لم يكن منشئ البيت الشيعي أحمد الجلبي، خريج رياضيات جامعة شيكاغو، زعيم المؤتمر الوطني العراقي المعارض لنظام البعث وحكم الرئيس الأسبق صدام حسين، يتوقع أن يخذله الإخوة الشيعة الخصوم في عدم تمكينه من الفوز بمقعد نيابي واحد في برلمان الخامس عشر من ديسمبر (كانون الأول) 2005، حين عول كثيراً على أن تسند إليه حقيبة وزارية مكافأة لجهوده المضنية، التي بذلها في إسقاط نظام صدام حسين، وحصوله على مقعد في الجمعية الوطنية، معلناً وقتها تأسيس ما يسمى "البيت الشيعي" الصادم للمكونات الأخرى، وهم يرون مأسسة الطائفية علناً، وبعد أن أسس الائتلاف العراقي الموحد.
مؤسس البيت الشيعي وخذلان الأميركان
وكان حين التقيته عام 2012 في بيته ببغداد على هامش القمة العربية هناك مع ثلاثة من نخبة الصحافيين العرب مصدوماً، ويشعر بالأسى مما حدث له من إقصاء متعمد، يعزوه إلى الإدارات الأميركية التي أزاحته عن طريقها، واكتفت بتكليفه برئاسة (الهيئة الوطنية لاجتثاث البعث)، إرضاء لغروره في معاداة النظام السابق الذي أسقطته بجيوشها، وأصبحت الهيئة لاحقاً "المساءلة والعدالة".
قال لنا الجلبي، إنها مرحلة سأكافأ عليها، لأني أجلت انتقام الشعب من البعثيين. ودخلت في سجال طويل معه حول جدوى جهوده التي أسقطت الدولة العراقية، ولم تسقط النظام فحسب.
وكان زعيم البيت الشيعي ومؤسسه مؤمناً ومروجاً لفكرة حكم الأغلبية والشيعة التي تصل كمكون رئيس إلى أكثر من 60 في المئة من عموم السكان في العراق، والذين بلغوا هذا العام ما يربو على 41 مليون نسمة.
البيت الشيعي، الذي رسم الجلبي صورته في مخيلته، كان يظنه أشبه بالبيت الشيعي اللبناني. أهل والدته اللبنانية من بيت عسيران، الأسرة الشيعية النافذة هناك، إذ إن أغلب المراجع والسياسيين الشيعة تصاهروا مع أسر شيعية من لبنان، لا سيما المنحدرون من أسر في جبل عامل، مركز التشيع في لبنان، فهم من أسر بعضها ذات أصول عراقية نجفية وكربلائية.
مات مؤسس البيت الشيعي، أحمد الجلبي، في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وهو نائب في البرلمان العراقي يترأس اللجنة المالية، لكنه قبيل موته أراد أن يقدم ما في جعبته من ملفات ضخمة عن فساد أفراد الطائفة وزعمائها، الذين تحالفوا على تأسيس دولة الفساد غير المسبوق في البلاد، وأقصوا ابن شقيقته سنان الشبيبي من البنك المركزي، بعد رفضه سحب مليارات الدولارات من البنك بطريقة غير قانونية، إبان حكومة المالكي الثانية.
وصرح الجلبي، قبيل موته بأيام، بأن مئات المليارات من الدولارات سرقت أو اختفت، وأنه توصل إلى خيوط استردادها لميزانية الدولة، ونظم حملة واسعة للترويج لذلك المشروع. لكن من دون جدوى ومن دون مواصلة من رفاق رحلته، الذين صمتوا جميعاً، إلا قلة من أتباعه الذين ينادون هنا وهناك بضرورة تفعيل ذلك الملف المالي الضخم والمثير عن سرقات ميزانيات العراق المتعاقبة من قبل زعماء الشيعة وشركائهم في الحكم وإدارة البلاد، التي خلفت فقراً مدقعاً في المحافظات الشيعية التسع، التي شهدت انتفاضة عارمة في ما بعد.
واقع جديد فرض منطق اللادولة
انفرط عقد البيت الشيعي، ليس بسبب موت مؤسسه الجلبي، بل لتراكم الأخطاء والخطايا بحق الدولة، وتحولها إلى دولة ميليشيات، وغياب الديمقراطية التي روج لها العهد الجديد، وسيادة منطق اللادولة، التي صارت هاجساً يومياً لمثقفي البلاد، مع أغلبية سكانية صامتة تخشى مداهمة الميليشيات المبثوثة في جنوب البلاد ووسطها، لا سيما العاصمة بغداد، تنتظر الفرج بإطاحة الترويكا التي كانت وراء واقع تراجع حياتهم.
