عام 2005. بعد ذلك، تتجه رئاسة البرلمان إلى فتح باب الترشح لرئاسة الجمهورية خلال 30 يوماً. ويكلف الرئيس، رئيساً للحكومة، خلال 15 يوماً من تاريخ انتخابه. وأمام رئيس الحكومة الجديد، بدءاً من يوم تكليفه، 30 يوماً لتشكيلها. وكالعادة، تكون المناصب وفق المحاصصة التي صارت عرفاً مؤذياً للهوية الوطنية والتماسك الاجتماعي.
كيفما كان الأمر، فإن الخلافات بين الكتل السياسية، ستعيق وتؤخر تشكيلات المناصب العليا. على سبيل الذكر لا الحصر، إن "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" برئاسة بافل الطالباني مختلفان بشأن تسمية المرشح الكردي لشغل منصب رئيس الجمهورية. وإذا أيّد الحزب الديمقراطي الكردستاني نتائج انتخابات الرئاسة البرلمانية، فإن الإطار التنسيقي لم يعترف بها، وشكك بقانونية الجلسة النيابية الثانية.
كما يصر مقتدى الصدر على إبعاد نوري المالكي من التشكيل الحكومي الجديد، فلا منصب له قط. ويبدو أن الإطار التنسيقي الموالي لإيران، الذي كان مرغماً لقبول هذا المطلب، لا سيما أن كتلته مُنيت بخسارة مريرة في الانتخابات مقارنة مع سابقتها في عام 2018، بل هزيمة جسيمة لبعض زعاماتها مثل هادي العامري وعمار الحكيم وحيدر العبادي، لكنهم في الجلسة الافتتاحية انقلبوا على هذا الموقف.
أما النواب المستقلون، فلم يشتركوا في أي من المناقشات والاجتماعات التي دارت بين الأحزاب وكتلها السياسية، إذ قدموا أنفسهم كقوى معارضة تحت سقف البرلمان، بعدد يناهز 40 نائباً تقريباً. ومع ذلك، يبقى السؤال عن مدى تأثير هذه الأطراف المستقلة تجاه قرارات الكتل الكبيرة. كما أن قدوم بعض هؤلاء النواب المستقلين إلى جلسة البرلمان على عربات "توكتوك"، التي تُعدّ رمزاً لـ "ثوار تشرين" الذين قدموا مئات الضحايا وآلاف الجرحى، فتعرضوا للنقد، وقال الشباب المنتفض، "إنهم لا يمثلوننا".
وكان الدور الإيراني حاضراً في دعم قوى "الإطار التنسيقي" الموالية له، فكلفت، محمد كوثراني، القيادي في "حزب الله" اللبناني، للتوسط بينهم وبين مقتدى الصدر، الذي رفض لقاء كوثراني أصلاً، على الرغم من وصول الأخير إلى منطقة الحنانة، حيث يسكن الصدر في مدينة النجف. وكذلك وجِّه تحذير إلى مسعود البارزاني ومحمد الحلبوسي، بألا يكون من شأن اصطفافهما مع الصدر، أن يؤثر سلباً على الأمن القومي الإيراني.
والأهم من هذا وذاك، هو الشعب العراقي الذي بغالبيته لم يشارك في الانتخابات التشريعية، رفضاً للعملية السياسية التي أوصلت البلاد إلى الحضيض، ودحضاً للطبقة السياسية التي لم تقدم للعراقيين غير مزيد من التأخر والتقهقر، وحكومات اتسمت بالفساد، وميليشيات موالية لإيران قتلت أبناء الوطن، وما تزال، وبرلمان عبر دوراته يمثل مصالح الأحزاب السياسية وارتباطاتها الخارجية، لا مصالح الشعب والوطن. وعليه، فإن الخلافات في تشيكل الحكومة الجديدة من دون الاهتمام بموقف الشعب، ستكون حلقة أخرى في سلسلة، نهايتها الهاوية.