نزع أمير البالغ من العمر 25 سنة السلاح عن كاهله، واستعد لصلاة الفجر بعد ليلة شاقة من الحراسة، لكن صفارة الإنذار أجبرته على ترك سجادته والهرولة كغيره من الجنود لحال طارئة مجهولة، تبين لاحقاً أنها تدريب إسرائيلي عسكري جديد يحاكى كيفية تعامل القوات مع محاولات اقتحام بلدات ونقاط من البر والبحر، والتعامل مع النيران المضادة للدبابات، وسقوط صواريخ على البلدات في المنطقة.
طمعاً في الامتيازات
أمير الذي نشأ وترعرع في إحدى بلدت النقب (جنوب إسرائيل)، أمضى ثلاث سنوات متتالية داخل الجيش الإسرائيلي، لم يجن من ورائها ما كان يطمح به "بحسب تعبيره"، فما إن تسرح من الخدمة العسكرية حتى باشر بإجراءات رسمية لشراء قطعة أرض بمساحة 500 متر، كان قد وعد بها قبل انضمامه إلى الجيش، لكن الوظيفة المستقرة في سلك الشرطة والتعليم الجامعي والقرض البنكي التي أغرته أن يقسم "الولاء لإسرائيل" لم يحظ بأي منها.
يقول الشاب الذي حرص على عدم ذكر اسم عائلته لـ "اندبندنت عربية"، "أمام المؤسسة الإسرائيلية لا شيء قد يشفع لك كفلسطيني، لا الأسرلة تجدي ولا التجنيد الإجباري ولا الخدمة المدنية، أرباب العمل المسلمون في إسرائيل لا يريدون توظيفي لأنني قمت بالخدمة العسكرية في الجيش، والمشغلون اليهود يفضلون منح الوظائف لليهود".
على عكس اليهود الإسرائيليين، فإن المواطنين العرب باستثناء الدروز والشركس، غير ملزمين بموجب القانون الالتحاق بالخدمة العسكرية، لكن عدداً من الشباب البدو يلتحقون بالجيش على الرغم من ذلك، طمعاً في الامتيازات التي تكون مشروطة بالخدمة لمدة 24 شهراً على الأقل، وتشمل خفوضاً كبيرة في ثمن قطع أراضي البناء في بلدات البدو، ومنح الأولوية في مناقصات بيع قطع الأرض للمسرحين من الخدمة، ويصل حجم الخفض إلى 90 في المئة من سعر الأرض في شمال إسرائيل، وحوالى 50 في المئة من سعر الأرض في جنوبها، كما يعرض الجيش على البدو الخدمة لفترة 28 شهراً، إضافة لذلك تشمل الامتيازات دورات تحضيرية مجاناً لامتحانات الـ "بسيخومتري" (قبول الجامعات)، وإعدادهم للدراسة الجامعية والمشاركة في رسوم التعليم الجامعي وتمويل شبه كامل لمن يدرسون مهن معينة، وكذلك مساعدتهم في العثور على عمل بعد الخدمة، وغير ذلك.
مسؤولون في وحدة الأقليات في الجيش الإسرائيلي قالوا لوسائل إعلام إسرائيلية "مهمتنا هي أن ينضم أكبر عدد من عرب إسرائيل إلى الجيش. عندنا حالياً بضع مئات ونرغب في مضاعفة هذا العدد خلال السنوات المقبلة، إذ نقوم بقصارى جهدنا لإدماج الأقليات في الجيش بهدف الحفاظ على الوضع القائم من الناحية الديموغرافية، كما أن العمل في الجيش فرصة عظيمة لإقامة الروابط بين المجتمع المسلم والدولة".
المقدم نادر عيادة، قائد الوحدة (585) الصحراوية التي تضم بالدرجة الأولى عرباً تطوعوا للخدمة العسكرية، يقول في مقابلة مع صحيفة "جيروزاليم بوست" أنا هنا لتوفير الأمن وحماية كل مواطن، "نحن نعرف الأرض جيداً ونحن هنا لحماية سكانها".
