على متن ثلاثين رسالة، أبحرت الكاتبة ريم نجمي، في روايتها "تشريح الرغبة" (الدار المصرية اللبنانية)، إلى دواخل النفس الإنسانية، لتنقل صورة كاشفة ترصد عبرها مشاعر كثيفة من الحزن والغضب، الشفقة، اللوم، الاستجداء والألم. وتبث أنفاساً جديدة في تقنية الرسائل التي توارت في الأدب الحديث نتيجة للتحولات الرقمية. لكن الكاتبة لم تحد عن حداثة العصر، وإنما استقت الشكل الجديد للرسائل المسافرة عبر البريد الإلكتروني. وجعلتها بنية كلية للنص، وقواماً لبناء سردي محكم؛ أتاح للشخوص تبادل مقاعد المرسل والمرسل إليه.
ورغم تحول الوسيط من الورق إلى الفضاء الإلكتروني، لم تزل رسائل ريم نجمي التي تآلفت في وحدة فنية عبر النص الروائي؛ قادرة على الولوج إلى عوالم الشخوص، ونقل ما يعتمل في دواخلها، بصدقية نفت الحاجة للجوء إلى الصوت المركزي للراوي العليم. فكانت كل رسالة بمثابة صوت من أصوات الشخوص. كما سمحت باستدعاء بعض الأجناس الأدبية الأخرى وتوظيفها داخل النص. وقد نجحت الكاتبة في تحقيق غاية الرسائل، من إيهام المتلقي بكونه أمام أحداث حقيقية وقعت بالفعل، لا سيما مع الحرص على تأريخها، خلال فترة امتدت قرابة عامين.
علاقة ثلاثية مأزومة
رصدت نجمي عبر بنائها علاقة ثلاثية مأزومة لا ينفك الواقع عن تكرارها. يتصدر المشهد زوجان دام زواجهما سنوات عديدة، بينما تبرز في الخلفية امرأة ثانية تلعب دور الحبيبة، التي تمثل طوق نجاة للرجل من علاقة زوجية فاشلة، في حين تكون في الوقت نفسه معولاً يهدم حياة الزوجة وأحلامها، وإن أخفت الكاتبة عن الزوجة هذا المعول حتى نهاية الأحداث.
بدأت الرحلة السردية برسالة من زوجة ألمانية خمسينية "يوليا" تقيم في بون، إلى زوجها المغربي "عادل" المقيم في برلين، كشفت خلالها تصوراتها المثالية لحياتها الزوجية، والتي لا يوجد بها ما يبرر قطيعة زوجها ورغبته في الانفصال عنها. ثم أكدت هذا التصور باستعادة لحظاتهما السعيدة عبر زواجهما، الذي دام نحو ربع قرن.
استطاعت الكاتبة عبر استخدامها تقنيات التذكر والاسترجاع في رسائل الشخوص؛ توسيع مساحات البوح ونقل وجهات النظر المختلفة، وتجسيد الوجوه المتعددة للحقيقة، في علاقة مأزومة ومركبة، يتصارع عبرها الزوج والزوجة والحبيبة على مقعد الضحية. يحاول كل طرف أن يغسل يديه من ذنب اقترفه بحق الآخر ويظن كل منهم احتكار الحقيقة. وفي هذا الصراع وقفت الكاتبة على مساحة واحدة من شخوصها. وأتاحت لكل منهم محاولة كسب التعاطف وتوجيه اللوم وتشريح العلاقة. وتركت للقارئ حرية اختيار انحيازاته، والجانب الذي يفضل الوقوف فيه. وهي محاولة ناجعة منها لإشراك القارئ في عملية السرد، ليتجاوز الدور التقليدي للمتلقي.
