بسحر ساحر، قرر ثنائي "حركة أمل" و"حزب الله" العودة عن قرار مقاطعة وزرائهم جلسات مجلس الوزراء. فبعد ثلاثة أشهر من توقف عمل الحكومة، نتيجة ربط وزراء الثنائي مشاركتهم في الجلسات بشرط إبعاد المحقق العدلي القاضي طارق البيطار عن ملف تحقيقات انفجار مرفأ بيروت، فاجأ الثنائي الداخل اللبناني ببيان مشترك أعلن فيه نيابة عن الوزراء العودة إلى طاولة مجلس الوزراء، منعاً لاتهامه بالتعطيل، كما ورد في البيان. ونيابة عن رئيس الحكومة، حدد الثنائي جدول أعمال جلسات مجلس الوزراء وحصرها في ملفي الموازنة وخطة التعافي الاقتصادية.
وعلى الفور، كثُرت التساؤلات في شأن أسباب تراجع "حزب الله"، لا سيما أن "قبع" البيطار لم يحصل. كثيرون ربطوا تراجع الحزب عن مقاطعة الجلسات بالواقع الاجتماعي والضغط الذي برز داخل بيئة "أمل" و"حزب الله" في الأيام القليلة الماضية نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار ومعه الأسعار. فيما اعتبر البعض الآخر أن الرياح الإيجابية لمفاوضات فيينا لفحت لبنان وأصابته تسهيلاً داخل مجلس الوزراء.
فما الذي يمكن أن يكون دفع الحزب إلى تغيير موقفه، وهو الذي أصرّ منذ أيام قليلة على تمسكه بموقفه المشترط حل الأسباب التي أدت إلى مقاطعة وزرائه الجلسات قبل العودة إلى الحكومة، وذلك بعد إعلان رئيسها نجيب ميقاتي من قصر رئاسة الجمهورية في بعبدا عن استعداده لتوجيه دعوة إلى مجلس الوزراء لمناقشة الموازنة.
أسباب "حزب الله"
بما يشبه الشروط الجديدة للعودة إلى طاولة مجلس الوزراء، حصر ثنائي "أمل" و"حزب الله" جدول أعمال الجلسات بموضوعين لا ثالث لهما، الأول إقرار مشروع الموازنة، والثاني البحث في خطة التعافي الاقتصادية، كما ورد في بيانهما المشترك، ما يعني أن الاتفاق يقضي باستبعاد المواضيع السياسية التي ربما تزعج الحزب، ومن بينها الأزمة مع دول الخليج وأسبابها، إضافة إلى استبعاد ملف التعيينات في المراكز الشاغرة ذات الغالبية المسيحية. وهذا مطلب رئيس مجلس النواب نبيه بري، على عكس مسعى رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، الذي يجهد لتمرير التعيينات قبل انتهاء عهد الرئيس ميشال عون وقبل الانتخابات النيابية. وفيما فسّر البعض تحديد "حزب الله" مسبقاً جدول أعمال أي جلسة مقبلة بأنه أراد حفظ ماء الوجه والظهور بمظهر المشترط المتحكم بقرار الحكومة، تجنباً للظهور بموقف المتراجع، مؤكداً مرة جديدة أن القرار له وليس لرئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة. وبذلك أسقط مبدأ استقلالية الوزراء الذي تغنّى به ميقاتي منذ تشكيل حكومته.
وتؤكد مصادر مقربة من "حزب الله" أن الهدف الأساسي من العودة إلى طاولة مجلس الوزراء هو تسهيل عمل الحكومة قبل إجراء الانتخابات النيابية في مايو (أيار) المقبل، مع الحفاظ على الاستقرار ومنع الانهيار، إضافة إلى إبعاد تهمة التعطيل التي التصقت به، لا سيما بعدما برزت أصوات داخل بيئته تحمّله مسؤولية الوضع المعيشي المتردي الذي وصل إليه الناس في المناطق كلها.
وكشفت مصادر لـ"اندبندنت عربية" أن لقاءً جمع ميقاتي بالمعاون السياسي للأمين العام لـ"حزب الله" حسين الخليل، أبلغه فيه بمخاطر استمرار تعطيل الحكومة، لا سيما بعد رسائل تحذيرية تلقّاها ميقاتي من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بعدم إمكانية الاستمرار بأي مفاوضات مع الحكومة اللبنانية ورفض البنك الدولي صرف أي مبلغ في غياب مشروع الموازنة لعام 2022.
وتكشف المصادر أن عنصراً إضافياً دفع الحزب إلى اتخاذ هذا الموقف، وهو أن استياء رئيس الجمهورية من تعطيل الحكومة صار جدياً وبدأ يهدد العلاقة بينه والحزب، كما أن ميقاتي أبلغ عون بأن إبعاد كأس الاستقالة لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، لا سيما إذا ما بقيت حكومته مكبّلة وعاجزة، فيما وضع البلد ذاهب نحو القعر.