هندسة الوعي
القيادية في التجمع الوطني الديمقراطي داخل إسرائيل حنين الزعبي تقول في تصريح خاص، "إنها قضية سياسية وقبل كل شيء هي مسألة فرق تسد، فإسرائيل لا تحتاج إلى العرب لحماية أمنها وهي على يقين أن انضمامهم للجيش جاء طمعاً في بعض الفتات أو ما يسمى بالتسهيلات هنا وهناك، وليس لقناعات أيديولوجية، فهي لا يمكن أن تعطي قوة عسكرية للعرب داخل الجيش، إذ إن 90 في المئة ممن يخدمون في الجيش الإسرائيلي من العرب لا يعاملون على قدم المساواة أسوة بالإسرائيليين، كما أن حال الشرذمة التي يعانيها المجتمع العربي مكنت إسرائيل من استغلال الوضع الحالي لمكاسب مستقبلية تسعى إلى دمج العرب في المؤسسات الإسرائيلية لأسباب اقتصادية وخدماتيه فقط، وفي ظل ارتفاع نسب البطالة في صفوفهم وانعدام الفرص وازدياد نسب الفقر، واستمرار سياسة الهدم وصعوبة الحصول على تصاريح بناء والاكتظاظ السكاني في المدن والبلدات العربية، ضعف بعض الشباب للإغراءات المادية والامتيازات المالية التي ركزت المؤسسة العسكرية على الترويج لها بشكل مبالغ فيه".
ووفقاً للبيانات التي وردت في موقع "واللا" الإسرائيلي، "يخدم في صفوف الجيش الإسرائيلي حالياً 1514 شاباً عربياً بدوياً، بما في ذلك 84 ضابطاً"، ووفقاً للموقع "فإن حجم التجنيد في صفوف الشباب البدو عام 2016 كان منخفضاً وبلغ 339 جندياً، وارتفع عام 2017 إلى 448، ومنذ ذلك الحين شهد عدد البدو الذين يخدمون في الجيش تذبذباً إلى أن سجل في العام 2020 زيادة أخرى إثر تجنيد 606 منهم"، فيما أشارت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية إلى "أن غالبية من تجندوا عام 2020 التحقوا بالخدمة بعد انتشار فيروس كورونا، وبحسب الأرقام فإن 450 من هؤلاء المجندين انخرطوا في وحدات قتالية بينها وحدة التجوال الصحراوية ولوائي المشاة (كفير) و(ناحال)".
نائب وزير الدفاع الأسبق إيلي بن دهان قال لصحيفة "تايمز أوف إسرائيل" في وقت سابق "إن وزارة الدفاع تعمل مع مؤسسات عدة من ضمنها الشرطة الإسرائيلية وشركة الكهرباء الإسرائيلية وغيرها من أجل مساعدة الجنود من المجتمع البدوي في العثور على عمل، بعد تسريحهم من الجيش الإسرائيلي".
عسكرة النقب
مُركّز لجنة التوجيه العليا للعرب في النقب جمعة الزبارقة يقول إن "صدقية الأرقام الإسرائيلية مشكوك فيها وهي جزء من الدعاية المستمرة لسلخ عرب النقب عن المجتمع الفلسطيني بالكامل وإجباره على التماثل للرؤية الإسرائيلية، وقد ضعت إسرائيل لنفسها خطة وبرنامجاً لتجنيد 4500 عربي خلال السنوات الـ 10 المقبلة، ويعلم الجميع حجم الموارد الإسرائيلية المستثمرة في تجنيد العرب وعرب النقب على وجه الخصوص، والمجهود الإسرائيلي الموضوع لعسكرة النقب واختراق المجتمع، ولكن ظهر فشل السياسات الإسرائيلية جلياً خلال الأعوام الماضية بابتعاد عرب النقب المستمر من المؤسسة الإسرائيلية، وتجندهم في المعارك التي مر بها النقب منذ المعركة ضد مخطط برافر المشؤوم وحتى اليوم، ولن نسمح بحملات غسل الأدمغة".
ويواجه بعض العرب من المسلمين المنخرطين في الجيش النبذ والشتم من المجتمع الذين يعيشون فيه، وقد تصل الأمور في بعض الأحيان إلى الاعتداء الجسدي لاتهامهم بالخيانة. الحركة الإسلامية في شمال إسرائيل التي يترأسها رائد صلاح أصدرت منذ سنوات فتوى تُحرم خدمة المسلمين في الجيش الإسرائيلي، وتمنع الصلاة على من يقتل منهم في المساجد التابعة للحركة".
