تأخذ الدول في الاعتبار مصالحها الوطنية والاعتبارات القائمة على الهُوية عند تحديد توجهاتها في مجال السياسة الخارجية، واتخاذ القرارات بشأن تشكيل التحالفات. بعبارة أخرى، لا تنخرط الدول في علاقات مع دول مختلفة فقط من أجل زيادة قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية، بل تسعى أيضاً إلى الاقتراب من البلدان القريبة منها تاريخياً وثقافياً وأيديولوجياً.
حتى عام 2009، حافظت تركيا على علاقاتها مع إسرائيل، بتأثير عوامل تستند إلى المصلحة والاعتبارات التاريخية على حد سواء. بالطبع، يمكن قراءة العلاقات التركية الإسرائيلية تحت عناوين عديدة، لكني اليوم أريد أن أتطرق إلى هذه العلاقات تحت عنوانين رئيسين: دبلوماسية وبراغماتية.
فبينما حقق موقف أردوغان البراغماتي في العلاقات بين أنقرة وتل أبيب مكاسب لحزب العدالة والتنمية، فقد أفقد الثقة بتركيا لدى الرأي العالمي. وعندما صرّح الرئيس رجب طيب أردوغان بأن "الرئيس الإسرائيلي قد يزور تركيا قريباً" بدأت الأنظار تتوجه إلى العلاقات بين البلدين.
وعلى الرغم من أن تصريح أردوغان قد يبدو مفاجئاً، فإن الجانبين كانا يستعدان له على مدى الأشهر الثلاثة الماضية. ففي الشهر السابق، استضاف الرئيس جاليات يهودية مؤثرة في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل في قصره بأنقرة. وفي أحد هذه اللقاءات، أقامت الجالية اليهودية قداساً في المقر الرئاسي بمحضر من أردوغان أيضاً.
والجمعة الماضية، أجرى وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لبيد، ونظيره التركي، تشاووش أوغلو، مكالمة هاتفية، وإن كانت لفترة وجيزة. وكان هذا أول اتصال رسمي بين وزير الخارجية الإسرائيلي ووزير الخارجية التركي بعد 13 عاماً من القطيعة.
يذكر أن كلمات أردوغان تجاه الرئيس الإسرائيلي، شيمون بيريز، بدافوس في عام 2009 والشهيرة بـ(One minute) تسببت في توتر خطير بين أنقرة وتل أبيب. والمثير للاهتمام أن هذا الحدث كان قد وقع قبل عام واحد من "الربيع العربي".
وعلى الرغم من أن أردوغان صرّح آنذاك بأن ردة فعله لم يكن مخططاً لها، فإن المؤسسة البحثية "سيتا" التي لها تأثير كبير في سياسات حكومة حزب العدالة والتنمية منذ 17 عاماً، لا تقول ذلك.
تصف "سيتا" ردة فعل الرئيس أردوغان في دافوس بأنه "خطوة استراتيجية"، وذلك في تقريرها الذي نشرته بعد هذا الحدث مباشرة تحت عنوان "ذخيرة الخطاب المناهض لتركيا: الاستبداد والعثمانية الجديدة".
إن "سيتا" محقة في وصفها ذلك بـ"خطوة استراتيجية"، لأن الحكومة التركية بعد ذلك حاولت الهيمنة ليس فقط على السياسة الداخلية، لكن أيضاً على الكيانات الإسلامية في الشرق الأوسط.
وبحلول مايو (أيار) 2010، نظم ناشطون، ومعظمهم من الأتراك، رحلة بحرية صرحوا بأنهم يريدون كسر الحصار، الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة، وأنهم يريدون تقديم المساعدات هناك، وجذب انتباه العالم.
في هذه الحادثة، المعروفة أيضاً باسم سفينة (مافي مرمرة) قُتل تسعة مواطنين أتراك على أيدي جنود إسرائيليين. نتيجة لذلك، أصيبت العلاقات التركية الإسرائيلية بجروح بالغة، وخُفضت العلاقات الدبلوماسية إلى مستوى القائم بالأعمال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تماماً مثل "مسرحية دافوس"، كانت هذه أيضاً مسرحية، حتى لو لم يكن بعض النشطاء على علم بها، لأن كل المساعدات التي جُمعت للفلسطينيين حُمّلت على 30 سفينة، لكن الغريب أن السفن تعطلت في اللحظة الأخيرة، حسب التصريحات، وواصلت سفينة (مافي مرمرة) فقط طريقها نحو غزة. وكان من المتوقع أن يكون بعض نواب حزب العدالة والتنمية أيضاً على متن هذه السفينة، لكنهم نزلوا في اللحظة الأخيرة عندما كانت السفينة على وشك مغادرة الميناء. وقد اعترف بهذا عبد الرحمن ديليباك، أحد الكتاب الصحافيين الإسلامويين البارزين والمقربين جداً من أردوغان.
والذين كانوا يتابعون تلك الفترة يتذكرون كيف أن الرئيس أردوغان كان يستخدم لهجة، يُخيل للسامع أنه على وشك إعلان الحرب على إسرائيل.
لكن من الغريب أن أردوغان بعد ذلك، في عام 2016، انتقد حملة (سفينة مافي مرمرة)، التي دعمها أمس، وفاجأ الجميع عندما قال "هل طلبتم الإذن من رئيس الوزراء في ذلك اليوم للذهاب بمثل هذه المساعدة من تركيا، قد كنا بالفعل نقوم بمثل هذه المساعدات؟". والأهم من ذلك، أنه بين عامي 2009 و2015، فاز حزب العدالة والتنمية بسبعة انتخابات ما بين محلية وعامة واستفتاء.
