العام الماضي أطلقت الهيئة الوطنية للصحافة رصاصة تخدير الآلام، وعلى ما يبدو أنها تلك التي سبقت رصاصة الرحمة، على عدد من الإصدارات الورقية المسائية في مؤسسات صحافية تملكها الدولة.
نحيب صحافي وعويل إعلامي صاحبا الرصاصة المسكنة لآلام طال أمدها، ولم تعد المسكنات الاعتيادية من تخفيض عدد الأوراق تارة وتقليص حوافز العاملين أخرى، وتنكيس البنيان كله لحين إصدار قرار الإزالة أو حدوث معجزة من السماء تنقذ صحافة مصر الورقية من موتتها الإكلينيكية، أيهما أقرب.
تجاهل التغيير
الأقرب إلى الحقيقة هو أن قرار إيقاف الصحف المسائية مجرد البداية. فثماني مؤسسات صحافية حكومية تصدر نحو 50 مطبوعة ورقية تئن منذ ما يزيد على عقد كامل من أوجاع رفض أو تجاهل أو تأجيل التحديث، والمضي قدماً نحو عصر الصحف الإلكترونية، التي بدأت هي نفسها تعاني آثار زحف الإعلام الجديد بمعناه الأوسع حيث الفيديو محل التقرير، والبث الحي من موقع الحدث بديلاً للخبر العاجل، وتغريدة وتدوينة وصورة وفيديو ملايين المواطنين في موقع الحدث دائماً.
من موقع المشهد الصحافي الورقي المصري الحالي يقول "عم سعيد" (68 سنة) صاحب كشك الجرائد (سابقاً) الحلويات والمشروبات (حالياً) مع الإبقاء على ركن متناهي الصغر لبضع عشرات من الصحف الورقية إن "الجرائد ماتت وشبعت موتاً من زمان".
"زمان" في عُرف "عم سعيد" هو يناير (كانون الأول) عام 2011. قبلها أو بعدها قليلاً". يضيف "بعد ما كان الكشك متخماً بتلال الصحف الحكومية والخاصة والمجلات أشكالاً وأنواعاً، وزبائن يشترون بالعشر جرائد في طريقهم إلى العمل أو للسفر أو حتى لتصفحها أثناء الجلوس في المقهي، اليوم لو بعت عشر صحف أقول إن الإقبال كان كبيراً".
للكبار فقط
إقبال المصريين على شراء الصحف الورقية تدنى كثيراً، ليس فقط بين الشباب ولكن بين كل الفئات العمرية. الفئة العمرية الوحيدة التي ما زال البعض فيها يتمسك بتلابيب شراء صحيفته الورقية، وبعضهم بات يشتريها مرة في الأسبوع، هي الأكبر سناً، بل يمكن القول إن النسبة الضئيلة التي تشتري صحفاً ورقية هم المتقاعدون ومن تعدوا عمر الـ60 سنة، وهي الأجيال التي ولدت ونشأت وتقاعدت في عصر الصحافة الورقية.
قرنان ويزيد
الصحافة الورقية في مصر عمرها يبلغ نحو 222 عاماً، وتحديداً منذ الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801). في توثيق تاريخ الصحافة المصرية يقول أستاذ الآثار الإسلامية وأحد القائمين على مشروع توثيق الصحافة المصرية في مكتبة الإسكندرية خالد عزب في مقال له عن تاريخ الصحافة "إن مصر شهدت طباعة منشورات باللغة العربية ثم صدور صحف في سابقة هي الأولى في الشرق إبان الحملة الفرنسية على مصر، إلا أن الصحف كانت تصدر بالفرنسية لإخبار الجنود الفرنسيين بما يجري في البلاد. ثم صدر (جورنال الخديوي) في عصر والي مصر محمد علي، وكان يحوي تقارير الأقاليم التي تتم طباعتها ليطلع عليها الناظر العام ثم الوالي. وتوالى في عهد الوالي محمد علي صدور عدد من الصحف منها "(الوقائع المصرية) و(الجريدة العسكرية) وغيرهما. على الرغم من أن عهد الوالي عباس الأول شهد انتكاسة للصحافة المصرية الرائدة، إذ أغلق صحفاً وتخلص من مطبعة بولاق التاريخية وأهدى (الوقائع المصرية) لأحد أصدقائه، إلا أنه ظهرت في عهده أول صحيفة شبه أهلية وهي (السلطنة). وعاودت الصحافة المصرية انتعاشها في عهد إسماعيل الذي تولى حكم مصر في عام 1863 فاشترى مطبعة بولاق مجدداً، وصدرت صحف شعبية بعضها استمر والآخر تم إغلاقه خوفاً من أن يثير القلاقل. استمرت الحال نفسها أثناء حكم محمد توفيق الذي تأرجح بين السماح للصحافة بقدر من الحرية وإغلاقها إن لزم الأمر، وقد لزم كثيراً حتى تحول إلى قاعدة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يضيف عزب، "أن صحفاً ساخرة عدة صدرت أثناء الاحتلال البريطاني لمصر مثل (أبو زمارة) و(أبو صفارة) و(أبو نظارة)، والأخيرة أصدرها يعقوب صنوع. وكان لهجرة الشوام إلى مصر أثر كبير في انتعاش الصحافة، ويكفي أن الأخوين اللبنانيين سليم وبشارة تقلا أسسا جريدة الأهرام المصرية في عام 1875. وتواتر إنشاء صحف ومجلات عدة، بينها "الهلال" التي أسسها جورجي زيدان وغيرها كثير".
