في سنوات الثلاثين من القرن العشرين، عرف المخرج إيليا كازان كواحد من أبرز مخرجي المسرح التقدمي في نيويورك يوم كان لكلمة تقدمي معنى واضحاً.
وهو بدءاً من أواسط سنوات الأربعين عرف كواحد من السينمائيين الكبار الذي ضخوا الحياة الفنية الأميركية بأعمال واقعية واجتماعية جعلته يبدو كمن يواصل دربه في مجال التعبير عن واقع أميركي كان قد سار فيه على هدى أفكار وكتابات بعض رفاقه من كبار الكتاب في أميركا من تنيسي ويليامز إلى آرثر ميلر مروراً بكليفورد أوديتس، في وقت عرف فيه هو كيف يجتذب هؤلاء الكتاب إلى السينما بعد أن كانت بداياته المسرحية معهم. وفي تلك الأثناء، كان قد برز ككاتب بقدر ما برز كمسرحي وسينمائي. وكانت يساريته واضحة إلى درجة أنه هو لم يكن يخفي عضويته في الحزب الشيوعي الأميركي، ولكن منذ بداية سنوات الخمسين وفي ظل مطاردة لجنة السيناتور ماكارثي للمبدعين اليساريين، بل حتى الديمقراطيين، ولا سيما الروزفلتيين، وبخاصة هؤلاء الأخيرين الذين لم يغفر لهم اليمين المتطرف الأميركي الذي ينتمي إليه ماكارثي ولجنته التي جعلت همها محاربة النشاطات اللا أميركية، دعمهم الاتحاد السوفياتي ضد هتلر.
في تلك السنوات تحول إيليا كازان إلى واشٍ كشف عن انتماءات عدد من رفاقه السابقين ما أحل عليه ليس فقط لعنة هؤلاء، بل لعنة قطاع عريض من أميركيين معتدلين، وأكسبه عداوة مبدعين كبار من طينة آرثر ميلر وأوديتس وغيرهما.
وصمة عار
لقد اعتبر كُثر تلك الوشاية وصمة عار في تاريخ كازان وبدأوا يقاطعونه بينما انصرف هو، ودون أن يعترف بأنه قد أخطأ حتى في حق تاريخه، إلى محاولة تبرير نفسه ممعناً في "فضح الحمر" متبرئاً منهم، ولا سيما في أفلام، مثل "فيفا زاباتا"، أو "في الميناء"، وصولاً إلى "الزائرين" الذي سيكون من آخر أفلامه وأشدها محاولة لتفسير ما قام به.
غير أنه في الوقت نفسه، كان يحتفظ لسيرة حياته التي كتبها بنفسه في عام 1988 بعنوان "حياتي"، بثلاثة عناصر على الأقل عرفت كيف تشكل رده النهائي على كل ما تعرض له من جراء وشايته: الإمعان في تفسير الوشاية وتبريرها، الإقلال من شأن كل الذين اتخذوا ضده مواقف جابهت الوشاية، وأخيراً وليس آخراً فضح هوليوود من الداخل في حالة هجوم جماعي، كاشفاً عبر رسمه عديد من البورتريهات لكبارها عن أسرارها وفضائحها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
باختصار، عبر هذا الكتاب الضخم الذي يقع في ما لا يقل عن 800 صفحة من الحجم الكبير كتبت بحروف صغيرة، تمكن كازان ليس فقط من أن يخوض معركته بقدر كبير من النجاح، بل كذلك من أن يقدم صورة نادرة لحاضرة السينما بصغائرها وغشها والحروب الصغيرة التي تخاض فيها بما فيها من مؤامرات ودسائس، بحيث إن الكتاب بدا في جزئه الأكبر نوعاً من تحطيم ممنهج للحياة السينمائية الأميركية.
كتاب الأحقاد
بشكل ما، يمكننا أن نطلق على كتاب "حياتي" صفة كتاب الأحقاد، ونعتبره تصفية حسابات ندر أن تمكن أي كتاب لمبدع آخر في هذا المجال أن يصل إلى ما يقترب من قوتها.
ولكن لا يمكن في المقابل إنكار قوة هذا الكتاب وطرافته، بل حتى قدرته على الإقناع، بخاصة أن كازان لم يجعل من كتابه مجرد سلاح في حربه ضد الآخرين... كل الآخرين، بل سيرة ذاتية له تروي فصول حياته وحياة أهله المنتمين إلى الأناضول التركية هم الذين تعود أصولهم إلى اليونان الأتراك، أي سكان تركيا الأصليين الذين فضلوا منذ ساحق الزمن عدم مغادرة ديار اعتبروها ديارهم على الرغم من يونانيتهم.
