ما إن انتهت المباحثات بين وفود روسيا والولايات المتحدة، وكذلك مع ممثلي "الناتو" ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي في كل من جنيف وبروكسل وفيينا من دون نتيجة تُذكر خلال الأيام القليلة الماضية، حتى عادت المصادر الرسمية في كل من موسكو وواشنطن إلى تبادل الاتهامات المبطنة بمختلف التهديدات التي ثمّة من يقول إنها تعيد إلى الأذهان أجواء أزمة الكاريبي وخليج الخنازير في مطلع ستينيات القرن الماضي. وفيما تداولت المصادر الرسمية والإعلامية في موسكو ما صدر من تصريحات عن ديميتري بيسكوف، الناطق الرسمي باسم الكرملين، حول سيناريوهات العمل في الفترة القريبة المقبلة، نقلت وسائل الإعلام الأميركية والبريطانية ما أعلنته الدوائر الرسمية الأميركية من تصريحات حول ما يمكن أن يرد به الغرب في حال احتمالات "غزو أوكرانيا"، على حد توقعات الكثير من المصادر الغربية.
على وقع هذا الجدل تتعالى التحذيرات من مغبة احتمالات المواجهة العسكرية، في الوقت الذي تبدو فيه موسكو أكثر إصراراً عن ذي قبل على عدم التراجع عما طرحته من مطالب أمنية، قال بيسكوف، "إن موسكو تطرحها بأكثر الطرق تحديداً، وتنظر في سيناريوهات مختلفة للعمل اللاحق، وهي أقل عدداً مقارنة بالولايات المتحدة".
وفي هذا الصدد نقلت وكالة أنباء "تاس" الرسمية عن بيسكوف ما قاله حول "إن روسيا تفكر في كيفية ضمان أمنها". وفي ما يبدو أنه أتى رداً على ما قالته فيكتوريا نولاند نائبة وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية والمسؤولة الأولى عن ملف العلاقات مع روسيا وبلدان المنطقة، في حديثها إلى صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية حول أنه يوجد لدى واشنطن 18 سيناريو للعمل في الفترة القريبة المقبلة، أشار بيسكوف في حديثه إلى شبكة "سي أن أن" الأميركية إلى أن بلاده تفكر أيضاً في سيناريوهات مختلفة، وقال إنه يعتقد أن يكون عددها في الواقع أقل بكثير، لأن الموضوع محدد جداً بالنسبة لروسيا.
الوجود العسكري قرب أوكرانيا
وأضاف الناطق الرسمي باسم الكرملين، "لم تفتقر روسيا أبداً إلى الإرادة السياسية فيما يتعلق بمواصلة المفاوضات مع الولايات المتحدة، لكن لا يمكن لحلف "الناتو" أن يُملي على روسيا كيف وأين تحرك قواتها العسكرية على أراضيها"، مؤكداً "أن موسكو ترى من الضروري الحفاظ على وجودها العسكري قرب حدود أوكرانيا، في ظل تكثيف الناتو أنشطته المعادية في هذا البلد". ولمزيد من توضيح مبررات ما تتخذه روسيا من خطوات قال بيسكوف، "هناك قوات روسية في أراضي روسيا قرب حدود أوكرانيا، ونرى من الضروري أن تبقى هناك في ظل الأجواء المتوترة والمُعادية جداً التي تسببت فيها تدريبات مختلفة لحلف "الناتو" وتحليق مقاتلات وطائرات تجسس تابعة له واقتراب بناه التحتية من حدودنا". وإذ مضى ليقول، "إن روسيا لا ترى في "الناتو" حلفاً دفاعياً مخصصاً لرعاية السلام والاستقرار والازدهار، بل "أداة مواجهة تمتد يوماً بعد يوم نحو حدودنا، وأنها لمست الكثير من المعطيات لتمدد البنى التحتية العسكرية لـ"الناتو" إلى أراضي أوكرانيا وتدريبه العسكريين الأوكرانيين وإمداده لهم بأسلحة دفاعية وهجومية، دفعها إلى أن تحدد ما وصفه بـ"الخط الأحمر"، بعد أن وصلت إلى وضع لم يعد بوسعها السكوت عنه"، على حد تعبيره.
