مع إصرار المتظاهرين السودانيين للوصول إلى القصر الجمهوري (الرئاسي) في الخرطوم، تصدت أجهزة الأمن السودانية الخميس 13 يناير (كانون الثاني) بعنف مفرط لآلاف المحتجين، الذين خرجوا في مسيرات دعت إليها لجان المقاومة وتجمع المهنيين السودانيين تحت شعار "مليونية 13 يناير"، للمطالبة بحكم مدني وإبعاد العسكر من المشهد السياسي، وذلك باستخدام قنابل الغاز المسيلة للدموع والقنابل الصوتية لتفريقهم والحيلولة دون وصولهم إلى محيط القصر، ما أوقع إصابات في صفوف المتظاهرين وفق شهود عيان من دون تحديد حجمها.
وأكدت الشرطة السودانية مقتل ضابط برتبة عميد، وتعرض عدد من أفراد الشرطة إلى إصابات متفرقة في تظاهرات الخميس. وجاء في بيان رسمي نشره المكتب الصحافي للشرطة السودانية على "فيسبوك"، "يحتسب السيد وزير الداخلية المكلف والسيد مدير عام الشرطة... عند الله تعالى عميد شرطة على بريمة أحمد"، موضحاً أنه قتل أثناء "حماية مواكب المتظاهرين"، ليكون بذلك أول قتيل لقوات الأمن منذ بدء التظاهرات ضد الانقلاب.
كما قال مسعفون في مدينة بحري، إن أحد المتظاهرين قُتل متأثراً بإصابته بطلق ناري في البطن. وذكروا أن عشرات المحتجين يتلقون العلاج من إصابات بأعيرة نارية وجروح أخرى في الخرطوم والمدن المجاورة. وقالت لجنة أطباء السودان المركزية، وهي مجموعة موالية للحركة الاحتجاجية، "جرائم حقيقية ترتكب الآن في حق شعبنا الثائر".
وشهدت المنطقة المحيطة بالقصر الرئاسي اشتباكات عنيفة بين قوات الأمن والمتظاهرين وحالة من الكر والفر، وذلك بمجرد وصول المتظاهرين القادمين من محطة باشدار، نقطة التجمع الرئيسة لمواكب أحياء الخرطوم، منطقة شروني، التي تبعد بضعة كيلومترات من القصر. ورد المتظاهرون بإلقاء الأحجار لصد القوات الأمنية ودفعها للتراجع إلى الوراء.
وسبقت هذه التظاهرة حملة اعتقالات واسعة لعدد من الناشطين والأعضاء البارزين في لجان المقاومة للحد من حركتهم ونشاطهم، بينما فرضت السلطات الأمنية طوقاً أمنياً كثيفاً وتعزيزات عسكرية في منطقة وسط الخرطوم التي توجد فيها المقار الرئيسة للمنشآت الاستراتيجية، فضلاً عن القصر الرئاسي والقيادة العامة للقوات المسلحة.
إسقاط الانقلاب
وتعوّل لجان المقاومة وتجمع المهنيين اللذان يقودان هذا الحراك على هذه التظاهرات في حسم الموقف لصالح مدنية الدولة بعزل العسكريين من المشهد السياسي. فقد أشار بيان لتنسيقيات لجان المقاومة قبل انطلاق تظاهرات الخميس، إلى أن "طريق النضال ما زال طويلاً، وسنواصل حراكنا السلمي الفكري حتى الوصول إلى أحلام ضحايا التحركات، وستتجه مساراتنا في مليونية 13 يناير صوب القصر الجمهوري".
أضاف البيان، أن "الفعل الثوري يتخذ أشكالاً عدة تجتمع كلها في الهدف النهائي، وهو إسقاط الانقلاب العسكري وتصفية أركانه، ولأننا في حالة حرب مع قوات الانقلاب، والحرب خدعة".
وأكد البيان مواصلة جموع الشعب السوداني الخروج إلى الشوارع من أجل إسقاط الانقلاب العسكري، لافتة إلى أن النصر بات قريباً.
طريق شاق
وفي السياق، أوضح الناشط عبد المنعم عثمان، أن "الطريق للحرية شاق ومتعب وثمنه غال، لذلك لا مفر غير مواصلة التظاهرات من أجل العيش في سودان العزة والكرامة، وأن تكون هناك عدالة واستقرار في الحكم، لأن السودانيين جربوا الحكم العسكري 52 عاماً من مجمل 63 عاماً منذ استقلال البلاد، ولم يجلب غير الفساد والدمار والتأخير، لذا لا مناص من النضال لبلوغ الهدف".