وتقدم تصدير النفط ليصل إلى ما يزيد على خمسة ملايين برميل، رافقه انشقاق "الائتلاف الوطني الشيعي" الحاكم، كنتيجة حتمية لاحتجاجات أكتوبر 2019، وإسقاط حكومة عادل عبد المهدي، التي خلفت مئات الضحايا من شباب الشيعة في الوسط والجنوب، وقيام جيل شيعي لا يؤمن بتلك التوصيفات والأطر الطائفية، بمهاجمة مدن الجنوب والوسط، بل حتى المدن الشيعية المقدسة في النجف وكربلاء، وحرق قنصليات إيران الدولة الراعية للمذهب الشيعي، كما تصدر ذلك وتثقف باتجاه موالاتها، التي تداعت بعد مقتل الجنرال قاسم سليماني، وتحول ملف العراق إلى "اطلعات"، وليس "الحرس الثوري"، الذي كان يتدخل بصياغة نظام الحكم في العراق وتوجيهه بفاعلية.
انتخابات 2021 وتغير المعادلة
لكن، انتخابات العاشر من أكتوبر 2021 كانت مفصلية في نتائجها، بعد فوز التيار الصدري، وحصوله على الكتلة الأكبر التي ستشكل الحكومة. وعلى الرغم من أن البرلمان المنبثق من تلك الانتخابات يمثل 16 في المئة فقط من مجمل الناخبين، وعلى حد تأكيد منقذ داغر، رئيس المجموعة المستقلة للأبحاث، فإن التغيرات التي أفرزها الاستحقاق مهمة، من خلال رفض الصدر بقاء معادلة الائتلاف الشيعي الذي يحكم توافقياً.
ونادى الصدر بحكومة أغلبية وطنية، وصفها بأنها لا شرقية ولا غربية. كاشفاً فساد الغطاء التوافقي الذي ينادي به ويصر عليه شركاؤه من الشيعة، بما يسمى "الإطار التنسيقي"، المؤلف من ستة تكتلات شيعية، تطالب الصدر بعدم شق "البيت الشيعي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكنه أكد، في خطاب مباشر هذا الأسبوع، حرصه على إبقاء وحدة المكون الشيعي والدفاع عن مصالحه الوطنية بحكومة خدمات توقف فساد السلطة. مشدداً على ضرورة إبعاد نوري المالكي، أمين عام حزب الدعوة، الذي حكم دورتين، عن تلك الحكومة وضرورة ذهابه إلى المعارضة مع من يشاء من الإطار الذي دعاه للدخول معه في الشراكة في حكومة وطنية لا تعتمد الانشطار العرضي (شيعة، وسنة، وأكراداً)، بل هو انشطار طولي، تشارك كل المكونات فيها من دون قبول حكومة توافق يجتمع فيها الصالح مع الفاسد، بحسب رؤية الصدر، الذي اتهمه خصومه بأنه سيملأ السجون بالفاسدين، فحاولوا تعويق إجراءات البرلمان الجديد، وأعلنوا أنهم الأغلبية، بوضع أسماء مستقلين في القائمة التي تقدموا بها، زوراً حين تبرأ هؤلاء من تواقيعهم المزعومة.
الواقع الحالي رشح عنه نزع "التوافقية" السائدة التي حكمت شيعة العراق، ومكنتهم من الاستمرار طيلة 18 عاماً، لكنها على ما يبدو لم تستمر جراء الخلافات المتراكمة التي نتجت لسوء إدارة البلاد، وفوضوية الحكم، واستغلال مزاياه بمنافع شخصية وحزبية، والأثرة التي سادت، حين تحول أعوان النظام إلى أمراء حرب وسياسة، استأثروا بالسلطة والمال العام، إضافة إلى تفرد الإدارات التي تزعمها حكم حزب الدعوة الإسلامي لثلاث دورات وتوليه رابعة لإسلاميي المجلس الأعلى، المتمثل في حكومة عادل عبد المهدي، الذي أخرجته انتفاضة أكتوبر. لكن التيار الصدري قدم رؤية مغايرة للسائد، وتحالف مع كتلتي "تقدم" و"عزم" السنيتين.