وعاد الناطق الرسمي باسم الكرملين إلى التأكيد أن توسع "الناتو" يشكل "خطراً حقيقياً على الأمن والاستقرار في أوروبا"، بحسب تصريحات الرئيس فلاديمير بوتين، مؤكداً عدم صحة ما يتردد من تصريحات وصفها بـ"المزاعم" حول "وجود عسكريين روس في منطقة دونباس، جنوب شرقي أوكرانيا، وتخطيط موسكو لغزو هذا البلد المجاور"، مؤكداً أن بلاده لا تهدد أحداً، فيما وصف مثل هذا الأمر بـ "الجنون"، مشدداً على "استعداد روسيا للرد في حال استمرار توسع (الناتو)". وحول احتمالات سحب روسيا لصواريخها وأسلحتها في مقاطعة كالينينغراد على ضفاف بحر البلطيق، أكد بيسكوف أن روسيا لا يمكن أن تتفاوض مع أي كائن كان حول ذلك، نظراً لأن هذه المقاطعة جزء لا يتجزأ من الأراضي الروسية. وفي معرض تعليقه على ما جرى طرحه في الكونغرس الأميركي من مبادرات تتناول فرض عقوبات على كبار المسؤولين الروس، ومنهم الرئيس بوتين في حال "غزو موسكو لأوكرانيا"، أعلن بيسكوف أن مثل هذه الخطوة يمكن أن تؤدي إلى قطع العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة.
وقد جاءت هذه التصريحات في وقت مواكب لما نشرته عدد من الصحف والقنوات التلفزيونية الأميركية والبريطانية، ومنها "أن بي سي"، و"نيويورك تايمز"، و"فاينانشيال تايمز"، من مقالات وتصريحات حول سيناريوهات العمل في الفترة المقبلة في حال تجاوز موسكو لما وصفته المصادر الأميركية بالخطوط الحمراء في المناطق المتاخمة لأوكرانيا وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. وراح كثيرون من كبار ممثلي الإدارة الأميركية يؤكدون أن الولايات المتحدة مدعوة للرد على "أي طارئ أو أي تطور"، وأنها على استعداد لذلك. ومن اللافت أن النقطة المحورية التي تدور حولها تصريحات كبار الساسة والمسؤولين من الجانب الأميركي تتركز في احتمالات ما يصفونه بـ"الغزو الروسي المرتقب" للأراضي الأوكرانية، من دون تفسير أو تحديد لمساحات هذه الأراضي الأوكرانية، في الوقت الذي تواصل فيه موسكو تأكيداتها أنها لا تضمر "غزواً لأوكرانيا"، وإن لم تنفِ احتمالات "اتخاذ ما يناسبها من إجراءات لحماية أمنها وأمن مواطنيها "أينما كانوا". وكان الرئيس بوتين سبق وقال في أبريل (نيسان) الماضي: "سيكون رد روسيا سريعاً وغير متكافئ وقاسياً"، في إشارة إلى الإجراءات العسكرية غير التقليدية التي يمكن أن تتخذها موسكو، إذا هدد خصومها "المصالح الأمنية الأساسية للبلاد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"الفرص الضائعة"
ولعل ما يقصده بوتين حول أن بلاده لن تتراجع إلى ما هو أكثر من الحدود التي تقف عندها، استعداداً لتعويض ما فاتها من "الفرص الضائعة"، فقد استطاعت الحيلولة بالأمس القريب دون "ضياع" شبه جزيرة القرم، التي كانت قاب قوسين أو أدنى من وقوعها في شباك الناتو، لو تأخرت روسيا في "الاستجابة" لنتائج "الاستفتاء الشعبي" لسكان شبه الجزيرة حول الانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا في إطار "أحلام العودة إلى أحضان الوطن الأم"، على حد الكثير من الشعارات التي رفعها أبناء القرم. وها هي اليوم تعود لتقول بضرورة التزام أوكرانيا بتنفيذ بنود اتفاقيات مينسك الموقعة في فبراير (شباط) 2015 تحت رعاية رباعي "نورماندي" الذي ضم رؤساء كل من أوكرانيا وفرنسا وروسيا والمستشارة السابقة لألمانيا، وذلك يعني في طياته أنها لن تسمح بأية محاولة لغزو هذه الأراضي واستعادتها بالقوة العسكرية تحت شتى الذرائع والمبررات، وربما الاستفزازات التي قد تكون من تدبير الأطراف التي يهمها "توريط" روسيا في اتخاذ مثل هذا القرار. وتظل روسيا عند رأيها حول أن الحل الوحيد والمناسب للخروج من الأزمة الأوكرانية، هو التزام بتنفيذ ما نصت عليه اتفاقيات مينسك وما تتضمنه من بنود حول الانتخابات والوضعية الخاصة لهذه الأراضي إلى جانب ما يتعلق بالعفو العام وغيرها من الضمانات المدنية.
