تتصدر كل من روسيا وإيران عناوين الأخبار السياسية العالمية في الأيام الراهنة. إيران تخوض معترك التفاوض مع القوى الدولية الموقعة معها على اتفاق 2015 بغية إحيائه وإعادة الالتزام به مقابل رفع بعض العقوبات الأميركية المفروضة عليها، وحصد ضمانات دولية بعدم انسحاب أي إدارة أميركية لاحقاً، فيما يتهم العالم الغربي إيران بالتلكؤ والمماطلة في مسار التفاوض، ويلوح بوجود سقف زمني وإمكانية اتخاذ تدابير مختلفة إن لم تصل الأطراف جميعها إلى تسوية مرضية في غضون أسابيع. روسيا من جهتها تصعد من موقفها تجاه "الناتو" بمناورات عسكرية على حدودها مع أوكرانيا، بينما يؤكد الاتحاد الأوروبي وحليفه الأميركي أن قرار الانضمام لحلف الناتو هو قرار سيادي خاص بأوكرانيا يضمنه لها القانون والعرف الدوليان.
ومع كل هذا الزخم الإعلامي الذي يجده الطرفان، تقررت زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى موسكو في التاسع عشر من يناير (كانون الثاني)، ويربط عديد من المحللين بين ملفات التصعيد آنفة الذكر، بيد أن المرجح أن روسيا تفصل بين تلك الملفات، فهي تحاول أن تتسنّم مكانة القوة العظمى المؤثرة على المستوى الدولي بالإسهام في الدفع بإيران نحو العودة إلى الالتزام بالاتفاق، ولا تبتغي إقحام ملف طهران النووي في قضاياها المتشابكة مع "الناتو" والاتحاد الأوروبي، نظراً لمعارضتها الاستراتيجية امتلاك إيران لقنبلة نووية.
وما يسترعي الانتباه أن تظهر في خضم كل هذا التشابك، أنباء محاولات إيران تفعيل اتفاقية أنبوب الغاز الطبيعي الاسم "خط الصداقة" مع العراق وسوريا، والذي يطمح لاحقاً لأن يصل بالغاز الإيراني إلى أوروبا بالتالي منافسة روسيا على حصصها في ما تعده مجال هيمنتها الاقتصادية.
وكالات أنباء إيرانية أشارت إلى إرسال طهران لوفد إلى سوريا في مهمة دراسة آفاق جديدة للتعاون المشترك، ليتم ربط تلك الأنباء من قبل محللين عدة بمحاولات إيران أحياء مشروع "خط الصداقة" لتصدير الغاز الإيراني إلى أوروبا، مروراً بالعراق، فسوريا، وربما لبنان، غير أن حكومات هذه الدول لم تصرح بأي تأكيدات رسمية، ليتبدّى لنا السؤال، هل تسعى إيران لمنافسة روسيا على أسواق الطاقة الأوروبية؟ وهل طريق إيران مُعبّد لتنفيذ هذا المشروع الطموح على أرض الواقع؟
تصميم إيراني على الوصول إلى أسواق الطاقة الأوروبية
ما زالت أسواق الغاز الطبيعي الأوروبية محط اهتمام صناع القرار السياسي الإيراني منذ بداية الألفية، وقد كانت هنالك أحاديث متفرقة خلال العقد السابق من قبل المتنفذين في السياسية الخارجية الإيرانية حيال "تقديم الغاز البديل" لأوروبا، لا سيما ضمن سياق التفاوض النووي، وفي أعقاب تصاعد التوتر بين روسيا والاتحاد الأوروبي إثر اجتياح روسيا لجزيرة القرم في أوكرانيا عام 2014، لكن كيف لإيران أن تصل إلى تلك الأسواق وأمامها سيل من التحديات سواءً التمويلية أو الجيوسياسية، آخذين بالاعتبار الحاجة الملحة لعقد اتفاقيات طويلة المدى مع دول العبور لإنجاح مثل تلك المشاريع، وتفعيل دبلوماسية الطاقة مع الدول المجاورة جغرافياً أو الدول المهيمنة في الأسواق، وهما الأمران اللذان تفشلان فيهما إيران.
على أية حال، أتت نواة مشروع "خط الصداقة" باتفاق مبدئي عام 2011 وقّع عليه وزراء النفط في كل من إيران وسوريا والعراق، آنذاك، ليكون خريطة طريق لمشروع ضخ الغاز من حقل بارس في جنوب إيران على الخليج العربي، مروراً بالعراق حتى ساحل البحر المتوسط عبر سوريا، ومن ثم إلى أوروبا. ولا يخفى أن تعطل المشروع عائد إلى أسباب متفرقة في بيئة المنطقة السياسية والاستراتيجية منذ ذلك الحين، لا سيما اندلاع التظاهرات في سوريا، ثم دخولها في دوامة الاقتتال المتصاعد، وتشظي القرار السياسي العراقي، والعقوبات الأممية المفروضة على طهران، لتبقى آليات تنفيذ المشروع بعيدة المنال على إيران والقوى الداعمة لها في الإقليم.
