تشهد أوكرانيا صراعاً حاداً يذكّر بالصراعات بين الاتحاد السوفياتي والغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى انتهاء الحرب الباردة. وفي ظل عودة روسيا منذ سنوات للعب دور نشط في أزمات الشرق الأوسط، حيث تدخلت الأخيرة في الأزمة الليبية والسورية والملف الإيراني، فقد أصبح الشرق الأوسط جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية روسيا للمسرح الأوسع وطموحاتها العالمية الأوسع. فهل يمكن أن تمتد تداعيات الصراع المشتعل في أوكرانيا بين روسيا من جانب والولايات المتحدة وأوروبا من جانب آخر على الشرق الأوسط؟ وبخاصة الملف النووي الإيراني الذي يعتمد الغرب فيه إلى درجة كبيرة على تعاون روسيا؟
في هذا المقال نحاول الإشارة إلى آخر تطورات الأزمة الأوكرانية التي ما زالت خاضعة للتطورات، ولم تحسم ومرشحة للتصاعد في الفترة المقبلة، ثم نتطرق لطبيعة العلاقة بين روسيا وإيران، ومن ثم نقف على مدى تأثر الملف الإيراني بصراع أوكرانيا.
الصراع الروسي - الغربي
في منتصف ديسمبر (كانون الأول) 2021، أصدرت وزارة الخارجية الروسية مجموعة من المطالب لحلف الناتو، فيها ضمانات بأن أوكرانيا لن تنضم إلى الناتو أبداً، وأن الناتو سيتخلى عن أنشطته العسكرية في أوكرانيا وأوروبا الشرقية والقوقاز وآسيا الوسطى. رفضت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو هذه المطالب، وحذروا روسيا من الانتقام في حال غزو أوكرانيا، بما في ذلك العقوبات الاقتصادية، وقدمت مساعدات أخرى لأوكرانيا، بما فيها الأسلحة الصغيرة والدفاعية.
أخيراً، أصبح الصراع في أوكرانيا يهدد بمزيد من التدهور في العلاقات الأميركية – الروسية، وبتصعيد أكبر إذا وسعت روسيا وجودها في أوكرانيا أو في دول منضمة لحلف الناتو. وقد أثارت تصرفات موسكو مخاوف أوسع بشأن نواياها في أماكن أخرى من أوروبا الشرقية، ومن شأن توغل روسي في إحدى دول الناتو أن يؤدي إلى تصعيد التوترات في علاقات روسيا مع كل من الولايات المتحدة وأوروبا، ما قد يؤدي إلى تعقيد آفاق التعاون في أماكن أخرى، بما في ذلك قضايا الإرهاب والسيطرة على الأسلحة والحل السياسي في سوريا والملف الإيراني.
التوظيف الروسي لإيران
تتعامل موسكو مع إيران على أنها جزء من مشروعها الاستراتيجي لتحدي سيادة واشنطن، لذا فإن العلاقات الروسية - الإيرانية مدفوعة بتداخل وتضارب المصالح، ما يعني أن تلك المصالح دفعتهما إلى التعاون أحياناً، والتنافس أحياناً أخرى. فتولي إيران أهمية للعلاقات مع روسيا، فهي عضو دائم في مجلس الأمن، وطرف رئيس في خطة العمل المشتركة، وأيضاً داعم رئيس في الحرب السورية، كما تعتبر روسيا أن إيران لاعب مهم في مواجهة التنظيمات المتطرفة. وتمتد العلاقات مع روسيا إلى الجوانب الاقتصادية بما يخفف، ولو بدرجة ضئيلة، وطأة انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل المشتركة الشاملة وإعادة فرض العقوبات على إيران، فهناك مشروعات مشتركة في مجالات الغاز الطبيعي، والسكك الحديدية، ومحطات الطاقة. وتُعد روسيا من معارضي خروج الولايات المتحدة من الاتفاق، معلنةً أنها لن تتعاون مع فرض عقوبات أميركية على إيران. ومع ذلك فقد تكون روسيا ضد أي اتفاق أو تقارب بين إيران والولايات المتحدة، فروسيا تريد أن تستخدم طهران ورقةً للحصول على تنازلات من الغرب، وتريد أن تستمر إيران في الاعتماد على نفوذ روسيا السياسي، علماً بأن موسكو المصدر الرئيس للأسلحة التقليدية لإيران، ومورد رئيس لتكنولوجيا الصواريخ. وعلى الرغم من أن روسيا سابقاً التزمت بكل العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على إيران قبل توقيع خطة العمل المشتركة وبعد إتمام الاتفاق مع مجموعة 5+1 رفعت روسيا الحظر المفروض على بيع صواريخ S-300، كما وقعت إيران وروسيا مذكرة تفاهم بشأن التعاون الدفاعي، كما قامت روسيا ببناء وتزويد الوقود لمفاعل الطاقة النووية المدني الإيراني الوحيد في بوشهر.