الجرأة والرصانة
تسلل الصراع الذي احتدم بين الشخوص؛ إلى دواخلهم وبات أشد وطأة لينقسم كل أطراف العلاقة بين مشاعر متضاربة من الإحساس بالذنب والإحساس بالظلم، تحمل مسؤولية انهيار العلاقة وإبراء الذمة من هذا الانهيار. كانت الجرأة سمة أساسية ميزت تناول نجمي لقضية انهيار مؤسسة الزواج، بعدما دامت خمسة وعشرين عاماً، حين بلغ طرفاها عمر الخمسين، أو العمر الذي تصل فيه المرأة إلى سن اليأس، ويعاني الرجل أزمة منتصف العمر. وبدت جرأة الكاتبة منذ العتبة الأولى للنص، عبر اختيار عنوان مباشر وصادم "تشريح الرغبة". وواصلت رحلتها بالجرأة ذاتها، من خلال السماح لشخوصها بدخول المناطق الممنوعة، والكشف عن المسكوت عنه في العلاقة الحسية، التي تكون في أغلب الوقت المسؤول الأول والمستتر عن انهيار الزواج. لم تشيطن شخوصها، ولم تلبس أياً منهم رداء الملائكية والمثالية، وإنما سمحت لبشريتهم بكل نواقصها، أنانيتها، أخطائها وحتى ما يثير الإعجاب فيها؛ بالظهور، وهذا ما وافق استهلالها للنص الروائي بإشارة إلى أن شخصياتها هي الشخصيات الأصلية، والأكثر حقيقية من شخصيات الواقع، لأنها بلا تجميل ولا رتوش ولا تدليس ولا كذب.
رصانة السرد
ورغم جرأة التناول، واختراق أرض ملغومة بقضية تعد من أهم التابوهات في الثقافة العربية، فإن الكاتبة انتهجت سرداً رصيناً بعيداً عن الابتذال.
وبعد استهلالها الأول، عمدت إلى استدعاء بعض الاقتباسات الأدبية لكبار الأدباء مثل ماركيز، لويس غلوك، آنا أخماتوفا، وغوته، إضافة إلى بعض العبارات التي أخذتها عن أفلام شهيرة، واستهلت بها رسائل شخوصها، ووظفتها في تعزيز الدلالات نفسها التي تقود إليها الرسائل، والتي اعتنت الكاتبة بنثرها في كل موضع من النسيج. فلا مجال للصدفة ولا شيء أودع النص مجاناً، وإنما استخدمت نجمي ميزانها الحساس في تجسيد أزمة الشخوص. بدا ذلك مرات عديدة لا سيما في اختيارها الفضاءات المكانية للنص، التي توزعت بين مدينة بون "العاصمة القديمة لألمانيا" التي تقيم فيها الزوجة، ومدينة برلين العاصمة الألمانية الجديدة التي اختار الزوج الإقامة فيها حيث تقيم الحبيبة، بعد فترة من التجوال بين المدينتين. يماثل الوضع الزمني للعاصمتين "القديم والأحدث"– ضمناً- وضع المرأتين ومركزيتهما في حياة الرجل. كذلك كان اتساع الفضاء المكاني للنص وامتداده من ألمانيا إلى المغرب وتايلاند؛ وسيلة ناجعة استخدمتها الكاتبة لتمرير حمولات معرفية وإتاحة استراحات وصفية تجعل بلداناً بعيدة في مرمى العين، وتربط بين حضارتي الشرق والغرب، وتبرز في الوقت نفسه تناقضاتهما. وقد تمكنت عبر هذه الحمولات؛ من إضاءة مناطق في القانون الألماني، حالات الطلاق حول العالم، مراكز إيواء اللاجئين، اتحاد ألمانيا وانهيار المعسكر الشرقي...
الشرق والغرب
لم يكن الشرق والغرب أنموذجين وحيدين من التقابلات، التي أبرزتها الكاتبة، بل إن ثمة تقابلات كثيرة أضاءتها طوال رحلتها السردية، تنوعت بين معلن ومبطن، سلوكيات فوضوية وأخرى نظامية، قيم مادية وأخرى روحية.
ورغم أن أزمة الشخوص في الرواية، أزمة معادة تعرفها كل المجتمعات على اختلاف ثقافاتها، فإنها اتخذت في النص بعداً ثقافياً، إذ بدا أن جزءاً من التوتر الذي شاب علاقة الزوجين؛ نبع من انتماءاتهما لثقافات وقيم مختلفة. "ما لا أفهمه حقاً وأستصغره فيك أن تنغصي علي صيامي، الذي هو أساساً عادة روحية واجتماعية ونفسية، أكثر منها ربما ممارسة دينية، ثم أجدك بعدها تمتنعين عن الأكل تماماً، وتعيشين على السوائل فقط ولأيام متتابعة تحت مسمى ’ديتوكس’ أو تنقية الجسم من السموم" ص 114.
