تدخل الثورة السودانية مع الاحتقان الذي يشهده الشارع الثوري، مرحلةً بالغة الحساسية في ظل أوضاع يمكن القول إنها أوضاع بدت كما لو أنها جاهزة بقليل من الفوضى للوصول إلى نقطة الانهيار واللا عودة، بعد أن مارس نظام الإسلام السياسي تخريباً منهجياً للبنية الإدارية لجهاز الدولة العام، وقسم السودان إلى دولتين، وأشعل حروباً أهلية راح ضحيتها مئات الآلاف، عل مدى ثلاثين سنة.
احتقان الشارع السياسي وموقفه الحاد من انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أفرز تباعداً نسبياً في مواقف القوى السياسية والثورية الفاعلة، كقوى الحرية والتغيير، وتجمع المهنيين، ولجان المقاومة حيال التعاطي مع الوضع الانقلابي (وإن كان الحد الأدنى من الموقف من الانقلاب حداً واحداً بين تلك القوى).
ما يخشاه المراقبون هو تحقق رغبة البعض في تحويل لجان المقاومة إلى كيانات حزبية نظراً للتجاذبات التي شابت ممارسة قوى الحرية والتغيير الحزبية في إدارة البلاد خلال العامين الماضيين، مما حدا ببعض الأصوات مطالبة لجان المقاومة بتأطير نفسها في إطار سياسي حزبي لكي تتولى مهام العمل السياسي وتزاحم الأحزاب السياسية في ممارسة الإدارة السياسية للبلاد مستقبلاً.
في البدء، لا بد من القول: إن مفهوم لجان المقاومة هو مفهوم أقرب إلى نشاط منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية التي تكون لها مصلحة عامة في المشاركة في قضايا الثورة باعتبارها قضايا شأن عمومي، لكنها تختلف عن الأحزاب في أن لجان المقاومة – مثل منظمات المجتمع المدني تماماً – ليس من غاياتها الوصول إلى الحكم لأن طبيعتها غير الحزبية هي سر التفاف الناس حولها، من ناحية، ولأن لديها مهام أخرى من حيث طبيعتها تلك في صناعة الثورة، ونعني بذلك القدرة على التحشيد وقيادة الشارع وصناعة الكتلة التاريخية الحرجة التي تلعب دوراً مهماً في إسقاط الأنظمة وشل قدرتها على التصرف، إلى جانب دورها الرقابي وممارسة الضغوط بعد نجاح الثورة.
تلك هي قواعد اللعبة التي تحرك لجان المقاومة، بحيث يمكننا القول إن أي تغيير في قواعد اللعبة سيؤدي إلى إفساد اللعبة ذاتها، فيما لو حاولت تلك اللجان المقاومة تحويل مكوناتها إلى أحزاب سياسية! ذلك أن فكرة تحويل لجان المقاومة إلى أحزاب سياسية ستكون نكسة سلبية لتلك اللجان، وستفقدها خاصيتها اللا غرضية في قيادة الثورة، وتلك الخاصية (اللا غرضية) هي المبرر الأكبر لالتفاف الشعب حولها، كما أن تحول لجان المقاومة إلى كيانات حزبية سيجلب إليها أمراض الأحزاب السياسية، من السعي وراء المحاصصات الحزبية، والطمع غير المبرر في المناصب السياسية والمحاباة، والتنافس الذي يعمي عن رؤية السقف العام للمصالح الوطنية، إضافة إلى آفة الأحزاب الكبرى، وهي "الفرح" والزهو الوهمي الذي ينشأ من التفاف جماهير كل حزب حول زعيمه، وما يفرزه ذلك الزهو المزيف من تورم مرضي في جسم تلك الأحزاب يعميها عن رؤية المصير الوطني وسقف المصلحة الوطنية، متى ما ماهت تلك الأحزاب بين سقفها الحزبي المحدود بالسقف الوطني ونظرت إليهما بمنظور واحد، فضلاً عن أن البنية الحزبية السياسية السودانية تعاني عطباً كيانياً دلت عليه الممارسات الفاشلة في العجز عن إدارة سياسية رشيدة للسودان منذ الاستقلال، وكذلك ستلحق بتلك اللجان، حال تحولها إلى أحزاب، أمراض الأيديولوجيا الحزبية، يميناً ويساراً (على الرغم من محاولات التأثير الحزبي على كيانات لجان المقاومة من طرف بعض القوى الحزبية اليسارية كالحزب الشيوعي السوداني الذي تعكس مواقفه في بعض الحالات تعبيرات عدمية لا تدل على قراءة حقيقية للواقع السياسي، ولا تعكس اكتراثاً موضوعياً بموازين القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في الواقع السياسي السوداني، فضلاً عن هذا الحزب بدا في كثير من مواقفه أنه يقرأ من أجندة قديمة في رؤيته السياسية).