تحويل ملكيات
لكن الكثير أيضاً حدث على مدار العصر الذهبي للصحافة الورقية في مصر. في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، صدر في عهده قرار بتحويل ملكية مؤسسات الأهرام وأخبار اليوم وروز اليوسف والهلال لـ(الاتحاد القومي) الذي أصبح الجهة الوحيدة المنوط بها السماح ومنع إصدار الصحف، وعلى الرغم من ذلك حظيت الصحف باهتمام واحترام المجتمع كله بما في ذلك من كانوا لا يقرأون أو يكتبون ولكن يعتمدون على غيرهم لقراءة محتوى الصحف. وظل المصريون يقبلون على الصحف وينظرون لصانعيها بعين ملؤها الإجلال والتقدير باعتبارهم المصدر الوحيد للخبر والتحليل والمعرفة في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات الذي اصطدم بالصحافيين كثيراً، على الرغم من عمله صحافياً لسنوات. وشهد عهده ما يعرف بـ(الصحف الحزبية) مثل (الوفد) و(الشعب) و(الأهالي) و(الأحرار) في النصف الثاني من السبعينيات، إضافة لعدد من الصحف الإسلامية الإخوانية. ووصل الصدام أقصاه في أعقاب معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، حيث علت أصوات المعارضة، ما أدى إلى إغلاق عديد من الصحف واعتقال أعداد كبيرة من صحافيي التيارين اليساري والإسلامي. وجاء عصر الرئيس السابق الراحل محمد حسني مبارك ليحمل هوامش أوسع للصحافة وتوسعاً كبيراً في السنوات الأخيرة لحكمه في الصحافة الخاصة وامتداد هامش المعارضة التي وصلت درجة غير مسبوقة، لكن لم يخل الأمر كذلك من مناوشات إغلاق هنا أو تضييقات أمنية على صحافيين هناك. وسطع نجم الصحف الخاصة على حساب الحكومية التي حاولت جاهدة اللحاق بالخاصة فشهدت هوامش أوسع للحرية المحسوبة".
تقلبات يناير
لكن ما لم يكن في الحسبان هو التحول الصحافي الكبير الذي أتت به أو ربما أتي بها أحداث يناير عام 2011. أستاذة الإعلام في الجامعة الأميركية في القاهرة رشا عبدالله تقول في ورقة عنوانها "الإعلام المصري في خضم الثورة" (2014) نشرها "مركز مالكولم كير- كارنيغي للشرق الأوسط"، "إن شبكات التواصل الاجتماعي لعبت دوراً رئيساً في ثورة 25 يناير. ووفرت هذه الوسيلة طرقاً جديدة للتعبير عن الآراء الانتقادية، وتحدت المؤسسات الإعلامية القائمة، ونظمت الأنشطة المناهضة للحكومة". وتضيف، "أن شبكات التواصل الاجتماعي مستمرة في توفير منبر للآراء المهمشة على الرغم من أنها تعاني حالة من الاستقطاب هي الأخرى".
وبعيداً عن الاستقطاب الغارق فيه الجميع، فإن بث قبلة الحياة في الصحافة الورقية في مصر أمر مستبعد تماماً. فارتفاع كلفة الطباعة، وعزوف القارئ الذي تحول إلى "مشاهد" عن شرائها، وميل من تبقى محافطاً على عهد القراءة إلى نظيرتها الإلكترونية، يدفع بالصحافة الورقية في مصر إلى مرحلة الإحالة للتقاعد التام.
على قيد الحياة
وعلى الرغم من أن ما تتعرض له الصحافة الورقية في مصر هو السائد في العالم، فإن الفارق الأكبر هو أن المكاشفة في مصر تأخرت كثيراً، تارة لأن الصحف الحكومية ظلت تحظى بدعم مالي أبقاها على قيد الحياة فترة تعد طويلة، وتارة لأن الصحف الخاصة تقاعست أو تأخرت أو تعثرت في طريق التحول للعصر الرقمي لأسباب تتراوح بين عقد من القلاقل السياسية ثم التحولات الجذرية وأخيراً الوباء ومتحوراته وآثاره الاقتصادية والاجتماعية.
سيناريوهات ثلاثة
ثلاثة سيناريوهات لما ستؤول إليه الصحافة الورقية المصرية وضعها مدرس الصحافة في جامعة 6 أكتوبر أحمد عبد المجيد في بحث عنوانه "مستقبل الصحافة المصرية في ظل تقنيات صحافة الذكاء الصطناعي (من 2021 إلى 2030).
السيناريو الأول تفاؤلي ويفترض حدوث نمو وازدهار كمي ونوعي للصحافة المصرية في ظل تقنيات صحافة الذكاء الاصطناعية التي ستخلق ثورة في صناعة الإعلام، حيث لا حدود جغرافية أو قانونية أو قيوداً تضعها الدولة على حرية نقل الأخبار وتداول المعلومات. وفي هذا السيناريو تكون المنافسة ساخنة جداً، والبقاء لمن يقتنص الفرصة ويتمكن من امتلاك أدوات التقنيات الحديثة ومهارات إدماجها إعلامياً.
أما السيناريو الثاني فهو الثبات، حيث تظل الصحافة المصرية صامدة بشكلها التقليدي أمام التطورات التكنولوجية دون الالتفات الكافي إلى تدريب الصحافيين على التقنيات الجديدة أو مواكبة التغيرات الإعلامية الكبرى الحادثة عالمياً، مع الاكتفاء بالاعتماد على سبل الحماية الحكومية للبقاء على قيد الحياة.
أما السيناريو الثالث فهو المتشائم، حيث تشهد الصحافة تدهوراً في الشكل والمحتوى ويصبح المضمون هشاً، إضافة إلى عزوف الجمهور، وانصراف الصحافيين الماهرين إلى مجالات أو منصات أخرى.