لا يزال الشارع السوري يترقب تداعيات وارتدادات الهجوم الأقوى من نوعه لتنظيم "داعش"، ويتابع بقلق بالغ تطورات مشهد اقتحام سجن الغويران في الحسكة، شمال شرقي البلاد يوم الخميس 20 يناير (كانون الثاني) وسط مخاوف من عودة ظهور خلايا الجماعة المتشددة، واستماتته لفك أسر عناصر التنظيم داخل ثانوية تسمى (الصناعة)، تحولت إلى معتقل يستوعب عدداً كبيراً يبلغ نحو 3500 معتقل من ضمنهم قياديون في التنظيم الإرهابي.
ليلة التسلل إلى السجن
بحسب بعض المتابعين، فإن "داعش" العائد من جديد، تمكن وبـ"غزوة" هي الأكبر منذ سقوطه وعبر تخطيط طال ستة أشهر، مستفيداً من سوء الأحوال الجوية والباردة التي تعم البلاد، من إثارة غبار المعارك كما كان يفعل في سيناريوهات عملياته القتالية قبل اندحاره. وكان لافتاً تزامن الهجوم الذي شُن بواسطة نحو 200 مقاتل تسللوا وسط سجن يقع في حي سكني، مع استعصاء داخلي من قبل السجناء بغرض بث الفوضى.
وفي هذه الأثناء تضرب القوات الكردية طوقاً أمنياً منيعاً حول الحي لشن عمليات مداهمة وتفتيش بحثاً عن مهاجمين أو فارين. وتؤكد المعلومات الواردة صدور أوامر تقضي بمنع التجول في أوقات المساء في عموم المناطق التي تسيطر عليها الإدارة الذاتية الكردية، وذلك بعد أيام دامية وقتال شرس في محيط السجن بغية الاستيلاء عليه، ما استدعى تدخل طيران التحالف لشن ضربات صارمة في أماكن عدة بالحسكة كان المهاجمون يتحصنون فيها، بالتوازي مع قتال عنيف بين القوات الكردية وأفراد التنظيم من المهاجمين والفارين من السجن على حد سواء على الأرض، مع الإعلان عن إغلاق المعابر المؤدية إلى حيي (شيخ مقصود والأشرفية) في مدينة حلب ذات الغالبية من المكون الكردي.
هذا الهجوم الذي يعد الأكبر على أكثر السجون خطورة في البلاد، أدى إلى تشريد ما يقارب أربعة آلاف نازح من سكان الحي، ومصرع 175 شخصاً في الأقل من عناصر "داعش"، بينهم 15 معتقلاً حاولوا الفرار فسقطوا بالاشتباكات التي اندلعت فور تصدي حراس السجن من قوات سوريا الديمقراطية للهجوم. لكن هذه الأرقام ليست نهائية، إذ لا تزال المعركة مستعرة على الرغم من الهدوء النسبي الذي تعيشه المنطقة التي تلقت ضربات جوية عنيفة، علماً بأنه تم تشديد الحراسة على بقية سجون أفراد التنظيم، على الرغم من أن الغويران يعد أكبر السجون الذي يضم إرهابيين من جنسيات مختلفة.
سيناريوهات العودة
فكما كان متوقعاً، انفجرت القنبلة الموقوتة في شمال شرقي سوريا، فلم يكن السوريون يستبعدون حصول ذلك، خصوصاً مع قبوع ما بين عشرة و12 ألف عنصر من "داعش" داخل سجون ومعتقلات عدة منذ ثلاث سنوات عقب سقوطهم في مارس (آذار) 2019، واستقرار عائلاتهم ويفوق عددهم 70 ألف شخص من نساء وأطفال في مخيمات أكبرها مخيم (الهول).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم تلقَ نداءات المنظمات الدولية من جهة وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) أية استجابة في المحافل والأوساط الدولية، مطالبين بمحاكمة هذا العدد الكبير من أفراد التنظيم، لا سيما بوجود ما يقارب 2000 مقاتل أجنبي مع عائلاتهم وأطفالهم في المنطقة، ما تطلب نقلهم إلى دولهم خصوصاً النساء والأطفال وسط مناشدات إنسانية، آخرها دعوة منظمة "اليونيسف" إلى إطلاق سراح الأطفال المحتجزين ووضعهم في إطار العدالة الإصلاحية. وذكر بيان صادر يوم 23 يناير الحالي عن ممثل "اليونيسف" في سوريا، بو فيكتور نيلوند عن كون اشتداد العنف في هجوم سجن غويران يعرّض سلامة 850 طفلاً وهم رهن الاحتجاز، للخطر الجسيم.