إن قوة لجان المقاومة السودانية هي التي صنعت الثورة وحققت عبر تضحيات أعضاء تلك اللجان وجولاتهم السلمية الباسلة منذ عام 2018 ذلك الانتصار العظيم يوم 11 أبريل (نيسان) 2019 بإسقاط الجنرال البشير وعزله. ولا تزال لجان المقاومة هي الأمل الكبير في ضخ روح الحراك الثوري العظيم الذي ظل ممتداً منذ انقلاب 25 أكتوبر الماضي، وإلى يومنا هذا.
يمكن القول أيضاً، إن رجحان ميزان لجان المقاومة، بوصفها لجان مقاومة فقط، هو الكفة الغالبة في ميزان القوى الثورية، التي لا يمكن منافستها لجهة التأثير في الشارع السوداني، فلا قواعد الأحزاب مجتمعةً، ولا قوى الثورة المضادة في وسعها تفعيل المد الثوري وتحشيده على ذلك النحو من الزخم الشديد الذي ظلت تضخه لجان المقاومة في جسد الثورة السودانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فالثورة المضادة باستنادها على القبائل، والطرق الصوفية، والتجمعات المناطقية لا يمكنها أن تحدث اختراقاً أو أثراً في أي تحول ثوري، لأن القوى التقليدية التي تستند عليها ليست بقوى سياسية، فالقبائل والطرق الصوفية والتجمعات المناطقية أطر نسقية أهلية ودينية مغلقة ليس بوسعها إدراك مصالح الوطن بصورة مستقلة، فضلاً عن أنها بطبيعتها تلك، لا تعبر عن أي مصالح سياسية مشتركة، إلى جانب خضوعها الأعمى لزعمائها وعدم قدرتها على التحرك الذاتي المستقل.
ربما تساءل البعض: هل يكفي أن تكون مهام لجان المقاومة فقط محصورةً في تحشيد الحراك الثوري، وصناعة الكتلة التاريخية الحرجة وممارسة الرقابة، والضغط الثورة على القوى السياسية، وهل مجرد تلك الأفعال كافية بذاتها؟
للإجابة عن هذا التساؤل نقول، إن تلك الأعمال السياسية والثورية العظيمة للجان المقاومة ليست تفصيلاً، وليس أمراً هامشياً بلا أثر، بل إن عمل لجان المقاومة هو أعظم فعل حققه الشعب السوداني في تاريخه وأبهر به العالم من خلال ثورته السلمية العظيمة. فصناعة الثورة هي أعظم إنجاز لتلك اللجان، لكن في الوقت نفسه يمكن للجان المقاومة أن تمارس ضغوطاً على الأحزاب، سلباً وإيجاباً، وأن يكون من بينها مرجعيات يعمل عبرها منظرون سياسيون ومتخصصون أكاديميون من بين أعضاء تلك اللجان على تقديم أطروحات لتقييم الوضع السياسي ودعم التوجه السياسي العقلاني الأقرب إلى الرؤى السياسية البصيرة في استصحاب خلفيات مواقفها السياسية لحزمة من التقديرات الاستراتيجية والموضوعية في تقييم الوضع السياسي المصيري الذي يمر به السودان اليوم. فالسياسة كالطبيعة لا تقبل الفراغ، وأي تفريط اليوم في الفرص السياسية التاريخية المتاحة لتدبير ما يمكن تدبيره من أجل الخروج الآمن من المأزق السياسي والمصيري اليوم الذي يواجه السودان، سيكون غير متاح غداً، كما أن السيولة الأمنية وحالة اللا حكومة التي يعيشها السودان اليوم متى ما طال بها الزمن ستنتج عنها كوارث كثيرة لا يمكن أبداً أن نتخيل تداعياتها على المصير الوجودي للسودان.