وفيما يتعلق بالملف السوري، نجد أن عودة روسيا إلى الشرق الأوسط عزز دور إيران في الحرب السورية ليشمل الدور السياسي، فقد لعبت موسكو دوراً رائداً في عملية أستانا، التي وصفها البعض بأنها مسار بديل لعملية جنيف التي كانت ترعاها الولايات المتحدة، التي لا تعد طرفاً في محادثات أستانا بل كل من روسيا وتركيا وإيران، ما يعد اعترافاً بدور إيران كطرف رئيس في حل الأزمة السورية ودمجها في العملية السياسية، لكن هذا التعاون لا يمنع تعارض المصالح بين الطرفين وبروز التوتر من حين لآخر. ويتجلى أهم مؤشرات التوتر بين الطرفين في عدم اعتراض روسيا على قيام إسرائيل بضرب القوات الإيرانية داخل سوريا من حين لآخر. ويتوقع أن تمثل عملية إعادة إعمار سوريا بعد الحرب أهم قضايا التنافس والخلاف بين روسيا وإيران للسيطرة على الاقتصاد السوري، لا سيما في مجالات النفط والطاقة والكهرباء والزراعة. كما لم يمنع ذلك روسيا من تعزيز علاقاتها بخصوم إيران من الدول الخليجية، هذا يجعلنا نعتبر أن سياسة الرئيس فلاديمير بوتين لا تعترف بصداقة أو حلفاء، إنما علاقات مع الجميع لصالح المصالح الروسية فقط.
التأثير على الملف النووي الإيراني
ويستعر الصراع بين روسيا من جانب والولايات المتحدة وأوروبا حول أوكرانيا من جانب آخر، في الوقت الذي بدأت تتواتر فيه تصريحات غربية وإيرانية حول قرب الاتفاق على كثير من النقاط بشأن الاتفاق النووي مع إيران. وعلى الرغم من أنه منذ تعطل مسيرة مباحثات فيينا وقبل الوصول إلى الجولة الثامنة، كانت واشنطن تعتمد على توظيف علاقات روسيا والصين بإيران للضغط عليها في سبيل إتمام الاتفاق واستئناف الجولات. وبشكل عام، كانت الإدارة الأميركية التي أتمت الاتفاق المعروف إعلامياً بالاتفاق النووي، أشركت روسيا في المفاوضات ضمن مجموعة 5+1 من أجل ضمان عدم مناوئة أو عرقلة روسيا للاتفاق. وعلى الرغم من قبول روسيا أن تكون جزءاً من المفاوضات بما يعني زيادة نفوذها العالمي، فإن كل التطورات تشير إلى أن (موسكو) غير مؤيدة بأي حال التقارب بين إيران والغرب. كما لم يمنع روسيا من التهديد بتوظيف إيران، ففي عام 2014 وقبل إتمام الاتفاق النووي وفي أثناء حرب جزيرة القرم، أثار نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف ضجة بتصريح له، هدد فيه بإجراءات انتقامية محتملة بشأن الملف النووي الإيراني، إذا ضغطت واشنطن على موسكو بشأن شبه جزيرة القرم.