إيران تصطدم بالهيمنة الروسية
تهيمن روسيا على أسواق الغاز الطبيعي الأوروبية، وتضخ للقارة 40 في المئة من احتياجاتها عبر خطوط نقل عدة أبرزها، "يامال - أوروبا" الذي يمر عبر بولندا وبيلاروس، وصولاً إلى ألمانيا، والأنانيب المتصلة بشبكة نقل الغاز الأوكرانية، وكذا "نورد ستريم 1" المار عبر بحر البلطيق ليصل إلى الأراضي الألمانية شمالاً، فضلاً عن "ترك ستريم" الذي يمر من تحت مياه البحر الأسود حتى تركيا، فأوروبا، دون إغفال للمشروع الجاري تنفيذه "نورد ستريم 2" الذي أثار جدلاً بين ألمانيا والولايات المتحدة، قبل أن يعود بايدن ويعلن رفع العقوبات الأميركية المرتبطة بهذا الخط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لذا، عندما نتحدث عن مساعٍ حثيثة من قبل إيران لتصل بغازها الطبيعي إلى أوروبا تأتي روسيا في مركز دوائر التحليل، بخاصة أن أنبوب الغاز الإيراني المتوقع أن يمر عبر الأراضي السورية التي تطغى فيها القوة العسكرية الروسية وتعلو فيها إرادة حكومة بوتين السياسية على إرادة أي قوة أخرى، سواء إيرانية أم تركية، أو حتى أميركية إسرائيلية. وإن كانت كميات الغاز الإيراني المتصور تصديرها لأوروبا لا تشكل بديلاً عن الغاز الروسي، ولا تستولي على حصصه، إلا أن مشروعاً كهذا لن يمر مرور الكرام أمام روسيا دون أن تحظى منه اقتصادياً بنصيب الأسد، وكما أنها حاضرة في صراعات الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط من خلال شركات التنقيب عن الغاز في الحالة اللبنانية، ومن خلال التمويل المالي في حالتي قبرص واليونان، فإنها حاضرة بكل ثقلها السياسي والعسكري في سوريا. والحقيقة الجيوسياسية تثبت أن إيران وروسيا لديهما تعارض كبير وتباين في الرؤى الاستراتيجية، ناهيك بتنافسهما في أسواق الطاقة.
امتيازات أسواق الطاقة تنعكس على النفوذ السياسي
تركيا بدورها، وإن أقحمت في بعض الأنباء كشريك محتمل للمشروع الإيراني، إلا أن مثل ذلك القول يعارض المنطق من جهة أن إيران تنقل الغاز الطبيعي إلى تركيا، وبإمكان إيران مفاوضة تركيا على مد ذلك الأنبوب مباشرة إلى أوروبا دون المرور بالأراضي العراقية والسورية لو كان هدفها الأساس مجرد ولوج السوق الأوروبي.
وقد كان هنالك مقترح لإنشاء خط أنابيب يضخ الغاز الإيراني إلى أوروبا عبر تركيا في عام 2010، لكن تم الاستغناء عنه بعد انسحاب الشركة السويسرية المستثمرة فيه استجابة للعقوبات الأميركية المفروضة حينئذٍ على إيران. كما أن تركيا وإيران لديهما مشاكلهما المرتبطة بضعف الأمن الحدودي المفضي إلى تفجيرات متكررة لخط الغاز بينهما، كما حدث في تفجير الأنبوب في مارس (آذار) عام 2020. ويجدر التنويه إلى أن الجانب التركي يحاول تخفيف اعتماده على الغاز الإيراني في المستقبل بجنوحه نحو مزيد من الاستيراد من الغاز الأذربيجاني.
روسيا تعي التباين والاشتباك في العلاقات التركية - الإيرانية، لا سيما في مجال الطاقة، وتحاول توظيف ذلك الصراع لصالحها ضمن تجاذباتها البينية مع كل من الطرفين، لذا تستميل تركيا بمشاريع نقل الغاز الطبيعي عبر أراضيها، فيما تتعاون مع إيران في نطاقات معينة كتوقيع اتفاقيات تفاهم تجارية لإمداد الغاز الإيراني إلى الهند عبر باكستان. تركيا بدورها تأمل في اكتشافات حقول الغاز لديها وتعول على العلاقة مع أذربيجان في تحقيق اكتفائها والوصول أيضاً إلى أهدافها الاستراتيجية لتكون محوراً دولياً في ربط أنابيب الطاقة بين الشرق والغرب، مما يفاقم من حدة التنافس في مجال الطاقة، ويضعف حظوظ الجانب الإيراني في الوصول إلى الأسواق الأوروبية.
متغيرات سياسية إقليمية تقوض المشروع الإيراني
التكهنات الإعلامية حول المشروع الإيراني تبقى محط الشك، والأرجح أن إيران تهدف إلى تعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي في العراق وسوريا، كما أنها تحاول إيجاد موطئ قدم دائم في سوريا عبر المشاركة في مشاريع إعادة الإعمار بالدخول من بوابة إمداد الغاز، لكن مشروعاً كهذا يعترض طريقه عديد من الصعاب، بخلاف المنافسة الروسية، وبخلاف الإشكاليات التمويلية والمالية المرتبطة بتدهور الاقتصاد الإيراني وكذا شبه الانهيار التام في الاقتصاد السوري، يظهر التحدي الأمني وتبرز المتغيرات السياسية في العراق وسوريا كعوائق شائكة، لا سيما إن تنبهنا إلى أن خط الغاز المتوقع سيمر عبر الأراضي التي تسيطر عليها قوات كردية في الشمال الشرقي من سوريا وعبر كردستان العراق، فضلاً عن الحالة الأمنية الهشة في البلدان الثلاثة عموماً، وفي سوريا خصوصاً، نتيجة لتداخل القوى الدولية والإقليمية وتنافسها في الداخل السوري، وعجز حكومة الأسد عن بسط سيطرتها على كامل محيط البلاد الجغرافي. أما الساحة العراقية فتقبع بدورها في دوامة التشظي السياسي داخلياً وتعج بالمناوشات بين ميليشيات موالية لإيران وأطياف أخرى سياسية وطنية تحاول التقرب من الدول العربية المجاورة، لا سيما محاولات حكومة الكاظمي بناء العلاقات الاقتصادية ومشاريع توليد الكهرباء مع السعودية، وهذا كله آتٍ في خضم الخسارة التي مُني بها الموالون لإيران في الانتخابات الأخيرة.