وتقول الشواهد وبما لا يدع مجالاً للشك، إنه ليس من مصلحة روسيا غزو أوكرانيا، وأن مثل هذا السيناريو لا يمكن إلا أن يتسق تنفيذه مع مصالح من يريد الإيقاع بروسيا في شباك عمليات عسكرية داخل الأراضي الأوكرانية، وهو ما تعي موسكو مغبته وتسعى لتفاديه. وذلك ما أشار إليه "خبراء أميركيون عسكريون بارزون" في تقرير نشرته قناة "أن بي سي" الأميركية قالت فيه، إن "لدى روسيا بحكم قدراتها العسكرية الضخمة، مجموعة متنوعة من الخيارات تشمل تطويق الجيش الأوكراني، ومحاصرة الموانئ الرئيسة في البلاد وفرض الجيش الروسي سيطرته الكاملة على منطقة دونباس". وأضافت القناة في تقريرها، أن "الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نشر أكثر من 100 ألف جندي على الحدود مع أوكرانيا، وبهذه الطريقة هو يضع الغرب أمام 3 خيارات: غزو واسع مع سيطرة كاملة على منطقة دونباس، أو عملية محدودة، أو عدم تحريك القوات وممارسة الضغط على كييف والغرب".
18 سيناريو
وبغضّ النظر عن تفاصيل ما أوردته القناة التلفزيونية من سيناريوهات، وصفتها مصادر السفارة الروسية في واشنطن أنها "معلومات تستهدف التضليل والضغوط الإعلامية"، فقد تبنت الإدارة الأميركية بعضاً منها. وقالت فيكتوريا نولاند، إن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أعدت ما تراه من احتمالات للرد في حالة "الغزو الروسي" لأوكرانيا. وأضافت في مقابلة نشرتها صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية: "مبدئياً لن أتحدث عن هذه السيناريوهات الـ18 المختلفة. سأقول فقط إننا مع الحلفاء على استعداد للتسبب بألم حاد بشكل سريع إذا اتخذت روسيا أي خطوة عدوانية". ومن جانبها، قالت جين بساكي، الناطقة الرسمية باسم البيت الأبيض، إن الولايات المتحدة "حددت" توقيت "الغزو" الروسي لأوكرانيا، وإن موسكو قد تختلق الذريعة الضرورية لمثل هذه الأعمال. وعلى الرغم من أن جيك سوليفان مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي رفض الحديث عن الإجراءات الروسية التي قد تثير ردود فعل أميركية عنيفة، فقد أشار إلى أن "الولايات المتحدة وحلفاءها مستعدون لأي طارئ، ولأي تطور". وقال: "نحن مستعدون للمضي قدماً على المسار الدبلوماسي، والعمل بحسن نية، وبنية حسنة. نحن على استعداد للرد على أعمال العدوان الجديدة. كل ما يمكننا فعله هو الاستعداد. ونحن نستعد".