على هذا النحو، يروي كازان سيرة تلك العائلة قبل إسطنبول، وبعد إسطنبول، وصولاً للهجرة إلى أميركا، راسماً حكاية شرقية حقيقية أبطالها جده وأبوه وعائلتهما كما أمه وعائلتها، وهي نفس الحكاية التي كان رسمها، ولو مختصرة في روايته "أميركا... أميركا" التي حولها إلى فيلم رائع، كما لاحقاً في روايته "الأناضولي". ولعل الفصول الأجمل هنا هي تلك التي يصف فيها تعليمه الثانوي والجامعي في المهجر الأميركي، في امتزاج مع نوع من التحليل السيكولوجي الذاتي الذي يصل أحياناً إلى مستوى "جلد الذات"، ما يهيئنا إلى تلك التصرفات اللاحقة التي جعلته واشياً بعد أن كان مناضلاً!
يوم نبه إلى أنه سيشي يوماً
مهما يكن لا بد لنا مثلاً من أن نرصد في الكتاب موقفه من وشايته هذه، حيث نجده يروي لنا، مثلاً، كيف أنه منذ عام 1942، أي قبل إقدامه على الوشاية بنحو عقد من الزمن، أخبر صديقه الكاتب الشيوعي كليفورد أوديتس بأنه سيأتي يوم ويعترف فيه بماضيه ويشي برفاق ذلك الماضي، وذلك لأسباب يقول إنها سبقت لديه نشاطات اللجنة المكارثية محدداً بأن هذا الموقف يعود إلى وعي مبكر لديه عاش يصارعه طويلاً.
وهو على أية حال أمر لم ينكره كثر من معارفه ما ينفي عن وشايته بعد الوشاية الجبانة أو الانتهازية التي كان رفاقه يأخذونها عليه. بالنسبة إلى كازان كان كل شيء الجيد والسيئ في حياته موجوداً لديه منذ صباه حين كان فتى فقيراً إنطوائياً بستشعر احتقار الآخرين له وسخريتهم من قبحه وعجزه عن فعل أي شيء، هو الذي كان قد قرر باكراً، أي منذ المراهقة أن يكون شخصاً بارزاً، لكن السنوات مضت، وهو غير قادر على ذلك ملأه أحقاداً لا يتوانى عن الإشارة إلى أنها كانت هي ما كون شخصيته.
كل شيء في الماضي التعيس
وكل هذا كان على أية حال قبل السينما وقبل روزفلت والسيناتور ماكارثي ولجنته البائسة التي لم تجد على أية حال أي دفاع عنها في نص كازان الذي نتحدث عنه.
فكازان لم يكن على الإطلاق مهتماً بتلك المعركة الأيديولوجية بقدر اهتمامه أن يرسم صورة شخصية صادقة لنفسه والآخرين. كان ما يهمه ليس حكم الآخرين أو التاريخ عليه، بل حكمه هو على الآخرين وعلى التاريخ. هكذا كان في البداية، وهكذا بات في النهاية، أما التفاصيل بين تلك وهذه، والتي وزعها على مئات الصفحات وعشرات الفصول التي شغلتها سيرة حياته، فآثر أن يعبر فيها بلغته الرائعة وصراحته الجارحة وحسه الفكاهي الذي لئن كانت قد غلبت عليه سخريته من كل شيء بدءاً من سخريته من نفسه، آثر أن يعبر عن سيرة تمكن من أن يجعلها سيرة في صعود مستديم، وحتى خلال تلك السنوات الأخيرة التي عاش فيها وحيداً تقريباً مرذولاً ومعزولاً، ولكن ما الجديد؟ ما الجديد لدى إنسان عاش، كما يروي لنا بنفسه، كل طفولته مؤثراً الوحدة والعزلة في مجتمعات تصور من يعيش فيهما على صورة المنبوذ.
نساء ونساء أخريات
أما إيليا كازان فإنه اختار بنفسه أن يكون منبوذاً، وبقي كذلك على الرغم من النساء الكثيرات التي لا يتوانى في الكتاب عن الإسهاب في فضح علاقته بهن خارج إطار حديثه عما لا يقل عن ثلاث نساء تزوجهن ظل يكان لأول اثنتين منهن، مولي وباربارا لودن، بعد موت كل واحدة منهن حباً لا يقل عن حبه لزوجته الأخيرة فرنسيس التي رافقته حتى أيامه الأخيره ويتحدث عنها بحنان شديد ومفاجئ في الفصول الأخيرة من الكتاب هي التي كانت تعرف حزنه الشديد على سابقتيها كما تعرف كل شيء، أو "تقريباً كل شيء" عن عشرات النساء اللاتي ارتبط بهن بشكل أو آخر.
وبقي أن نذكر في النهاية أن كازان الذي لا يفوته أن يذكر بالخير سنوات صداقته مع آرثر ميلر الذي سيكون من أقسى لائميه على فعل الوشاية، سيقدم عن ميلر، كما عن علاقة هذا الأخير بزوجته مارلين مونرو حين كانت زوجته لسنوات، واحدة من أقبح الصور واصلاً إلى حد القول إنهما كانا حين يثملان ويتراشقان الصحون في المطاعم، ملمحاً إلى أن مونرو إنما انتحرت لأنها أبداً لم تعتبر ممثلة حقيقية!