بيت سني تقوده الأنبار
ومكن فوز محمد الحلبوسي، رئيساً للبرلمان للمرة الثانية، ليبرز قائداً سنياً شاباً يترأس البرلمان دورتين متتاليتين، إذ اختار التحالف مع الصدر، الأعلى في الأصوات 75 صوتاً، ليكشف عن ترجيح قيام (بيت سني) جديد موحد في الظاهر، قابله بيت شيعي، وآخر كردي.
البيت السني أمامه تحديات كبيرة، أهمها حاجته إلى صفاء المكون من التناقضات الداخلية، وتغليب مصلحة المكون على نزعات الأثرة والاستمالات العاطفية التي يتحكم بها جو قبلي عشائري، وتوزع مناطقياً بين أربع أو خمس محافظات تمتد على مساحات شاسعة من العراق إلى الأنبار مسقط رأس الحلبوسي إلى صلاح الدين والموصل وكركوك وديالى، إضافة إلى بغداد.
والمكون السني يمتاز بحاضنة عربية واسعة، كونه امتداداً طبيعياً وسكانياً للسعودية والأردن وسوريا، وهذا المكون لا تنقصه الموارد الهائلة لينمو، لا سيما حقل الغاز الواعد في عكاز بمحافظة الأنبار، وأنواع نادرة من السيلكا والكبريت وسواها، إضافة إلى تدفق مياه من الفرات نحو المناطق الوسطى والجنوبية، وكذلك أراض زراعية شاسعة، والثروة الحيوانية ومياه جوفية هائلة، ما يجعل المنطقة مهيأة لأداء دور اقتصادي ونمو سريع.
كما يرجح الخبراء أنها تنحو نحو إقليم ينافس كردستان، إذا توافرت الجهود لذلك. ويتيح الدستور العراقي الدائم إنشاء إقليم في ثلاث محافظات. لكن العقبة التي تحول دون إعلانه الزعامات المنشطرة الوعي في هذا الموضوع بين نواب الموصل المحطمة بـ"داعش"، وهيمنة قوى خارجية عليها، وتكريت التي تعاني، كونها مسقط رأس صدام حسين، وتشعر بالعزلة عما يحدث في بغداد، وديالى التي تهيمن عليها الميليشيات، كونها المحافظة الأقرب إلى إيران، وهناك تحول ديموغرافي كبير تعانيه المحافظة، إلا أن الأنبار تمكنت من أن توحد جبهتي "تقدم" بزعامة محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان، و"عزم" بزعامة الشيخ خميس الخنجر، وكلاهما من الأنبار، إذ حصدا أغلب أصوات المكون السني، لأكثر من 60 صوتاً.
البيت الكردي: كثرة الموارد وانقسام أربيل والسليمانية
وهذا "البيت السني" المتشكل، أخيراً، بتحالف الحلبوسي والخنجر يستمد دعماً وتفاهماً من شقيقه البيت الكردي في الشمال، الذي تبلور منذ عام 1990، ونال دعماً دولياً من الغرب بعد حرب 1991، على إثر غزو صدام للكويت، وفرض الغرب منطقة الحضر الدولي، لحمايته من قبل الأميركان وقوات التحالف، مما أتاح له تأمين خيارات بناء تجربة شبه مستقلة عن المركز، لا سيما أن الإقليم كان يأخذ حصة من موارد العراق تقدر بـ13 في المئة من الميزانية العامة في بغداد، طيلة حقبة الحصار التي دامت 13 سنة.
وكان الكرد يرتبون المعارضة العراقية ضد حكومة البعث في بغداد، من خلال عقد ثلاثة مؤتمرات، بدأت في كردستان حتى النمسا عام 1991، ومؤتمر صلاح الدين في أربيل الذي عقد في نوفمبر (تشرين الثاني) 1992، ومؤتمر لندن يومي 14 و15 ديسمبر عام 2002 في العاصمة البريطانية، الذي مهد الطريق لغزو العراق، وإسقاط نظام حكم الرئيس صدام حسين، والتحضير لمرحلة ما بعد السقوط. وكان الكرد الفاعلين في دعم المعارضة الشيعية والأطراف الإسلامية السنية، والتحضير لاستلام السلطة بعد رحيل صدام حسين.
