هناك اثنتان تحملان اسم العلم نفسه في الأدب الروائي الأوروبي، وتعتبران الشخصيتين النسائيتين الأشهر في هذا الأدب، على ما بينهما من فروقات تجعلهما نقيضتين تماماً إلا بالنسبة إلى ما تنم عنه كل منهما من استقلالية، وكونهما معاً تفتتحان، لكن كل منهما على طريقتها، صعود المرأة في العصور الحديثة، وربما بشكل مبكّر.
صحيح هنا، أن الفرنسية من بينهما، إيما بوفاري، بطلة رواية غوستاف فلوبير "مدام بوفاري" تعتبر الأشهر، وربما بسبب الفضيحة التي كانتها حياتها وتصرفاتها. غير أن الإنجليزية، إيما وودهاوس، تعتبر من ناحيتها الأقوى والأكثر تماسكاً، ما عبر عنه يوماً أحد النقاد الأميركيين بقوله "بعد كل شيء علينا أن لا ننسى أن إيما بوفاري فرنسية، بينما إيما وودهاوس فمن نتاج المجتمع الإنجليزي المحافظ، حتى بالمعنى السياسي الخالص للكلمة".
ويعبر الباحث الإنجليزي باتريك بارندر، عن معنى هذا القول الأخير بتماسك في كتابه "الأمة والرواية" الصادر قبل سنوات مترجماً إلى العربية ضمن مشروع "المركز القومي للترجمة"، الذي كان من أبرز إنجازات الراحل الكبير حديثاً جابر عصفور، إذ يحتسب كاتبة "إيما" في عداد، بل في مقدمة الكاتبات المعبرات في الأدب الإنجليزي عن مفاهيم وسلوكيات "المحافظين الإنجليز" من دون أن تتقصد ذلك.
الأدب والمجتمع الطبقي الإنجليزي
ولئن كان بعض النقد قد وجّه إلى النظريات التي يستعرضها بارندر في هذا الكتاب، الذي يربط فيه الأدب الروائي الإنجليزي بالتطورات الطبقية، التي طاولت المجتمع في هذا البلد خلال القرون الأخيرة، معتبرين إياه يعمل في بعض الأحيان على تحميل الرواية من البعد الأيديولوجي، ما قد يعتبر زائداً على الحد، فإن ما يشفع له هو أنه يعالج في كتابه نتائج ترتبط بنظرية التلقي، لا بنيات يفترضها لدى كتاب النصوص أنفسهم.
ولعل هذا ينطبق أكثر ما ينطبق على عدد من أبرز كتّاب الأدب الروائي الإنجليزي، وفي مقدمتهم جين أوستن نفسها صاحبة "إيما". ففي نهاية المطاف كانت غاية أوستن أن تكتب روايات عن عوالم تعرفها، لا سيما عن نساء قويات ومستقلات تملأن تلك العوالم، وتدور الحكايات من حولهن وحول سلوكهن وسعيهن، ولو في ظاهر الأمور فقط، إلى تمثّل أخلاقية معينة، غالباً ما تسعى إلى رسم صورة تكاد تكون هي نفسها دائماً، لذلك التوزع الطبقي على الطريقة البريطانية المعهودة في تلك الأزمنة الانتقالية التي كان ما يميز هذا البلد فيها توسع حدوده إلى مناطق عديدة من العالم، ما شكّل إمبراطورية سيكون من سماتها خلق ثروات وبدء حلول بورجوازية آتية من التجارة في المستعمرات، ومن خلالها محل أرستقراطية إقطاعية.
البورجوازية وبؤس الأرستقراطية
كانت روايات أوستن تعبّر بالتحديد عن بدء افتقار الأرستقراطية إلى المال، واضطرارها إما إلى مبارحة المدن، لا سيما العاصمة، وإما إلى بيع ما راح يتبقى لها من أراضٍ إلى تلك البورجوازيات التي كانت تبدو أقرب إلى التطفل في صعودها الطبقي، وقد باتت هي المالك الرئيس للمال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان لافتاً في خضم ذلك أن التحوّل الطبقي يجعل حتمياً للنساء اللواتي في عوالم جين أوستن أن يلازمن الأرياف غير البعيدة من لندن أو المدن الكبرى الأخرى، إذ يمتلكن ما ورثنه من أراضٍ وبيوت العائلات القديمة العريقة التي بتن هنّ من يمثلنها وينطقن باسمها، فيعشن فيها في ستر عن العيون المشفقة أو الشامتة يترصدن عرساناً من طبقاتهن نفسها أو من البورجوازيين الجدد من أصحاب المال، ليعشن تلك الانزياحات.
ولئن كان هذا هو بالتحديد الموضوع المشترك بين العدد الأكبر من روايات أوستن ("الحس والعاطفة" أو "الكبرياء والهوى"، وحتى تلك الأخيرة المعنونة "الإقناع" التي ستنشر بعد موت الكاتبة، وقد تتميز بكون اللعبة فيها مقلوبة، بحيث يكون الصاعد على السلم الاجتماعي هنا ذكراً فيما البطلة ابنة بارون من علية القوم)، فإن "إيما" تقدم بطلة ليس همها الأساس أن تتزوج.