لكن، الغريب أنه على الرغم من هذه "القطيعة الدبلوماسية!"، وحسب بيانات معهد الإحصاء التركي (TUIK)، كان حجم التجارة بين البلدين قبل (مافي مرمرة) نحو ملياري دولار، لكنه يقترب الآن من سبعة مليارات دولار، مما يمكن اعتباره رقماً قياسياً في التجارة بين البلدين.
وعندما تنظر إلى معادلة التجارة والتصدير والاستيراد فهذا في صالح إسرائيل. إذا كنت على شفا حرب مع دولة ما، أليس من المفترض أن تقطع العلاقات ليس فقط سياسياً، لكن أيضاً تجارياً؟
كما قلت في البداية، خسرت تركيا الكثير في السنوات العشر الماضية، لكي يفوز حزب العدالة والتنمية، إذ إن معظم أرباح هذه التجارة البينية تصبّ في جيوب كوادرهم. لكن تركيا تضررت كثيراً بعد تلك الفترة، وبسبب تلك السياسات الهوجاء في علاقاتها الخارجية، فقد كانت أنقرة في قائمة البلدان الأكثر موثوقية في العالم قبل عام 2010.
ولم تكن تركيا تتوجس من إنشاء كيان كردي يتمتع بحكم ذاتي (فعليّ) في سوريا، لكنها الآن تعاني ذلك، بسبب سياستها الخاطئة تجاه الأزمة السورية. إضافة إلى موجات الهجرة إلى تركيا، التي وصلت إلى مستوى يكاد يؤثر في التركيبة السكانية للبلاد.
في تلك الأيام، كنا من أوائل الدول التي جذبت أكبر عدد من المستثمرين في العالم، وكانت تتم الإشادة في كثير من المنابر بالخطوات التي اتخذناها في مجال حقوق الإنسان والتنمية الاجتماعية.
لكن، عندما انحرفت حكومة حزب العدالة والتنمية عن السياسات والاستراتيجيات الليبرالية، وبدأت تتصرّف من منطلقات الأيديولوجية الإسلاموية لم تتخلص البلاد من المشكلات والأزمات والأخطار.
أنا واحد من الذين يعتقدون أن القاعدة الأساسية، وحتى الأولى لدى الإسلامويين هي "البراغماتية". وأرى أن هذا له معنى "التقية" نفسها التي يتبعها النظام الإيراني. ومن الممكن تقييم تحركات أردوغان نحو الشرق الأوسط والخليج أيضاً في الأيام الأخيرة في هذا المنوال.
وبطبيعة الحال، فإن أقوى الأسباب التي دفعت أردوغان إلى اتخاذ منعطف مفاجئ نحو إسرائيل هو الشعور بصعوبة في ترميم العلاقات مع واشنطن، إذ لا تزال علاقاته مع جو بايدن مترنحة بين الرغبة والرهبة، وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها أنقرة فلم يتسنَّ البدء بمرحلة طبيعية.
وبعدما لم يتمكن أردوغان من تحقيق النتيجة التي كان يتوخاها مع شركات اللوبي، التي جرى إنفاق ملايين الدولارات عليها، توجه إلى اليهود كملاذ أخير. وعلينا أن نتابع سير الأحداث لنرى ما إذا كان سينجح هذه المرة أم لا.
أمّا بالنسبة إلى الجانب الدبلوماسي في العلاقات التركية الإسرائيلية، فإني أود أن أتطرق إلى بعض النقاط التي تكاد تخفى على كثير من المتابعين:
منذ الفترة العثمانية حتى عام 1956 لم تواجه الجاليات اليهودية أي مشكلات مع العثمانيين والأتراك، بل طالما دعمت الجاليات اليهودية جميع المواقف والقرارات الدبلوماسية التي اتخذتها الإدارات العثمانية والتركية ضد الدول الغربية.
لهذا السبب، وعلى الرغم من أن تركيا صوّتت بشكل سلبي لصالح خطة الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تقترح تقسيم فلسطين، فإنها أصبحت أول دولة ذات غالبية مسلمة تعترف بإسرائيل في مارس 1949.
وأول أزمة دبلوماسية وقعت بين تركيا وإسرائيل هي التي كانت أثناء الاحتلال الإسرائيلي لمصر عام 1956 بسبب قناة السويس، حيث خفضت تركيا علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل إلى مستوى القائم بالأعمال لأول مرة في هذا التاريخ، وأبقتها على هذا المستوى حتى عام 1980.
وبدأت العلاقات تهدأ بعد انتهاء أزمة قناة السويس وانسحاب إسرائيل من شبه جزيرة سيناء المحتلة.
هذا هو الموقف الدبلوماسي الذي نبحث عنه، لكن أردوغان حجَّم دور الكوادر الدبلوماسية الفعّالة في العلاقات الدولية، حتى تكون له الكلمة الوحيدة في تحديد السياسة الخارجية، وأصبح لا يصغي لأي شخص ولا يثق بأحد.
وهذا بطبيعة الحال أمر خطير جداً، لأن القرارات التي يجري اتخاذها في ظل استبعاد المؤسسات وعدم الاستماع إلى اقتراحاتها ونصائحها لن تكون صحية. إن القرار الشخصي ينطوي على العاطفة، والحال أنه لا مكان للعواطف في السياسة الخارجية، والمصالح الجماعية للبلد لها الأولوية المطلقة.
ومع ذلك، للأسف، اليوم يجري اتخاذ كل القرارات تقريباً من قبل رجل واحد، بما يتوافق تماماً مع المصالح الأيديولوجية لحزب سياسي واحد. لقد تعبتْ تركيا من الموقف البراغماتي لهذه الأيديولوجية الإسلاموية.