في تطور نوعي، لجأت "لجان المقاومة السودانية" إلى أسلوب جديد في مواجهة السلطات والقوات الأمنية، فبعد أن اتخذت الترتيبات الأمنية بإغلاق جسور رئيسة تربط الخرطوم بأم درمان والخرطوم بحري، وانتشرت القوات الأمنية (المشتركة) على الطرق المؤدية إلى القصر الرئاسي، وحول وسط الخرطوم، أعلن المكتب الميداني لتنسيقيات "لجان المقاومة" في الخرطوم، على نحو مفاجئ، إلغاء تظاهرات كانت مقررة الأربعاء 12 يناير (كانون الأول). ودعا المكتب إلى تسيير تظاهرات، الخميس، تحمل الرقم 15 في مسيرة الحراك الجماهيري المستمر منذ انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، المنادي بحكم مدني خالص من دون مشاركة المكون العسكري.
وحددت لجان المقاومة، في منشور لها على وسائل التواصل، مساء الأربعاء، مسارات تظاهرات الخميس، مشيرة إلى أن "طريق النضال ما زال طويلاً، وسنواصل حراكنا السلمي الفكري حتي الوصول إلى أحلام شهدائنا الأكارم، وستتجه مساراتنا في مليونية 13 يناير صوب القصر الجمهوري".
وأعلن المكتب الميداني، في بيان، أن "الفعل الثوري يتخذ أشكالاً عديدة تجتمع كلها في الهدف النهائي، وهو إسقاط الانقلاب العسكري وتصفية أركانه، ولأننا في حالة حرب مع قوات الانقلاب، والحرب خدعة".
وإذ أعلنت التنسيقيات، "لجموع الشعب السوداني إلغاء مليونية 12 يناير المعلنة"، دعتهم إلى "الخروج إلى الشوارع في مليونية يوم الخميس 13 يناير في جولة أخرى من أجل إسقاط الانقلاب العسكري".
وفي جولة لـ"اندبندنت عربية" وسط الخرطوم، رصدت انتشاراً مكثفاً للقوات الأمنية المشتركة في الشوارع الفرعية والرئيسية المؤدية إلى القصر الجمهوري، ومدخل شارع القصر في اتجاه ميدان أبو جنزير عند تقاطع الفرعي لبنك أم درمان الوطني. وأغلقت السلطات الجسور الرئيسة الرابطة بين المدن الثلاث في العاصمة.
في الأثناء، لوحظ عدم قطع السلطات خدمة الإنترنت والمكالمات الصوتية، مثلما حصل في المرات السابقة.
توجيهات
تزامن ذلك مع إصدار تنسيقيات "لجان المقاومة" في العاصمة حزمة من التوجيهات الجديدة. وقالت التنسيقيات، إن هدف التوجيهات هو "تأمين سلامة الثوار، خصوصاً من هم في الخطوط الأمامية"، معلنة أنها "خصصت مقدمة المواكب للمتظاهرين حاملي الأعلام والرايات مع ضرورة عدم الابتعاد عنهم من أجل حمايتهم في حالة الكر والفر وإفشال الطوق الأمني". وطالبت المتظاهرين بتسهيل "إسعاف المصابين عبر الدرجات النارية ومواتر الركشات والتوك توك (ثلاثية العجلات)".
وتضمنت التوجيهات، بحسب بيان التنسيقيات، "ضرورة الالتزام بالسلمية والقبض على أي فرد يبادر إلى العنف، وعدم الاحتكاك مع القوات النظامية، إضافة إلى الالتزام بمسارات المواكب ومواعيدها المعلنة وتتريس الطرق لحماية الاحتجاجات مع عمليات الكر والفر".
كذلك، شملت التوجيهات عـدم حمل مقتنيات قيمة مثل الـسـاعـات وأجــهــزة الـهـواتـف اللوحية والخواتم والمبالغ النقدية والهواتف، منعاً لـ"تعرض المتظاهرين لعمليات النهب من القوات الانقلابية".
القوى السياسية خارج المشهد
في السياق، يقول اللواء أمين إسماعيل مجذوب، إنه "في ظل الخيارات العدمية والحلول الصفرية نتيجة تمسك كل طرف بمطالبه، تتجه الأزمة إلى مرحلة الصراع الصامت، وربما يعقب ذلك الصراع المسلح".