بل إن إيما وودهاوس، التي تتشارك كثيراً في عديد من الصفات والاهتمامات مع إلينور داشوود الشخصية الرئيسة في رواية أوستن التي سبقت "إيما" بسنوات قليلة، أي "الحس والعاطفة"، قد لا تختلف عنها إلا في عزوفها عن الزواج، مكتفية على أية حال بلعب دور خاطبة مستعلية، تسعى جهدها لتدبير زيجات سعيدة وموفقة للبنات من أقاربها ومعارفها، مقابل توق إلينور داشوود في الرواية السابقة، إلى الزواج، لكن بشخص محدد تنتظره بصبر وأناة فيما ترصد مواكب المتزوجات تعبر بها وهي تتقدم، نسبياً، في العمر.
شخصية معدلة
ومع ذلك، سنعرف لاحقاً أن إيما ليست صادقة في موقفها. كل ما في الأمر أنها بعدما تيتمت من ناحية أمها تصرّ على العناية بأبيها المريض والساخر، معوّضة بتزويج الأخريات، ليس في موقف تضحية منها لصالحهن، بل عن عناد يسهى عنه كثيرون، باستثناء صهر أختها جورج نايتلي، الذي يكاد يشبه من نواحٍ عديدة ذلك العقيد الشهم الجار في "الحسّ والعاطفة"، الذي يكبرها سناً، ويهتم بها، وسوف ينتهي به الأمر، وهو في ضعف سنها إلى الزواج بها كما حال جار إلينور في الرواية الأخرى.
وعلى هذا تتقاسم إيما وإلينور المصير نفسه، لكن ليس المواقف المعلنة نفسها. بالتالي يبدو لنا وكأن جين أوستن في "إيما" إنما عادت إلى تلك الشخصية الفذة والقوية والعاطفية التي كانت قد ابتدعتها من خلال إلينور في الرواية السابقة في بعد ذاتي لتشتغل الشخصية الجديدة، كي تبدو أكثر قرباً منها بعدما اكتشفت كم أن إلينور تبدو بعيدة عنها.
وكأنما آثرت في الرواية التي ستكون آخر ما نشرت في حياتها أن تصوّر ذاتها بشكل أصدق، وربما بشكل يجعل الرواية مع أنها تنتهي بزواج إيما بعد كل شيء، وربما رغماً عنها مسايرة للتقاليد الاجتماعية، أشبه بوصية من كاتبة سترحل من ناحيتها عن عالمنا عزباء بعدما جعلت من الزواج وتدبيراته همّاً أساسياً في أدبها الروائي.
أعراس للآخرين فقط
ولعل الملاحظة التي تفرض نفسها هنا، بالنسبة إلى مسألة الزواج تحديداً هي أن رواية إيما تفتتح على عرس قد تكون البطلة هي من رتبه، وهو عرس مربيتها السابقة مس تايلور من السيد ويستون. وهذا العرس هو الذي يتركها وحيدة في دارة العائلة في البلدة الريفية المتخيلة هايبري، مع أبيها تعنى به وتمضي وقتها في تدبير الزيجات الأخرى، وأحياناً لبعض صديقاتها وقريباتها، كما أشرنا، لكن من رجال مناسبين كان بعضهم راغباً فيها هي أول الأمر، ومن ذلك مثلاً محاولتها التوفيق بين صديقة جديدة لها كانت قد دعتها للعيش في الدارة كرفيقة لها هي هارييت سميث والسيد إبتون الذي يعمل قسيساً في المنطقة، ويتحلى بأخلاق تثير إعجاب إيما، لكن نايتلي نبهها أنه قد يكون انتهازياً، فإنه بعد رفض إيما له يتوجه إلى منطقة غير بعيدة عائداً منها بعروس محدثة الثراء.
ولاحقاً، حين يأتي إلى تلك المنطقة نفسها شاب من آل تشرشل هو فرانك ابن السيد ويستون تأمل إيما في سرها أن يتقدم إليها، حتى وإن كان نايتلي سينبهها هنا مرة أخرى إلى أن فرانك إنما يحوم حولها من أجل ثروتها. وتكون نتيجة هذا كله أن إيما تتمكن في النهاية من التراجع عن "عزوفها عن الزواج" منتزعة نايتلي من هارييت التي كانت ترغب في سرها أن يتقدم منها هي، بينما في المقابل "تتمرد" هارييت على نصائح إيما، وتقترن بالشاب إبتون الذي كانت قد رفضته أول الأمر بتحريض من إيما.
بطلة أوستن الأكثر ذاتية
قبل أن تشرع جين أوستن في كتابة هذه الرواية، وهي غير دارية أنها ستكون الرواية قبل الأخيرة التي تكتبها كتبت تقول "في روايتي المقبلة سأتخذ بطلة لن يعجب بها أحد سواي". طبعاً، كانت تعني إيما وودهاوس.
فهل تراها كانت تعلم مسبقاً أنها ستعطي البطولة في هذه الرواية لفتاة تشبهها في أخلاقياتها بأكثر مما تشبهها أية بطلة أخرى من بطلات بقية الروايات التي كتبت، معلنة من خلال جمعها في النهاية مع جورج نايتلي عن استحالة عثورها هي شخصياً على رجل يثير إعجابها حقاً ما أبقاها عازبة حتى رحلت عام 1817 عن اثنين وأربعين عاماً، مبررة عزوفها عن الزواج.