ومضى ليقول: "إنه وبالطبع، ونظراً للانتشار الواسع النطاق للقوات والمناورات التي يقومون بها، فإن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو غزو روسي لأوكرانيا. ربما لن تسيطر على الدولة بأكملها، لكنها سترسل قوات إلى المناطق التي انفصلت عن أوكرانيا حول لوغانسك ودونيتسك، أو ستصل إلى نهر دنيبر". ونقلت المصادر الأميركية عن مسؤول كبير لم تُشر إلى اسمه أن البنتاغون يدرس "خمسة أو ستة" خيارات لغزو روسي بأحجام مختلفة. ولاحظ الباحثون الذين يتابعون الصور على وسائل التواصل الاجتماعي علامات متعددة على نقل معدات عسكرية روسية غرباً بالسكك الحديدية من سيبيريا.
وفي هذا الصدد تناقل عدد من القنوات التلفزيونية الروسية تحذيرات العديد من المعلقين من مغبة احتمالات إقدام أوكرانيا على مهاجمة جنوب شرقي أوكرانيا، وهو ما قالوا إنه يتفق مع "مزاعم البنتاغون" حول تسلل من وصفوهم بالمخربين الروس المتخصصين في المتفجرات وحرب المدن إلى أوكرانيا وربما بهدف الاستفزاز لتبرير الغزو. وذلك ما نفته المصادر الروسية على مختلف المستويات. وقالت إن روسيا طالما نفت مراراً وتكراراً وجود أي خطط لديها لشن أي "جهوم" على أوكرانيا، ورفضت الاتهامات الغربية والأوكرانية حول مثل هذه الأمور. وكانت وزارة الخارجية الروسية قد حذرت في وقت سابق من أن "التصرفات غير المسؤولة" للغرب في إطار ملف أوكرانيا تثير مخاطر عسكرية كبيرة، قد تصل إلى نشوب نزاع واسع النطاق في أوروبا. وأشارت المصادر الروسية إلى أن موسكو لا تنوي شن أي تحرك عسكري موجه ضد أوكرانيا، مشددة على أن كل الادعاءات التي تتحدث عن ذلك لا أساس لها من الصحة، وحملت "الناتو" المسؤولية عن التوتر في المنطقة، بخاصة في ظل أنشطة الحلف للتوسع شرقاً نحو حدود روسيا.
تهديدات مبطنة
على أن ذلك كله قد يكون خارج إطار المأمول والمعقول في إطار التنبؤات بما يمكن أن تصل إليه الأمور. ولعله أيضاً يمكن أن يُطالع المرء بعضاً من ملامحه فيما نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، التي قالت في عددها الأخير، إن "روسيا توجه تهديدات مبطنة أخطر من غزو أوكرانيا". وفي هذا الصدد اشارت الصحيفة إلى "أن الغرب يدرك بشكل متزايد أن لدى بوتين خيارات أخرى أكثر راديكالية من "مجرد الدفع بقواته ودباباته" إلى أوكرانيا، على حد قول الصحيفة الأميركية. ومضت لتقول إن الصحافيين تحدثوا عن عدة "أسلحة" روسية في وقت واحد، لكن الصواريخ النووية أخافتهم أكثر من غيرهم. ومع ذلك، يبدو أنهم يتجاهلون حقيقة أن بوتين قال مراراً وتكراراً إن روسيا ستنشرهم فقط رداً على الإجراءات الغربية.
ما يمكن أن يخلص إليه متابعو تطورات هذه الأزمة من موسكو، قد يكمن في أن الكرملين يتمسك اليوم بمواقفه وما يطرحه من مطالب، أكثر كثيراً عن ذي قبل. فلم يعد أمامه ما يمكن أن يطرحه كحلول وسط، بما يعيد إلى الأذهان ما كان الاتحاد السوفياتي عليه يوم تراجعت قواته تحت ضغط جحافل القوات الهتلرية في خريف عام 1941، وبلغت مشارف العاصمة موسكو على مسافة 12 كيلومتراً فقط من الكرملين. وهو ما دفعها إلى أن تناشد مواطنيها إلى أن يهبوا للدفاع عن الوطن بندائها التاريخي "أن دولتنا شاسعة المساحات، مترامية الأطراف، لكن لا مجال للانسحاب إلى ما هو أبعد.. فموسكو من ورائنا!".
فهل يعيد التاريخ نفسه؟ ثمة ما يشير إلى أن الأبواب مشرعة أمام شتى الاحتمالات، لكن بعيداً من الخيارين المعهودين... المأساة والملهاة.