ويضيف مجذوب، "من الواضح أن كل طرف يسعى بكل قوته وجهده لفرض وجهة نظره، فالمكون العسكري يتمسك بالسلطة ويحاول فرض طريقته في إدارة الدولة، باعتباره يحمي الدولة والأمن القومي، وفي المقابل ما زال سقف مطالب الشارع يقف عند اللاءات الثلاث (لا شراكة، لا تفاوض، لا مساومة)، معتبراً الردة مستحيلة، وهو يحاول أيضاً فرض رؤيته في كيفية الحكم وإدارة الفترة الانتقالية عبر حكومة مدنية من دون مشاركة العسكر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتبر مجذوب أن "القوى السياسية تبدو كأنها خارج المشهد، فبعد أن كان الصراع ثلاثياً تحوّل الآن إلى صراع صامت بين الشارع والمكون العسكري، وفي ظل عدم ظهور قيادات أو ممثلين للشارع، سيستمر هذا النوع من الصراع، خصوصاً في ظل مساعي المكون العسكري إلى محو تأثير الشارع".
ويلاحظ مجذوب أن "كل طرف بدأ تنويع وتطوير التكتيكات والاستراتيجيات التي كان يستخدمها في خضم الصراع الصامت بينهما، ففي سعي القوات الأمنية إلى تفادي المواجهة المباشرة مع المواطنين، عمدت إلى إغلاق الجسور بالحاويات الحديدية لمنع التظاهرات من الوصول إلى المناطق الحيوية، وخصوصاً القصر الرئاسي والقيادة العامة للقوات المسلحة، وتعمل على تفريق التجمعات في مهدها بعزل المتظاهرين في مدن العاصمة الثلاث، ومنعها من التجمع في الخرطوم، لتقليل أعداد المشاركين وتسهيل تفريقهم بالقوة".
في المقابل، بحسب مجذوب، "تطورت وسائل المتظاهرين، فأصبحت الحشود الجماهيرية تتجمع في المناطق المجاورة لوسط الخرطوم قبل ساعات طويلة من إغلاق الطرق، وقد لجا الثوار أخيراً إلى تكتيك جديد هو الإعلان عن موعيد التظاهرات ثم إلغائها أو عدم التقيد بالجداول المعلنة، وتقوم القوات الأمنية بترتيب خططها في ضوئها".
ويعتقد مجذوب، أن "تكتيك لجان المقاومة في عدم التقيد بالجداول المعلنة للتظاهرات، يسعى إلى الاستفادة من إغلاق السلطات المتكرر للجسور في طريق التمهيد لإنجاح العصيان المدني، لأن ذلك الإغلاق يمنع الموظفين والعمال من الوصول إلى مؤسساتهم وإلى مناطق الإنتاج الخدمي والصناعي والزراعي، ما يؤدي إلى تعطيل المرافق العامة، وصولاً إلى انهيار الاقتصاد، ثم الدولة".
ويبدي مجذوب مخاوفه من أن "التكتيكات المتبادلة من الطرفين لن تقود إلى الحلول المطلوبة للأزمة المستفحلة، لكنها قد تؤدي إلى نقل الصراع الصامت إلى مرحلة جديدة نحو الصراع المسلح الذي بدأت ملامحه تظهر في بعض البيانات الرسمية بشأن وجود طرف ثالث متهم باستخدام الأسلحة النارية ضد القوات النظامية في أم درمان".
اللجنة الأمنية
وكانت اللجنة الأمنية لولاية الخرطوم أكدت خلال اجتماعها مطلع الأسبوع الماضي، برئاسة عضو مجلس السيادة الانتقالي عبد الباقي عبد القادر الزبير، وبحضور رئيس اللجنة الطيب محمد الشيخ، أن التظاهر حق مكفول بالدستور، مشددة على عدم ملاحقة المتظاهرين السلميين داخل المواقع السكنية والأزقة والمرافق الصحية.
وأسفت اللجنة لما شهدته المسيرات الاحتجاجية من أحداث وانتهاك لحرمات المؤسسات الصحية، وعبّرت عن حرصها على عدم استخدام العنف داخل المستشفيات والمرافق الصحية ضد المتظاهرين السلميين والتزامها بمحاكمة أي نظامي أو مواطن تتم إدانته بعمليات نهب أو سلب أثناء التظاهرات، مناشدة المتظاهرين عدم اللجوء إلى استفزاز القوات النظامية خلال أداء واجباتها الوطنية.