وتوضح المصادر أن اتفاقاً حصل بين ميقاتي وبري نص على ضرورة التدخل لوقف التدهور الدراماتيكي الذي شهدته الليرة اللبنانية في الأيام الماضية. وربط بري عودة الوزراء إلى الحكومة بمطلب معالجة الارتفاع الجنوني للدولار الذي تخطى 33 ألف ليرة. وفي هذا السياق، يأتي الاجتماع الذي عقد بين ميقاتي وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ووزير المال يوسف خليل، الذي اتخذ على أثره سلامة قراراً بمد المصارف اللبنانية بمبالغ إضافية من الدولار، ما أدى إلى تراجع الدولار بشكل مفاجئ مثلما ارتفع بشكل مفاجئ.
وقالت المصادر إن ميقاتي تبلّغ، صباح السبت 15 يناير (كانون الثاني)، في اتصال هاتفي تلقّاه من المعاون السياسي للأمين العام لـ"حزب الله" بقرار الحزب العودة إلى المشاركة في جلسات مجلس الوزراء، وبأن بياناً مشتركاً سيصدر عن الحزب والحركة في هذا الخصوص. وانتظر ميقاتي صدور البيان قبل إصدار بيانه المرحب الذي جدد فيه استعداده للدعوة إلى جلسة فور تسلّمه مشروع الموازنة من وزارة المال.
ما علاقة التطورات الخارجية بعودة الحكومة؟
يتفق أكثر من مصدر مقرب من "حزب الله" أن ما دفعه إلى اتخاذ قرار بالعودة إلى طاولة مجلس الوزراء هو الوضع المعيشي والارتدادات السلبية على الحزب وقاعدته نتيجة تحميله مسؤولية التعطيل، إضافة إلى اضطراره إلى إصلاح العلاقة بعون الذي تسبب تعطيل حليفه للحكومة بانهيار عهده، وربما يؤثّر ذلك في تياره السياسي بالانتخابات النيابية، بالتالي ربما يصيب الأكثرية النيابية التي يمسك "حزب الله" بقرارها في مجلس النواب. لكن المصادر تتحدث أيضاً عن عامل خارجي أسهم في تغيير موقف الحزب، تمثّل في أجواء إيجابية يتم تعميمها عن مفاوضات فيينا غير المباشرة بين الأميركيين والإيرانيين واقتراب التوصل إلى اتفاق نهائي. ويرى البعض أن طهران أرادت إظهار نيات حسنة مقابل التطورات الإيجابية حول طاولة فيينا، فقررت توجيه رسالة من الساحة اللبنانية لجس النبض قبل أن تطورها من تسهيلية إلى عودة غير مشروطة. ففي مقابل التسهيل الشكلي وعودة وزراء الثنائي "أمل" و"حزب الله" إلى طاولة مجلس الوزراء، تريد إيران أن تقابلها واشنطن بخطوات ربما يكون أهمها رفع العقوبات الأميركية المفروضة على النظام. ويُحكى عن تقدم حصل على هذا الصعيد.
وتزامنت هذه التطورات مع إعلان إيران التفاوض مع المملكة العربية السعودية من باب إعادة فتح السفارات بين طهران والرياض، علماً أن المفاوضات الثنائية بين إيران والسعودية لا يمكن أن تشمل الملف اللبناني لرفض المملكة التفاوض مع "حزب الله".
إلى ذلك، وفي السياق ذاته، تربط المصادر البدلوماسية بين موقف الحزب والتطور الحاصل على صعيد الضوء الأخضر الأميركي لاستجرار الكهرباء من الأردن والغاز من مصر، كما ألمحت السفيرة الأميركية دوروثي شيا في اللقاء مع الرئيس ميقاتي، وهو سماح مشروط بنقاط عدة طلبت شيا من الدول الأربع المعنية بالملف تنفيذها، أي لبنان والأردن ومصر وسوريا، قبل حسم مسألة إسقاط العقوبات المدرجة ضمن قانون "قيصر" على أي دولة أو شركة ستعمل على تأمين الغاز عبر سوريا إلى لبنان.
لكن، مقابل هذه التحليلات، تستبعد مصادر سياسية الربط بين العوامل الخارجية وقرار الحزب، لا سيما أن المشهد الخارجي لم يكتمل بعد ومن المبكر الحديث عن نتائج إن على صعيد فيينا أو على صعيد المفاوضات السعودية الإيرانية.