مسيحيون في الجيش
مجهود مركّز من الجيش الإسرائيلي لتجنيد العرب لم يقتصر على البدو المسلمين وحسب، ففي إجراء غير مسبوق بدأ منذ العام 2014 يقوم الجيش بإرسال أوراق تجنيد للمسيحيين داخل إسرائيل، بهدف تشجيعهم للانخراط في صفوفه، وتبين من معلومات كشف عنها الجيش الإسرائيلي، بناءً على طلب صحيفة "يسرائيل هيوم"، أنه منذ العام 2012 طرأ ارتفاع ملحوظ على عدد الشباب العرب المسيحيين الذين يلتحقون بالخدمة العسكرية في صفوف الجيش، وذلك منذ تأسيس منتديات تشجع على خدمتهم. وخلال العام 2017 وللمرة الأولى في تاريخ إسرائيل، افتتحت أول كلية عسكرية للمسيحيين والآراميين واليهود في غور الأردن، والتي أسهمت كما يقول القائمون عليها في تجنيد 500 شاب سنوياً للخدمة المدنية، وهذا يساوي ثلث الشباب المسيحيين أبناء جيل الـ 18 سنة الذين يعيشون في إسرائيل.
عضو الكنيست الإسرائيلي عن حزب "الليكود" ياريف ليفين قال إن "بإمكان المسيحيين أن يشغلوا مناصب إدارية في شركات حكومية ويحصلوا على تمثيل منفرد في السلطات المحلية، وسيحصلون على مساواة في فرص العمل. بيننا وبين المسيحيين يوجد كثير من الأمور المشتركة وهم حلفاؤنا الطبيعيون".
رفض مستمر
وبالتزامن مع الجهود الإسرائيلية الحثيثة منذ سنوات لتجنيد المسيحيين داخل إسرائيل، لا يزال بطاركة ورؤساء الكنائس المسيحية في القدس يشددون رفضهم لمحاولات تجنيد الشباب المسيحيين في الجيش الإسرائيلي، محذرين في كل مرة "أن مثل هذه التشريعات ستفتح المجال لخطوات لاحقة مثل التجنيد الإجباري في الجيش الإسرائيلي"، وذلك على غرار ما حصل مع الطائفة الدرزية عام 1951، إذ أصبح انضمامهم إلى الجيش إجبارياً أسوة باليهود".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الناشط السياسي باسل غطاس قال إن "نيات المؤسسة الإسرائيلية من كنيست وحكومة تؤكد دائماً هدفها بعزل المسيحيين وفصلهم عن سائر أبناء شعبهم، وإن فكرة مناهضة التجنيد تنبع من حرصنا على الهوية الوطنية لأبنائنا والتي تتعرض للتشويه بشتى الوسائل، وعلى الرغم من الوعود بالمساواة وتقديم المنح لمن يؤدون الخدمة العسكرية أو المدنية وتكثيف مخططات التطوع للخدمة العسكرية في الجيش والخدمة المدنية البديلة، إلا أنها فشلت إلى الآن في تطبيق هذه المشاريع"، متسائلاً "ماذا حدث مع الدروز على مدى السنوات الماضية؟ أحصلوا على مزيد من الحقوق؟ ألم تصادر أراضيهم ولديهم أوامر هدم لمنازلهم؟ إن هذا خطر جداً. الموقف بأكمله استعماري".
تراجع ملحوظ
خلال السنوات الأخيرة شن ناشطون من مجموعتي "أرفض شعبك بيحميك" و"نحن حراس الأرض مش حراس حدود"، تحركاً ملحوظاً لحث الشباب الدروز على رفض التجنيد المفروض عليهم، موفرين شبكة دعم للرافضين أو الممتنعين عن التجنيد، تشمل محامين ومتطوعين واختصاصيين نفسيين، وتمثلت النتيجة بارتفاع نسبة رافضي الخدمة الإجبارية بالجيش من الدروز التي تقدر اليوم بـ 60 في المئة.
وذكرت دراسة لجامعة حيفا "أن 65 في المئة من الدروز يرفضون الخدمة العسكرية، فيما أشارت دراسة أجراها مؤتمر هرتسيليا الإسرائيلي السنوي إلى أن 54 في المئة من الدروز يرفضون التجنيد".
ودعا المؤتمر دوائر صنع القرار لتجديد محاولات احتواء الدروز في صفوف الجيش، محذرين من أخطار فقدانهم.