ويرى مراقبون أن قضية الأسرى (الدواعش) كانت الأكثر جدلاً في السنوات المنصرمة عقب دحر التنظيم في قرية الباغوز، شرق دير الزور آخر معاقله، حيث ألقي على عاتق قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية حماية سجون تعج بالإرهابيين المدربين، وكل عنصر إرهابي منهم يُعد قنبلة موقوتة قابلة للانفجار حين تسنح له الفرصة. وعلاوة على الأعداد الكبيرة في هذه المعتقلات، مثّلت الهجمات الجديدة منذ بداية العام الماضي للتنظيم المدحور، وعودته في البادية، إشارة خطر تنذر بأمر كارثي قد يحصل، على الرغم من محاولات متكررة عام 2020. ولا يستبعد متابعون اشتعال اضطرابات في سجون ومخيمات الهول على سبيل المثال، كرد فعل أو كتخطيط مسبق.
وعلى جهة ثانية، تنخفض ترجيحات وقوع أي سيناريو مماثل لسجن غويران، لأسباب تتعلق بمدى جهوزية التنظيم وقدرته على توزيع عناصر. فالمخيمات المترامية الأطراف يمكن ضبطها وإحكام السيطرة عليها عسكرياً في حال تنفيذ أي مخطط هجومي، بينما يقع سجن الصناعة في حي سكني ما صعّب الحسم عسكرياً حفاظاً على أرواح المدنيين، وهذا الأمر أعطى للمهاجمين المتطرفين فرصة الاحتماء بالأبنية. الهجوم كان سبقه الدفع بعربة مفخخة وانفجار صهاريج مازوت وحرائق مفتعلة نفذها الأسرى داخل السجن.
تجاذبات الحادثة
في غضون ذلك، تبدو الولايات المتحدة راضية عن التدخل الذي وصفته بـ"السريع" لقوات "قسد" في صد المعركة وتطويق الهجوم وامتصاصه، واستقدام قوى إضافية لمداهمة وتطويق الموقع والتفتيش عن مخابئ في محيط السجن مع انتهاء حالة الفوضى. وعلّق المتحدث باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس قائلاً "تمكنت قوات سوريا الديمقراطية وقوات التحالف من إحباط هجمات عدة خلال هذه الفترة، ونجحت في الحد من خطورة الهجوم الحالي".
ويعد الفريق الموالي للنظام السوري ما حدث أقرب إلى "مسرحية" هدفها إحكام الأحزاب الكردية وعلى رأسها الإدارة الذاتية، قبضتها على أحياء سكنية ذات غالبية من العشائر العربية وتغيير ديمغرافيتها، وإيجاد ذرائع لقوى التحالف بالبقاء في سوريا تحت مسمى "عودة داعش مجدداً إلى سوريا"، واستنزاف قدرات القوات النظامية التي تتجهز لشن حملة نحو شرق البلاد للسيطرة عليها، والانقضاض على الفصائل الإيرانية التي يتنامى حضورها في البادية وعلى الحدود العراقية.
في المقابل، جددت واشنطن يوم 23 يناير الحالي التزامها بالوقوف إلى جانب شركائها في المنطقة لملاحقة بقايا "داعش" وهزيمة التنظيم عالمياً. وذكر بيان صادر عن الخارجية الأميركية أن "هجوم داعش يؤكد أهمية دعم قوات التحالف من أجل زيادة تأمين مراكز الاحتجاز".
ومع ذلك يقلل مراقبون بالشأن الكردي من احتمالية السيناريو الذي تروج له الموالاة، لأسباب تتعلق بنفوذ الإدارة الذاتية التي تسيطر على الأرض، وفي حال تعاظم حضور وانتشار العناصر المتطرفة فهذا سيقوض من سيطرتها وحلمها في إقامة كيان مستقل لها. في حين ذهب فريق من الأحزاب الكردية أبعد من ذلك، مرجحين الوصول إلى نقطة مماثلة للسيناريو العراقي، كدولة كردستان، إلى جانب سعي النظام العائد من جديد بدعم موسكو، لاستعادة السيطرة على الشمال السوري بشقيه الغربي والشرقي.