هل تخلّى الحزب عن "قبع البيطار"؟
مع عودة ثنائي "أمل" و"حزب الله" عن قراره مقاطعة جلسات مجلس الوزراء، فرض سؤال نفسه، وهو هل تخلّى الثنائي عن شرط قبع القاضي البيطار أم أن وراء الأمر قطبة مخفية أو تخريجة سرية؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مصادر قصر بعبدا نفت لـ"اندبندنت عربية" وجود صفقة تربط بين عودة وزراء "أمل" و"حزب الله" إلى الحكومة وتطيير القاضي البيطار، موضحة أن العودة إلى مجلس الوزراء صارت ملزمة بعد تفاقم الوضع المعيشي وبعد فشل كل المحاولات للضغط على رئيس الجمهورية في فرض تغيير البيطار، وآخرها الإضراب الفاشل الذي دعت إليه نقابات اتحادات النقل البري التي تدور في فلك "أمل"، والذي اعتبرته مصادر القصر الجمهوري موجهاً ضد العهد.
وجزمت مصادر بعبدا بأن البيطار باقٍ ومستمر في عمله طالما لم يتخذ قرار قضائي بردّه أو بالارتياب المشروع، ما يعني أن أي قرار بتغييره، إذا اتخذ، فسيكون ضمن القضاء عملاً بمبدأ فصل السلطات.
في المقابل، أكدت مصادر مقربة من "أمل" و"حزب الله" لـ"اندبندنت عربية" أن العودة إلى مجلس الوزراء لا تعني انتهاء ملف المحقق العدلي في قضية انفجار المرفأ. وجزمت أن هذا الملف لا يزال حاضراً وستتم متابعته حتى النهاية. وبررت المصادر العودة إلى مجلس الوزراء بتسهيل الملفات المعيشية التي تهمّ المواطنين انطلاقاً من حرص الحركة والحزب على إنضاج حلول مطلوبة للواقع الحالي.
وأكدت قيادتا "أمل" و"حزب الله" في بيانهما المشترك، "مواصلة العمل من أجل تصحيح المسار القضائي وتحقيق العدالة والإنصاف ورفض التسييس والاستنساب المغرض". وطالبتا السلطة التنفيذية، أي الحكومة التي أثبتا أنهما المقرران الوحيدان في شأن عملها أو تعطلها، بـ"إزالة الموانع التي تعيق تشكيل لجنة تحقيق برلمانية وفق ما يفرضه الدستور وإبعاد الملف الإنساني عن السياسة والمصالح السياسية". فهل من قطبة مخفية؟
تخريجة البيطار
يعتبر "حزب الله" و"أمل" والمدافعون معهم عن "قبع" القاضي البيطار وإبعاده عن تحقيقات المرفأ، أن كف يده وتعطيل عمله ومنعه من إصدار القرار الظني قد تم بمجرّد تعطيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز التي يجب أن تنظر في دعوى مخاصمة الدولة المقدمة من الوزير السابق يوسف فنيانوس ضد البيطار.
وبسبب فقدان النصاب داخل هيئة التمييز، كونها تحتاج إلى 6 أعضاء لتلتئم، بعد إحالة القاضي روكز رزق إلى التقاعد، تعطل عملها وباتت غير موجودة، علماً أن عودة اجتماعات الهيئة العامة تحتاج إلى تشكيلات قضائية جديدة. وهذه بدورها تحتاج إلى توافق سياسي فُقد في بداية العهد، فكيف بالحريّ في نهايته وفي ظل التباينات الحاصلة داخل الفريق الواحد وبين الحلفاء.
إذاً، يراهن "حزب الله" على هذه التخريجة، فضلاً عن سيناريو مستمر من دعاوى الرد والارتياب بحق البيطار التي لم تتوقف.
في المقابل، يتحدث المتخصص القانوني والدستوري سعيد مالك عن اجتهاد في القانون يقول عكس ذلك. وبحسب مالك، فإن المادة 749 من قانون أصول المحاكمات المدنية تنص على أن تقديم دعوى المخاصمة لا يؤدي إلى رفع يد المحقق العدلي، إنما رفع يده لا يتم إلا بنتيجة قرار صادر عن الهيئة العامة. وهذا الأمر لم يحصل. بالتالي، لا تأثير لتعطيل الهيئة العامة التمييزية في عمل البيطار طالما لم تكُن قد أخذت قراراً به. أما وقف عمل البيطار، فيمكن أن يستمر كما هو حاصل الآن عبر دعاوى الرد المقدمة أمام الغرفة الأولى في محكمة التمييز.
وكشفت مصادر سياسية لـ"اندبندنت عربية" أن "حزب الله" لا يزال يسعى للوصول إلى إطاحة المحقق العدلي. وهو كما ذكر في البيان المشترك مع "أمل"، لا يزال ينتظر تشكيل لجنة برلمانية تحيل الملف إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، ما يعني أن المطلوب تعاون رئيس الجمهورية و"التيار الوطني الحر" عبر الموافقة على حضور الجلسة النيابية التي سيُطرح فيها هذا الموضوع والتصويت عليه بالموافقة. فهل ثمن عودة وزراء "حزب الله" و"أمل" إلى الحكومة سيكون مشاركة نواب "التيار الوطني الحر" في "قبع" البيطار من خلال المؤسسة التشريعية؟