الناشطة نيفين أبو رحمون تقول، "نضالنا ضد مؤامرة التجنيد وجودي لا يمكن التخلي عنه. المؤسسة الإسرائيلية أدركت أهميته وتأثيرنا في سياق الوعي والهوية، وكل المبادرة الإسرائيلية إلى قوننة وتجريم هذا النضال ستجعلنا أكثر إصراراً على الاستمرار في نضالنا السياسي التوعوي وتحصين الشباب الفلسطيني من كافة مشاريع الأسرلة، وعلى رأسها مؤامرة التجنيد".
عقوبة السجن
يتعرض رافضو التجنيد الإجباري من الدروز لمحاكمات عسكرية تحكم عليهم بالسجن من خمسة أيام إلى 30 يوماً، وهي أحكام قد تتكرر مرات عدة، في محاولة للضغط على رافض التجنيد ودفعهم للعودة عن قرارهم، قبل أن تحول ملفاتهم للنيابة العسكرية.
ولكبح مناهضي سياسة تجنيد العرب عدل الكنيست الإسرائيلي عام 2017 قانون العقوبات الإسرائيلي، ليمنع بموجبه القيام بأي نشاط يهدف إلى منع "التجنيد التطوعي" للشباب العرب، أو محاولة حث المتطوعين منهم على العدول عن قرارهم، وقد تصل العقوبة على من تثبت إدانته إلى السجن سبع سنوات.
يقول المحامي يامن زيدان، "يحق لمن يشعر بالظلم أن ينقلب عليه، بل أن يذهب لحد المطالبة بالحكم الذاتي أو الانفصال لتأمين حقوقه وهويته. إسرائيل تسعى إلى ربط حقوق مواطنيها بالواجبات وهذا عمل غير ديمقراطي يتناقض حتى مع عهود حقوق الإنسان الأساسية".
تخوفات إسرائيلية
وأفادت معطيات نشرها "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" بأن نسبة الشباب والشابات الإسرائيليين الذين يتجندون للخدمة العسكرية تراجعت بشكل كبير، فقد كانت نسبة التجند للجيش 71.7 في المئة من اليهود و57.6 في المئة من مجمل السكان في العام 1999. وتراجعت النسبة عام 2019 إلى 62.6 في المئة من اليهود و50.7 في المئة من مجمل السكان. ويشمل هذا المعطى حصول 11 في المئة من المجندين على إعفاء من الخدمة العسكرية لأسباب مختلفة، مما يعني أن أقل من نصف السكان يؤدون الخدمة العسكرية.
رئيس المعهد عميحاي كوهين يقول في تقرير نشرته صحيفة "ذي ماركر" الإسرائيلية، "وجد أغلبية كبيرة من المجندين في ما يُسمى "التيار المركزي" بالمجتمع الإسرائيلي، وهذا تعبير إشكالي، ويشمل المدارس الحكومية والحكومية الدينية اليهودية، لكن مجتمعنا القبلي يضم مجموعات آخذة بالاتساع ولا تتجند للخدمة العسكرية، والعرب يتحولون إلى جزء من المجتمع الإسرائيلي أكثر من الماضي، وبالطبع الحريديون أيضاً، وهذا يعني أنه كلما تقدم الوقت سيكون هناك مزيد من الأفراد الذين لا يتجندون".
معطيات لجنة مراقبة الدولة في الكنيست عام 2020 دلت "أن أعداد الجنود المعفيين من الخدمة النظامية تتزايد، وارتفعت نسبتهم من 7.9 في المئة عام 2018 إلى 11.9 في المئة عام 2020، ويتوقع أن ترتفع إلى 13 في المئة عام 2023".
يذكر أن الحكومة الإسرائيلية فشلت قبل أيام في تمرير "قانون التجنيد" الإلزامي للحريديين (المتدينين) الذي بادر إليه وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس، على الرغم من تصويت نواب القائمة الموحدة لمصلحة مشروع القانون. حزب القائمة المشتركة الذي صوت ضد القانون قال في بيان إن "المحكمة العليا الإسرائيلية أصدرت قراراً أوضحت فيه أنه عندما يتم سن قانون تجنيد اليهود الحريديين، عندها يمكن العمل على تطبيق القانون على جميع الأقليات، بما في ذلك الأقلية العربية داخل إسرائيل".