وبيّن أن المكون العسكري الحالي يتمسك بالسلطة من أجل أطماع وأجندة سياسية محلية وأخرى إقليمية، فهو ليس حريصاً على الوطن ومكتسباته إطلاقاً، وإلا لما كان نفذ انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) الذي أضر البلد، خصوصاً مع توقف المعونات والمساعدات التي كانت تفيد البلاد وتدعم اقتصادها، فضلاً عن البرامج التي كانت تدعم الأسر من جراء سياسة رفع الدعم التي اتبعتها الحكومة الانتقالية السابقة تنفيذاً لشروط صندوق النقد الدولي.
واقع وقناعة
فيما أوضحت عضو لجنة مقاومة الخرطوم بحري نهاد حسن أن "الانتفاضة أصبحت واقعاً وقناعة لدى أغلب فئات الشعب السوداني، لا سيما الشباب، لأنهم أدركوا المسؤولية وعلموا أن الحكومات العسكرية لن تقود البلاد إلى بر الأمان، بل أن فترات حكمها خصماً للاستقرار والرفاهية، بالتالي لا بد من مواصلة هذا المسار حتى نهايته. لا شك أن بلوغ نهاية النفق يحتاج إلى تضحيات وعزيمة، والاثنان متوافران لدى المتظاهرين الذين يدفعون مهراً غالياً، لكن وقت النصر قد حان".
ولفتت إلى أن "التحركات ستستمر سلمية مهما قوبلت من عنف مفرط من قبل أجهزة الأمن، فهي تدعو للحرية والسلام والعدالة، لذلك لا يوجد مبرر إلى انحرافها، وقد شهد العالم بذلك، وما التظاهرات التي تعم مدن السودان إلا امتداد لانتفاضة ديسمبر، التي اقتلعت نظام الرئيس السابق عمر البشير في أكبر ملحمة وبطولة شهدها السودان على مر تاريخه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تطورات دولية
وتأتي تظاهرات الخميس بعد بضعة أيام من إطلاق الأمم المتحدة محادثات تشمل كل الفصائل السودانية، في محاولة لحل الأزمة الناجمة عن انقلاب البرهان.
وكان أعرب الأعضاء الـ 15 في مجلس الأمن الدولي خلال اجتماع مغلق عقد الأربعاء، عن دعمهم الجهود التي يبذلها مبعوث الأمم المتحدة إلى السودان فولكر بيرثيس، في مسعى إلى إجراء مفاوضات غير مباشرة بين المكونين المدني والعسكري، بحسب ما أفادت مصادر دبلوماسية.
وسبق أن قال بيرثيس خلال مؤتمر صحافي في الخرطوم الاثنين، إنه يريد في مرحلة أولى إجراء محادثات مع كل طرف على حدة للانتقال بعدها إلى مرحلة ثانية، تجرى خلالها مفاوضات بين الطرفين، سواء مباشرة أو غير مباشرة.
وعقد مجلس الأمن اجتماعه بطلب من بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا والنرويج وإيرلندا وألبانيا.
وقبل الاجتماع قالت السفيرة البريطانية لدى الأمم المتحدة باربرا وودورد، إنه بالنظر إلى التطورات الأخيرة في السودان فإن "الديمقراطية باتت الآن على المحك"، وأضافت أن "مطالب الشعب السوداني بالديمقراطية والتي رأيناها بشغف كبير، لا يمكن حقاً أن تدفن".
وشددت السفيرة البريطانية على أن "ما نحتاج إلى القيام به الآن هو تقديم دعمنا الكامل للمحادثات التي تسهلها الأمم المتحدة، لكي تجمع الأطراف كافة وتساعد السودان في العودة لطريق الديمقراطية".
ومنذ انقلاب 25 أكتوبر، تعطل مسار المرحلة الانتقالية التي كان تم الاتفاق عليها بين العسكر والقوى المدنية في أغسطس (آب) 2019، بعد بضعة أشهر من الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير في العام نفسه، عقب احتجاجات شعبية استمرت أربعة أشهر.