والبيت الكردي يرتكز على الحزبين الرئيسين الديمقراطي الكردستاني (البارتي) بزعامة مسعود بارزاني، وحزب الاتحاد الوطني (اليكتي) بزعامة جلال الطلباني، مع أحزاب أخرى صغيرة مشاركة في ذلك البيت متوافقة أو معارضة، لكنها تتحد حين تتفاوض مع بغداد، لأنها متفقة على حق تقرير مصير الكرد في الاستقلال بالإقليم الممتد على ثلاث محافظات، وعينهم على محافظة رابعة هي كركوك، التي يشترك مع الكرد في السكن العرب والتركمان، وبعض الأقليات، وهي محافظة متنازع عليها، وفق توصيف الدستور في المادة 140، إذ يقول الأكراد، إنها عُربت أثناء حكم نظام البعث، ومن الضرورة استعادتها، وأدخلت حكومة العبادي قوات الجيش العراقي، وطردت محافظها الكردي في الثامن من أكتوبر عام 2017، وهي منطقة رئيسة لإنتاج النفط بمعدل مليون برميل يومياً، وفيها اكتشف أول بئر نفطية عراقية.
نزاعات البيت الكردي لم تتوقف
ويوجه البيت الكردي في كردستان نزاعاً مركباً وخلافات عميقة، ناتجة عن تجربة الحكم السابقة مع أزمة قيادات بين أربيل والسليمانية، إضافة إلى وقوع مناطق الأكراد تحت ثلاثة ظلال سياسية كثيفة: تركيا المهيمنة سياسياً واقتصادياً على أربيل، ودهوك إضافة إلى نينوى، وإيران التي تفرض سيطرتها على السليمانية، كونها على تماس مباشر معها، ووجود كرد إيرانيين يتقاسمون الإقليم بين إيران والسليمانية، مع علاقة تاريخية في دعم إيران لأكراد السليمانية إبان حكم البعث في العراق.
وهناك تاريخ دموي بين الزعامات الكردية في السليمانية مع الزعامات في أربيل، بعد استعانة الرئيس مسعود برزاني العام ببغداد، لوقف تمدد أكراد السليمانية المدعومين من إيران والحيلولة دون اجتياحهم أربيل (هاوليير) من قبل قوات الاتحاد الوطني بزعامة جلال الطلباني.
وهنا لا بد من الإشارة إلى ممانعة الزعامات في السليمانية من استفتاء تقرير المصير، الذي دعا إليه مسعود بارزاني، وإبطال نوايا الاستقلال عن بغداد، وإعلان وشيك للدولة الكردية تحت زعامة بارزاني، الذي ينادي بدولة كردية من الجبل العراقي (3-4 ملايين كردي) حتى جبال إيران، (10- 12 مليون كردي)، وتركيا (20-22 مليون كردي)، وسوريا (2-3 ملايين كردي)، وتمانع تلك الدول نوايا التمرد على نظامها السياسي، وتتعامل مع الكرد بوصفهم مواطنين لديها، ولم يحصلوا على استقلال في إقليم سوى في العراق منذ 1970.
البيت الكردي يتزعمه في رئاسة الإقليم الأسرة البارزانية النافذة التي تقف على تاريخ طويل من النضال، لنيل حقوق الأكراد، التي تعمل على إدارة التفاوض مع بغداد من خلال الحزب الديمقراطي بزعامة مسعود برزاني، الذي حصد 31 مقعداً نيابياً، محتلاً المرتبة الرابعة في تسلسل القوى البرلمانية العراقية الأكبر، قبالة 17 مقعداً للاتحاد الوطني الكردستاني الشريك في البيت الكردي، وحسم الديمقراطي موقفه ليتوافق مع التيار الصدري في إعلان الكتلة الأكبر وتشكيل الحكومة المقبلة.
ظاهرة جديدة في الحياة السياسية العراقية
على الرغم من شيوع ظواهر جديدة في الحياة السياسية العراقية بعد 2003، منها البيوتات السياسية الشائعة التي هي نتاج تشابك عميق بين السلطة والحكم والمال والدعم الدولي والتدخل الإقليمي، فإن نسبة البرلمان الذي أنتجته تلك الظواهر هي مجموع 25 مليون عراقي مؤهل للمشاركة في الانتخابات.
إن نسبة 16 في المئة فقط شاركوا في الانتخابات، بحسب "المستقلة للأبحاث" من أرقام مفوضية الانتخابات المستقلة، وهي جهة معتمدة، ما يشي بأن هناك 84 في المئة من الناخبين يشكلون أغلبية صامتة أو رافضة العملية السياسية في العراق.
وعليه، فإن تمثيل الطوائف والمكونات والإثنيات في الحكم أو في التعبير عن الشعب ما زال منخفضاً، وهي لا تمثل شرعية التمثيل الحقيقي للشعب.