ومع اقتراب الاتفاق بين إيران وواشنطن لإحياء الاتفاق مرة أخرى، لا سيما بعد موافقة المرشد الإيراني، أثير التساؤل هل يمكن أن يؤدي التصعيد في أوكرانيا إلى التأثير سلباً على المباحثات الجارية بشأن النووي الإيراني؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نظراً لقدرة موسكو المحتملة على تقويض الدبلوماسية الإيرانية، فربما لدى واشنطن سبب للظن بالتأثير السلبي على موقف إيران، بأن تدفعها روسيا لمزيد من التشدد في التفاوض، لا سيما أن إيران في ظل إبراهيم رئيسي تستهدف تعزيز علاقاتها التجارية والعسكرية مع الصين وروسيا، وليس التوجه غرباً. فهل يمكن أن تدفع روسيا إلى عرقلة المفاوضات بين طهران والغرب، ومن ثم تأزم الأوضاع في الشرق الأوسط والعودة للتصعيد بين إيران ودول المنطقة، بما يؤثر على تدفقات الطاقة والاستقرار في الخليج العربي؟
وهل يتعين على واشنطن أن تزن التكاليف والفوائد الاستراتيجية لموقف قوي من روسيا في صراع أوكرانيا مقابل الملف النووي الإيراني؟ وهل الملف النووي بذات الوزن النسبي وأهمية ما تمثله أوكرانية من تهديد لمصالح الولايات المتحدة وأوروبا؟
هل تسعى روسيا إلى عرقلة الاتفاق النووي ومن ثم استمرار إيران في امتلاك قدرات نووية متقدمة؟ قد يكون الأفضل لبوتين التعايش مع إيران نووية، فعدم امتلاك إيران قدرات نووية قد يكون أمراً هاماً لروسيا، لكنه ليس مسألة وجودية. كما أنه كلما زاد عدم الاستقرار في الشرق الأوسط - وبخاصة منطقة الخليج، التي تسيطر على 20 في المئة من صادرات النفط العالمية، ارتفعت أسعار النفط والغاز في أماكن أخرى، بما في ذلك روسيا، لكن في الوقت ذاته تعتمد الصين أكثر من روسيا على نظام التجارة العالمي، وكانت حريصة على عدم تأييد استيلاء بوتين على شبه جزيرة القرم بشكل كامل، الأمر الذي يتحدى المصالح الصينية، كما تعتمد بكين بشكل خاص على نفط الخليج، وستخسر بقدر ما قد يربحه بوتين من عدم الاستقرار، وما ينتج عنه من ارتفاع أسعار الهيدروكربونات.
في أسوأ السيناريوهات، يمكن لبوتين أن يعمل على أحياء بيع أنظمة دفاع جوي متطورة لإيران (والتي لا تحظرها عقوبات الأمم المتحدة)، والبناء على صفقة محطة بوشهر النووية من خلال منح طهران مزيداً من التكنولوجيا النووية ذات الاستخدام المزدوج.
حسابات المكسب والخسارة
ربما روسيا هي جزء من الاتفاق النووي بين إيران والغرب، لكن الحرب في أوكرانيا تشتد في ظل حاجة إيران لرفع العقوبات لتعزيز علاقاتها الاقتصادية بدول جوارها وروسيا والصين. على الرغم من أن العلاقات بين روسيا وإيران لم تتأثر بإعادة العقوبات الأميركية، ما يعني أنه ليس ذا أهمية أن تظل أو تتم إزالتها بالنسبة لروسيا، بل إن موسكو قد تستفيد أكثر من فشل الاتفاق بين إيران والغرب.
أما بالنسبة لإيران، فإن إعطاء المرشد الإيراني الضوء الأخضر لإتمام الاتفاق و"التعاون مع العدو"، بحسب تصريحه الأخير، يعني أن إيران حسمت أمرها بشأن أحياء الاتفاق. ومن ثم قد يكون الصراع في أوكرانيا فرصة لإيران من أجل زيادة اعتماد أوروبا على الغاز من إيران بعد رفع العقوبات بديلاً للغاز الروسي، لكن يظل التحدي أمام إيران سياسة الاتجاه شرقاً، والتي تعتمد على روسيا ضمن علاقاتها واستيراد الأسلحة منها، فعلى سبيل المثال، ناقش الرئيسان الإيراني والروسي منذ أسبوع إمكانية شراء إيران أسلحة متطورة، خصوصاً أنظمة الدفاع الجوي S-400وطائرات Su-35 المقاتلة من روسيا.
إجمالاً، يعتمد إحياء الاتفاق على حسابات المكسب والخسارة التي تجريها كل من إيران وروسيا والولايات المتحدة، والتي ستبرز خلال الأيام المقبلة، لكن الأمر المؤكد هو أن الصراع في أوكرانيا له تأثيراته الجيوسياسية، والتي ليست بعيدة عن منطقة الشرق الأوسط، وتذكر بتأثيرات الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي على المنطقة.