انبثق من القضية الرئيسة الخاصة بانهيار مؤسسة الزواج وانتهاء الحياة المشتركة؛ قضايا فرعية أخرى، مثل أزمة منتصف العمر، سن اليأس، رتابة الزواج التي تحفز أحياناً على تدميره، الخرس المنزلي، حب التملك والسيطرة. وإلى جانب هذه القضايا، رصدت الكاتبة قضايا ثقافية وإنسانية ونفسية أخرى، من بينها مازوخية المرأة التي تتجلى في ما تنتهجه أحياناً من تعذيب للنفس أثناء محاولات بائسة، تسعى من خلالها للحفاظ على زواج وزوج أخذ قراراً حاسماً بالرحيل. رصدت نجمي تناقضات الشخوص التي بدت في بعض الأحيان كحالة من الشيزوفرينيا والفصام، فبينما يؤكد "عادل" إيمانه بالثقافة الغربية، تتجلى شرقيته المتجذرة مرات عديدة في آرائه ورؤاه. فيبيت كمن لا يدين إلا بما يخدم رغباته ومصالحه.
شعرية لا تعطل السرد
ولم يكن "عادل" المثال الوحيد على هذا الفصام والتناقض، وإنما كانت "يوليا" ذاتها مثالاً آخر، فهي تدعو لقبول الآخر، تتعاطف مع اللاجئين وتتطوع لمساعدتهم، ثم تظهر بعض العنصرية في نعتها لعموم المرأة العربية بالعهر والانتهازية. ووضعها في مرتبة أدنى من النساء الغربيات. وكان كل ذلك منفذاً تسللت الكاتبة منه، إلى قضية أكثر خطورة، تتعلق بمعاناة اللاجئين السوريين في بلاد اللجوء، والتي تضاف إلى ما عانوه من ويلات الحروب في أوطانهم، ومن آثارها وآلامها التي يصطحبونها معهم أينما حلوا، والتي ربما كانت مبرراً لانجذاب شخصية الحبيبة "جوري" لـ"عادل"، الذي يكبرها بنحو ربع قرن.
اتسمت لغة الكاتبة بالعذوبة والحساسية، ورغم شعريتها الشديدة فإنها لم تعطل السرد، وإنما عززت المنحى الذاتي للنص، الذي نهض على رسائل الشخوص، إذ استطاعت تحويل مشاعر أبطالها من صورتها الحسية إلى صورة مادية؛ جعلت للحزن ملمساً، وللحيرة لوناً، وللغضب رائحة، فباتت العين أقدر على إدراكها. "أتأمل الآن أثر القهوة الذي لا يزال على الحائط الأبيض كلوحة فنية لم يتوفق فيها بولوك. أغمض عيني عنها وأتضاءل كنهار أشرف على الرحيل، لا شيء يضاهي عزلتي في هذا المطبخ سوى تفاحة وحيدة في الإناء" ص47.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه الشعرية تحرتها الكاتبة؛ حتى في استهلالاتها للرسائل باقتباسات من كتاب آخرين "من الأفضل استخدام السكين بدل الكلمة. السكين يمكن أن يكون مثلوماً. السكين كثيراً ما يخطئ القلب. الكلمة لا– هيلدا دومين" ص121.
وبين لغة فصيحة سلسة؛ تسللت ومضات من العامية المغربية والسورية؛ أنعشت النسيج، وكانت جسراً عبرت فوقه بعض اللمحات الساخرة، وبعض فلكلور الثقافات العربية، الذي زاد من جاذبية السرد، وكثف مشاعر الشخوص "سأكرر عليك المثل المغربي نفسه الذي قيل خصيصاً لمثيلاتك، خلات راجلها ممدود ومشات تواسي في محمود" ص 58.
ولم تغفل الكاتبة إبراز جوانب من الثقافة الألمانية، عبر استدعاء بعض أمثالها التي يتداولها الشعب الألماني. كما استخدمت أحياناً ترجمات حرفية موفقة، لبعض العبارات الألمانية، مثل عبارة "حدود الألم" التي تعني نهاية القدرة على التحمل، لتحقق عبر ذلك كله؛ غايتها في تعزيز واقعية وصدقية الأحداث، وتجسيد صورة أصلية للشخوص.