حسناً فعلت لجان المقاومة بقبول دعوة رئيس البعثة السياسية الأممية في السودان (يونيتامس) فولكر بيرتس، ففي موقفها ذاك، إلى جانب قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين (وهو غير تجمع المهنيين الآخر الذي يعبر عن وجهة نظر الشيوعيين) خطت هذه اللجان خطوة عقلانية مسؤولة، ذلك أنه في تقدير كثير من المراقبين السياسيين، ستكون فرصة المبادرة الأممية التي يقودها فولكر بيرتس لتجميع القوى السياسية السودانية مع دعم الولايات المتحدة والمجتمع الدولي من أجل جلوس تلك القوى في مائدة حوارية لإخراج البلد من المأزق الخطير، هي الفرصة الأخيرة التي يمكن أن تنتشل السودان من مصير عدمي خطير. وكان الناطق باسم البيت الأبيض، نيد برايس، يوم أمس، واضحاً جداً في التزام الولايات المتحدة بضرورة الاصطفاف مع الشعب السوداني من أجل انتقال ديمقراطي سلمي وسلس في السودان.
وأكبر دليل على هذا الحرص الأميركي والأممي، هو مؤتمر أصدقاء السودان الذي سينعقد في العاصمة السعودية الرياض خلال هذا الأسبوع، وسيكون من ضمن المشاركين في هذا المؤتمر كل من ديفيد ساترفيلد المبعوث الأميركي الجديد للقرن الأفريقي، خلفاً للمبعوث السابق جيفري فيلتمان، ومساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية مولي فاي، إلى جانب توجه هذا الوفد الأميركي، رفيع المستوى، بعد المشاركة في مؤتمر أصدقاء السودان بالرياض، إلى الخرطوم للقاء القوى السياسية والدفع قدماً بالمبادرة الأممية من أجل تسهيل العملية المعقدة للانتقال الديمقراطي في السودان.
في تقديرنا، إن فرصة اصطفاف المجتمع الدولي بقيادة أميركا مع القوى السياسية الحية للثورة السودانية هي فرصة تاريخية نادرة لتحقيق اختراق كبير يمكنه أن ينتشل السودان من مصير فوضوي خطير، ذلك أن أعراض الولايات المتحدة عن الوضع السياسي والثوري في سوريا طوال السنوات العشر الماضية كانت تكلفته خراباً عظيماً لسوريا ومقتل مئات الآلاف من الشعب السوري تحت سمع وبصر العالم من دون أن تترك تلك الجرائم الفظيعة ضد الإنسانية التي ارتكبها بشار الأسد في سوريا أثراً على تحول مصير الثورة السورية تحولاً إيجابياً.
ما هو مؤكد، تماماً، ويجب أن تدركه القوى السياسية ولجان المقاومة بصورة دقيقة أن أي ضوء أخضر من المجتمع الدولي للعسكر تحت حجة دعم الاستقرار في السودان (حال تعذر الوصول إلى اتفاق سياسي عاقل يضمن مصلحة الشعب السوداني مع القوى السياسية السودانية) سيكون بمثابة طريق ملكي للخراب، فحين تتمانع المواقف بين قوى مسلحة برأس مزدوج ومتحالف (الجيش والدعم السريع) وبين شعب أعزل سيكون من الصعوبة بمكان تحقيق أي انفراج من غير تدخل قوى خارجية تؤمن بمصلحة التحول الديمقراطي للسودانيين.
ولحسن الحظ، ما زالت الولايات المتحدة مؤمنةً بذلك الحق للشعب السوداني نظراً للثورة العظيمة والملهمة التي حققها هذا الشعب بصموده السلمي الأسطوري الذي ما كان له أن يتحقق لولا صمود لجان المقاومة الثورية السودانية.