وأعلنت اللجنة الخرطوم عن وجود عناصر قيادية من القوات النظامية داخل المستشفيات لرصد أي تفلتات، مطالبة المواطنين بالتبليغ الفوري عن أي اعتداءات ليتم التعامل المباشر معها.
مبادرة الأمم المتحدة
على صعيد متصل، قالت "لجان المقاومة" في الخرطوم إنها لم تتخذ حتى الآن قراراً بالانضمام إلى مبادرة الأمم المتحدة المطروحة أو المشاركة فيها، ولم تقدم لها الدعوة بشكل رسمي بعد.
وقال عثمان أحمد، المتحدث الرسمي باسم اللجان، إنها اطلعت على المبادرة عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
وكانت الأمم المتحدة قد أطلقت، الأسبوع الماضي، عملية سياسية للحوار بين الأطراف السودانية للوصول إلى اتفاق يهدف إلى حل الأزمة السياسية في البلاد، والمضي قدماً نحو التحول الديمقراطي والسلام.
وقال المبعوث الأممي إلى السودان، فولكر بيرتس، إن الوقت قد حان لإنهاء العنف والدخول في عملية بناءة ستكون شاملة الجميع، وستتم دعوة كافة أصحاب المصلحة الرئيسين من المدنيين والعسكريين، بما في ذلك الحركات المسلحة والأحزاب السياسية والمجتمع المدني والمجموعات النسائية ولجان المقاومة، للاتفاق على مَخرج من الأزمة السياسية الحالية والمضي قدماً نحو الديمقراطية والسلام.
مجلس الأمن الدولي يدعم جهود المبعوث الأممي
وفي السياق ذاته، أعرب الأعضاء الخمسة عشر في مجلس الأمن الدولي خلال اجتماع مغلق، الأربعاء، عن دعمهم الجهود التي يبذلها مبعوث الأمم المتحدة إلى السودان في مسعى لإجراء مفاوضات غير مباشرة بين المكونين المدني والعسكري، بحسب ما أفادت به مصادر دبلوماسية.
وقال دبلوماسي لوكالة الصحافة الفرنسية، طالباً عدم نشر هويته، إن الجلسة "تخللتها أسئلة" من جانب كل من روسيا والصين والأعضاء الأفارقة في المجلس، وهم كينيا والغابون وغانا، "لكن لم تكن هناك معارضة فعلية".
وقال دبلوماسي آخر، مشترطاً بدوره عدم الكشف عن اسمه، إنه خلال الجلسة "كان هناك دعم واسع للمبعوث بيرتس وجهوده".
وأضاف، "مع ذلك، فقد طُرحت أسئلة كثيرة أيضاً حول كيفية جعل العملية شاملة وكيفية ضمان مشاركة جميع الأطراف الرئيسين".
وأوضحت المصادر الدبلوماسية أنه خلال الجلسة أسهب بيرتس في عرض مقاربته للأزمة وسبل حلها، مؤكداً أن "الطرفين نفسيهما يريدان مفاوضات غير مباشرة" للمساعدة في حل الأزمة.
وكان بيرتس قال خلال مؤتمر صحافي في الخرطوم، الاثنين، إنه يريد في مرحلة أولى إجراء محادثات مع كل طرف على حدة للانتقال بعدها إلى مرحلة ثانية تجري خلالها مفاوضات بين الطرفين، سواء مباشرة أو غير مباشرة.
ووفقاً لأحد الدبلوماسيين، فقد تطرق المبعوث الأممي خلال جلسة مجلس الأمن إلى المسألة الحساسة المتمثلة بعودة المرتزقة السودانيين من ليبيا إلى بلدهم وضرورة تأمين إطار لإعادة دمجهم.
وعقد مجلس الأمن اجتماعه بطلب من بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا والنرويج وإيرلندا وألبانيا.
وقبل الاجتماع قالت السفيرة البريطانية لدى الأمم المتحدة، باربرا وودوارد، إنه بالنظر إلى التطورات الأخيرة في السودان فإن "الديمقراطية باتت على المحك".
وأضافت أن "مطالب الشعب السوداني بالديمقراطية، والتي رأيناها بشغف كبير لا يمكن حقاً أن تُدفن".
وشددت السفيرة البريطانية على أن "ما نحتاج إلى القيام به الآن هو تقديم دعمنا الكامل للمحادثات التي تسهلها الأمم المتحدة لكي تجتمع جميع الأطراف وتساعد السودان على العودة إلى طريق الديمقراطية".